10 مايو 2025

حين اختبأ التاج تحت العمامة: عودة الإمبراطورية الساسانية من باب التشيّع

 ثمّة شعور مُرّ يطغى حين نتأمّل في الطريقة التي لا تموت بها الإمبراطوريات، بل تختبئ في طيّات العقائد كما تختبئ الأفاعي في شقوق الصخور. ذاك أنّ الهزيمة، على عكس ما يتوهّم البعض، لا تقتل الأمم بقدر ما تُخفيها مؤقتاً في كهوف الرموز والأساطير، في انتظار اللحظة المواتية للانبعاث. هكذا فعلت فارس بعد القادسية، إذ لم تكن الهزيمة مجرد انكسار عسكريّ، بل خيبة حضاريّة عميقة تعدّت حدود المعقول. لكنّها، وكما يتبيّن اليوم، لم تمُت إطلاقًا، بل انتظرت في الظلّ قرونًا طويلة، حتى وجدت في التشيع خيمة لجوءٍ سياسيّ وعباءة دينية أنيقة تُخفي تحتها نيران زرادشت وتُعيد ترتيب ذاكرة الخلود الإمبراطوريّ على نحو مؤثر. في هذا السياق، لم يأتِ التشيع إلى إيران كما يُردّد البعض، بل عادت إيران القديمة من خلاله، مُتخفّية وراء أقنعة فقهية وشعائر دينية تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن أيّ هاجس قوميّ أو إمبراطوريّ.
‏حين سقطت الدولة الساسانية أمام جيوش الفتح الإسلاميّ، ظنّ العرب، في سذاجة تاريخية مفهومة، أنهم "أسقطوا المجوسية" نهائياً؛ ولم يدركوا أنهم بذلك حرّكوا في عمق الوعي الفارسيّ جرحًا غائرًا اسمه "الهوية المكسورة". والحال أنّ الزرادشتية لم تنتهِ كمعتقد دينيّ فحسب، بل كحلم قوميّ عريق، وتحوّلت من ديانة إمبراطورية مُمتدّة الأطراف إلى أُسطورة دفينة تحت الرماد: تنتظر من يبعثها. لكنّ الفرس، وهنا يكمن سرّ بقائهم كأمّة، لم ينسوا أبداً. احتفظوا بلغتهم الفارسية رغم هيمنة العربية، وبطقوسهم القديمة رغم انتشار الإسلام، وبكبرياءهم الحضاريّ رغم الهزيمة المُذلّة. وظلوا، على مدى قرون، يبحثون عن طريقة ماكرة تعيدهم إلى مركز الرواية التاريخية التي شعروا أنها سُلبت منهم عنوة. فكان التشيع، بأبعاده اللاهوتية الغامضة وطبيعته الاحتجاجية المُركّبة، هو الجسر الذي يحتاجونه للعبور من الهزيمة إلى الانبعاث: من المجوسية المُحرّمة إلى التشيع المقبول إسلامياً.
‏من يقرأ التشيع الاثني عشريّ بنظرة أنثروبولوجية متفحّصة، لا بحماسة المُعتقد أو عداء المخالف، سيكتشف أنه ليس مجرد مذهب دينيّ معادٍ لأهل السنّة، بل بناءٌ كهنوتيّ سلطويّ محكم لا يختلف في جوهره كثيراً عن البنية الساسانية المتوارثة. ففي الزرادشتية، كان الملك ظلّ الإله على الأرض؛ مُقدّساً لا يُمسّ ولا يُراجع. وفي التشيع، صار الإمام هو المعصوم الذي لا يأتيه الباطل: المحدّث الذي يُوحى إليه، النورانيّ الذي يتجاوز حدود البشرية العادية. ألا يُذكّرنا هذا بـ"فرّ إيزدي" الساسانيّ، ذاك النور الإلهيّ الذي كان يحلّ في الملوك؟ بل إنّ فكرة المخلّص، التي تتكرّر في كلا التقليدين بإلحاح لافت، تكاد تكون نسخة طبق الأصل: في الزرادشتية، هناك "سوشيانت" المخلّص القادم، وفي التشيع، المهدي المنتظر. وكأنّ زرادشت وضع البنية العامة، ومقولاتهم المنسوبة إلى الإمام جعفر الصادق ألبسوها جبّة فقهية عربية-إسلامية أنيقة.
‏غير أنّ هذا التحوّل لم يكن مجرد عملية فكرية مُجرّدة، بل ارتكز على عملية أسطرة تاريخية بارعة. في هذا السياق، تكتسب قصة "شَهربانو" أهمية رمزية لا يمكن الاستهانة بها. تروي بعض المصادر الشيعية المتأخرة — ظهرت في القرن التاسع الميلاديّ في أعمال الكليني وابن بابويه — أن "الإمام" الحسين تزوّج من شَهربانو، ابنة آخر ملوك فارس، يزدجرد الثالث. لكنّ هذه الرواية لم ترد في المصادر التاريخية المبكرة، مما يثير تساؤلات حول صحتها التاريخية. بالمقابل، تشير مصادر أقدم، مثل كتابات ابن سعد وابن قتيبة، إلى أن والدة الإمام زين العابدين كانت جارية من منطقة السند تُدعى غزالة أو سلافة، دون أي إشارة إلى نسب ملكي فارسي. يُعتقد أن قصة شَهربانو قد اختُرعت لاحقاً لأسباب رمزية بحتة؛ بهدف ربط النسب العلوي بالمجد الساساني، مما يُضفي شرعية قومية إضافية على التشيع في إيران. ذاك أنّ المهدي المنتظر، وفق هذه الأسطورة المُصنّعة بعناية، صار يحمل دماً نبوياً عربياً من جهة الأب، ودماً ساسانياً فارسياً من جهة الأم. وكأنّ فارس القديمة لم تمت في معركة نهاوند، بل اختبأت في صلب الحسين: تنتظر القيامة. هذا التزاوج الرمزيّ المُتخيّل بين آل البيت وآل كسرى لم يكن مجرد صدفة تاريخية، بل مشروعاً واعياً لإعادة تعريف النسب على نحو يخدم أجندة قومية مُقنّعة: من أبناء الهزيمة المُذلّة إلى ورثة المجدين معاً، العربيّ والفارسيّ.
لكنّ الانبعاث الحقيقيّ لفارس من رماد الهزيمة حدث مع قيام الدولة الصفوية في مطلع القرن السادس عشر. حين قرر إسماعيل الصفويّ أن يجعل التشيع الاثني عشريّ مذهباً رسمياً للدولة، لم يكن مجرد فقيه ورع يبحث عن النجاة في الآخرة، بل سياسيّ ماكر يبحث عن هوية متميّزة لدولته الناشئة. والسبب واضح: كانت الدولة العثمانية السنّية المُتنامية تتربّص بإيران شرقاً وغرباً، وكان العرب السنّة في العراق والخليج يرون إيران محض غنيمة حرب جاهزة للاقتطاف. في هذا المشهد الجيوسياسيّ المعقّد، اختار الصفويون التشيع، لا لأنه ضرورة فقهية عالية، بل لأنه شكّل انفصالاً حضارياً عن الأكثرية السنّية المحيطة. وإذا كانت الدولة الأموية قد استخدمت الإسلام لتثبيت السيطرة العربية؛  فإنّ الدولة الصفوية أضفت على هذا الاستخدام بُعداً قومياً واضحاً من خلال تحويل التشيع إلى هوية فارسية مميّزة. وكان هذا الاختيار، في عمقه، انبعاثاً فارسياً تحت قناع دينيّ. وبين سبّ الصحابة، وتمجيد الأئمة، وفرض الخطبة الشيعية على المساجد، ومسيرات عاشوراء، والتطبير، ظهرت ملامح هوية جديدة متماسكة: إيران الشيعية، لا بصفتها مجرد دولة دينية عادية، بل بكونها استمراراً سرياً لإمبراطورية ساسانية منهزمة وُئدت بالسيف لكنها لم تمت في الوعي.
‏بيد أنّ هذا التحوّل الصفويّ لم يكن ليُكتب له النجاح لولا الدور الحاسم الذي لعبه علماء جبل عامل اللبنانيّ؛ الذين كانوا آنذاك خزّانًا فقهيًا شيعيًا في قلب الشرق العربي. بعد إعلان التشيع مذهبًا رسميًا، استقدم الصفويون المحقق علي بن الحسين الكركي، أحد أبرز فقهاء جبل عامل وأكثرهم دهاءً وتأثيرًا. لم يكن الكركي فقيهًا عاديًا، بل سرعان ما تقلّد منصب "شيخ الإسلام" في الدولة الصفوية، وصار المرجع الأعلى للسلطة الدينية فيها: بسلطة تنفيذية تتجاوز حتى سلطات الوزراء. وبتأثير الكركي، تدفّقت قوافل الفقهاء العامليين إلى إيران؛ ليؤدّوا دورًا مزدوجًا: نشر المذهب، وتعريبه فقهًا، وتفريسه ثقافة وشعائر. من هؤلاء نذكر حسين بن عبد الصمد الجباعي، والد الشيخ البهائي، الذي سيُصبح لاحقًا أحد أعمدة الثقافة الصفوية، و كمال الدين محمد العاملي، وغيرهم من فقهاء القرن العاشر الهجري الذين أسّسوا الحوزات وأعادوا تدوير الذاكرة الشيعية بلغة أكثر انسجامًا مع الهوية الفارسية الجديدة. أما محمد بن الحسن الحر العاملي، صاحب "وسائل الشيعة"، فقد وُلد في القرن الحادي عشر الهجري، وهاجر لاحقًا إلى إيران في عهد الصفويين المتأخرين: مؤسسًا لموجة فقهية لاحقة في الحوزة. هكذا، وجدت الدولة الصفوية في علماء جبل عامل "عمّال فكر" من الطراز الرفيع؛ سلّموها مفاتيح الشرعية الدينية، وشرّعوا لها التشيع كمذهب رسميّ يعيد رسم الخريطة الحضارية من الداخل. لكن المفارقة الكبرى، أن المشروع الذي حملوه — في جوهره — عربيٌ علويُّ النشأة، انتهى؛ وقد ارتدى قفطان كسرى: وأضفى على العمامة السوداء مسحة من تاج قديم لم يمت بعد.
‏في هذا السياق، تبدو ظاهرة "أسلمة" الأعياد الفارسية القديمة معبّرة عن هذا المشروع الحضاريّ المُقنّع. في الزرادشتية، كان عيد النوروز مُقدّساً؛ يُمثّل بداية الخلق وانتصار النور الخالد على الظلام. في التشيع الإيرانيّ، تمّت "أسلمة" النوروز على نحو مُتقن: إلصاق أحاديث ملفّقة به، وربطه بأيام الفتح المقدّسة وعهد الإمام المهدي الموعود. بل إنّ بعض المرويّات الشيعية جعلت النوروز اليوم الذي سيعود فيه الإمام المهدي لينشر العدل في الأرض؛ وكأنّ عودة الإمام هي، في عمقها، عودة مجد فارس المفقود. أمّا عاشوراء، التي تحوّلت إلى شعيرة مركزية في التشيع، فلم تعد مجرد ذكرى لمقتل الحسين في كربلاء، بل تحوّلت، في الوعي الشعبيّ الإيرانيّ، إلى ملحمة قومية تشبه في عمقها مآتم يزدجرد الذي قُتل غدراً. في هذه الرواية المُعاد صياغتها: صار الحسين رمزاً لكسرى المقتول؛ ويزيد بن معاوية رمزاً لعمر بن الخطاب الذي دمّر الإمبراطورية. والحداد الجماعيّ على آل البيت هو، في أحد وجوهه المُضمرة، حداد عميق على فارس القديمة التي سُلبت عزّتها.
ولعلّ قصة سلمان الفارسيّ تُلخّص، بطريقة غير مقصودة، جوهر هذه العملية الحضارية المعقّدة. كان سلمان جسراً لغوياً ورمزياً بين عالم النبوة العربية ومدائن كسرى الفارسية. لم يأتِ من قريش أو من القبائل العربية المعروفة، بل من عاصمة الإمبراطورية الساسانية. وقد اختطفه التشيع لاحقاً: جعله شعاراً للولاء الفارسيّ لأهل البيت. لكنه، في العمق الأنثروبولوجيّ، بقي رمزاً للمصالحة الكبرى المُتخيّلة: إمكانية أن تعود فارس إلى مجدها السابق، لا بسيف الحرب، بل بقوة الحبّ ومزاعم الانتماء للإسلام الصحيح. في قصة سلمان، كما يرويها خيال التشيع الإيرانيّ؛ تجتمع الهوية الفارسية مع الدين الإسلاميّ في تناغم مثاليّ؛ وتُطمس تناقضات التاريخ في حكاية عشق صوفيّة.
هكذا نصل إلى واقع معقّد ومُقلق في آن. لكنّ السؤال الذي يبقى مُعلّقاً في الهواء، ولا أحد يجرؤ على طرحه بصراحة كافية، هو: هل التشيع في إيران اليوم حبٌ لعليّ، أم حنين مكبوت لكسرى؟ هل المهدي المنتظر هو ابن فاطمة بنت النبيّ، أم حفيد شهربانو بنت يزدجرد؟ هل المظاهرات التي تهتف "يا حسين" في شوارع طهران تُحيي ذكرى معركة كربلاء، أم تتوق سرّاً لإحياء معابد النار في برسبوليس؟
‏الحقيقة المُرّة التي يفرّ منها الكثيرون هي أننا أمام مأساة تاريخية مُعقّدة. لقد خُيّل إلينا أن التاريخ انتهى في معركة القادسية ومابعدها، وأنّ الحضارة الساسانية دُفنت نهائياً في تراب العراق. لكنها، كما اتضح لاحقاً، كانت تكتب فصلاً جديداً من ملحمتها في أزقّة قم ومناراتها. عادت فارس، لا بجيش مُدجّج بالسلاح كما حاولت في البداية، بل بمنبر وبمذهب ديني. لا بالمجوسية المُحاربة، بل بتفسير جديد ومُبتدع ومشوه للدين الإسلامي. لعلّ في هذا المشهد ما يُذكّرنا بحيطة العجمي حين يتعامل مع العربيّ: لا مواجهة مباشرة، بل احتواء ماكر وتحويل جذريّ للأدوات من الداخل. فلبست عباءة التشيع الأنيقة، ورفعت راية الثأر المُقدّس لآل البيت، وأرسلت كسرى مُتخفّياً في وجه علي كرم الله وجهه.
‏والنتيجة النهائية لهذه العملية التاريخية الطويلة واضحة للعيان. إنّ الإسلام الشيعيّ في إيران، بعد كلّ هذه القرون من التشكّل والتبلور؛ ليس مجرد مذهب دينيّ عاديّ، بل صار قناع النجاة الأخير لحلم إمبراطوريّ مهزوم. نحن أمام دولة تُعرّف نفسها رسمياً بصفتها "جمهورية إسلامية"؛ لكنها تنبض بقلب فارسيّ قوميّ لا يكفّ عن النبضان. دولة تلبس العمامة السوداء وتحنّ في أعماقها لعزّة الإمبراطورية الضائعة. دولة تُصدّر "الثورة الإسلامية" وهي في عمقها تستعيد أحلام فارس الكبرى. دولة تدّعي الدفاع عن المستضعفين في الأرض، وهي في حقيقة الأمر تُعيد إنتاج الحلم الإمبراطوريّ بوسائل أخرى.
‏فمن يحكم إيران اليوم حقّاً؟ علي بن أبي طالب والأئمة الاثنا عشر؟ أم ظلّ كسرى الذي أبى أن يموت، والذي وجد في التشيع قناع النجاة الأخير؟ الجواب، لمن يتعمّق في حقائق التاريخ وتناقضات الحاضر، بات أوضح مما يتظاهر به الكثيرون: أنهم  يرفعون راية الحسين، لكن التاريخ يهمس: إنها راية كسرى ترفرف من جديد. 

12 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤