“هل تنام ليلاً؟”… سؤال طرحه الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الأمير محمد بن سلمان، وسط حشد من الساسة والمستثمرين والصحافيين العالميين في الرياض. سؤال يبدو بسيطاً، لكنه زلزال في هندسة المعاني الجيوسياسية. ذاك أنّ الشرق الأوسط الجديد – وهذه هي المفارقة الصارخة – لم يعد يُصنع في غرف مُكيّفة بواشنطن، ولا في أروقة البيت الأبيض المرمرية؛ بل في قصور مَن يستبدلون النوم بصناعة الزمن، وفي مخيلات من يحملون وعياً مختلفاً بالسيادة والتاريخ معاً. هكذا، وبجملة عابرة، يُدفن عالم ويولد آخر.
طقس الاستقبال نفسه كان ينقض المألوف في التراتبية الدولية: الأمير محمد كسر البروتوكول – لا تجاوزاً للأعراف، بل إعادة صياغة لها – واستقبل ترامب من عند سلّم الطائرة؛ تدوي في سماء الرياض 21 طلقة احتفالية، وتسبق موكبهما الخيول العربية الأصيلة في الطريق إلى الديوان الملكي. ألا يكفي هذا المشهد لإدراك الفارق بين استقبال مشحون بالمعاني وذاك الاستقبال البارد الذي نالته إدارة بايدن سابقاً؟ أوَليست الرسالة أوضح من أن تحتاج إلى تفسير؟ إنه ليس مجرّد تقليد دبلوماسي، بل تدشين لنظام عالمي جديد، ملخّصه القاطع: مَن يحترم يُحترم.
في خطابه المفصلي، قال ترامب ما لم يجرؤ أيّ رئيس أميركي على قوله من قبل، معلقاً على التطور الهائل في السعودية: “من المهم جداً أن يدرك العالم الأوسع أن هذا التطور العظيم لم يأتِ نتيجة تدخل غربي، ولا من قبل مسؤولين يأتون بطائراتهم الفارهة ليُلقوا محاضرات عن كيفية العيش، وكيف ينبغي لكم أن تديروا شؤونكم الداخلية”. هنا – بالضبط هنا – تكمن المفارقة الكبرى التي نشهدها: أن يأتي نعي “التدخل والفوقية الغربية” من فم رئيس أميركي وفي حضرة وليّ عهد سعودي. بل تابع ترامب متجاوزاً كلّ المحرّمات السياسية والفكرية: “إن أعجوبة الرياض وأبوظبي لم تُبْنَ على أيدي من يسمّون أنفسهم صنّاع أمم، ولا على يد النخب الجديدة أو المنظمات غير الربحية الليبرالية، مثل تلك التي أنفقت تريليونات الدولارات على دول مثل كابول وبغداد”.
أوَليست هذه الكلمات شهادة وفاة معتمدة – بل وصريحة – لفكرة “هدم وبناء الدول” التي شكّلت عقيدة أميركية راسخة لعقود طويلة؟ إنها، بلا شك، لحظة استثنائية في الوعي الغربي: إدراك – وإن جاء متأخراً – أنّ محاولات الغرب لتشكيل المنطقة لم تنتج سوى خراب متعاقب، تتلوه خرافات عن النجاح والتحرير. ولعلّ الجملة الأشد قسوة في خطاب ترامب – والتي تُدفن عادة في هوامش التحليلات الصحافية ومقالات “الخبراء” – هي قوله: “في النهاية، ما يسمّى بصنّاع الأمم دمّروا أكثر مما بنوا، وتدخّلوا في مجتمعات معقدة لم يكونوا حتى يفهمونها. كانوا يقولون لكم كيف تعيشون، بينما هم أنفسهم لا يملكون أدنى فكرة عن إدارة أوطانهم”.
في عمق هذا المشهد، تبرز شخصية ولي العهد السعودي كنموذج لقادة جدد لا يشبهون القوالب المعهودة ولا الصور النمطية. بيد أنّه يشبه – إذا أردنا أن نتعمّق أكثر في قراءة الأنماط التاريخية – شخصيتين من التاريخ الإسلامي لا يُلتفت إليهما كثيراً في تحليلات السياسة المعاصرة: معاوية بن أبي سفيان، ومن بعده عبدالملك بن مروان. الأوّل لم يكن مجرّد مؤسس للدولة الأموية، بل كان مهندساً أعاد رسم “الإمكان السياسي” بعد الفتنة؛ حوّل الصراع المذهبي إلى بناء دولة. والثاني لم يكن مجرّد خليفة، بل كان مؤسساً للمركزية الإدارية وتوحيد العملة والحدود وآليات الحكم. أوَلا يبدو محمد بن سلمان، بإصراره على المركزية والسيادة والتحكّم بالموارد، نسخة معاصرة من هذين النموذجين – لا في تكرار سياقاتهما، بل في استلهام جوهر رؤيتهما؟
والحال أنّ الهندسة السياسية للسعودية الجديدة تستعير، دون أن تُصرّح بذلك صراحةً، نموذج عبدالملك تحديداً: إعادة بناء النظام القبلي للعائلة والمجتمع، وإنشاء نظام فعّال للدولة يقوم على الموازنة بين مصلحةالفرد و الجماعة، وإعادة صياغة مفهوم “المواطنة” بدلاً من “الرعيّة”. وكما جاء في القرآن الكريم: “إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم”، لم تنتظر الرياض الوحي السياسي من واشنطن، بل غيّرت ذاتها، فانقلب السياق بأكمله. ولنتأمّل هنا جملة ترامب المعبّرة: “إن هذا الازدهار والتقدم لم ينبثق من رفضكم لتراثكم، بل من احتضانكم له، ومن تمسّككم بتقاليدكم الوطنية”. ألا نلمح هنا الفارق الجوهري الذي غاب عن فهم الغرب لمنطقتنا لعقود طويلة؟ التحديث لا يعني – وهذا هو بيت القصيد – الانسلاخ من الجذور، بل إعادة قراءتها بعيون معاصرة. المستقبل لا يُصنع بالتخلّي عن الماضي، بل بإعادة تأويله وإطلاق ما فيه من إمكانات كامنة.
دعْنا من النموذج المثاليّ للحظة، ولنتأمّل ما يحدث فعلاً على أرض الواقع: السعودية، التي طالما رُسمت صورتها كتابع للسياسة الأميركية، باتت – وهذا هو المذهل في الأمر – تُملي شروطها على واشنطن. ما الذي يجعل ترامب يقول عن محمد بن سلمان: “أنا أحبّه، إنّه لا ينام، إنّه مذهل”؟ وهل يمكن أن نغفل عبارته الأكثر دلالة: “حقًا، ما فعلتموه أمر لا يُصدّق”؟ ليست هذه – كما قد يظنّ البعض – مجرّد مجاملات دبلوماسية عابرة، بل هي إدراكٌ لواقعٍ جديد، واقع مقلق للنظام العالمي القديم: أنّ العلاقة مع الرياض لم تعد صيغة “النفط مقابل الحماية”، بل معادلة من نوع آخر تماماً: التقنية مقابل النفوذ، الذكاء الاصطناعي مقابل الطاقة، المستقبل مقابل التاريخ.
وعلى ذكر التقنية والمستقبل، أوَليس لافتاً – بل ومدهشاً – أنّ السعودية باتت ترسم حدود عصر ما بعد النفط قبل انتهاء عصر النفط نفسه؟ فمع اتفاقيات الذكاء الاصطناعي التي أبرمتها مع شركة “إنفيديا” وغيرها من عمالقة التقنية، تكون الرياض قد فعلت ما لم تفعله أوروبا كلها: استبقت انتهاء الثروة النفطية باقتصاد المستقبل. ولهذا معنى سياسي غير خافٍ على المتأمّل: من يسبق إلى النفط ينل اللحظة، أمّا من يسبق إلى ما بعد النفط فلا يملك الحاضر فحسب، بل يرث المستقبل بأكمله.
من الرياض، لا من جنيف، رُفعت العقوبات عن دمشق. وأمّا رمزية نجاح الأمير محمد بن سلمان بجمع الرئيس السوري مع الرئيس الأميركي، وفرحته العفوية برفع العقوبات عن سوريا، فهي تحاكي – لمن يقرأ التاريخ بعمق – لحظة تأسيسية أموية، حين ضُمت الشام إلى الحضن العربيّ. ألا تتجاوز هذه اللحظة السياسة اليومية إلى صناعة التاريخ بمعناه العميق؟ أليس هذا – إذا أردنا الدقة – هو الانتصار السعودي الأكبر؟ أن تعيد صياغة الجغرافيا السورية ليس كما يريدها أحد، بل كما تستحق، لكنْ – وهنا يكمن الفارق – مع بصمة سعودية هذه المرّة؟ بلغة أخرى: ليس المهمّ أن تربح الحرب فحسب، بل الأهم – والأصعب بكثير – أن تُملي شروط السلام والمستقبل. وهذا بالضبط ما فعلته الرياض، وما عجزت عنه عواصم أخرى أنفقت دماً ومالاً في تلك الحرب الطاحنة. هذا النوع من تشييد“الخسارة الرابحة” هو بالضبط ما كان يتقنه معاوية: أن تستغل اللحظة العابرة لتربح التاريخ الممتد.
ثمّة عقول استراتيجية طالما نظرت إلى السعودية بوصفها قوّة محافظة تقليدية، تجمع المال وتنفقه، تشتري السلاح ولا تستخدمه إلا نادراً، تُدير العلاقات ولا تصنع التاريخ. بيد أنّ زمننا – وهذا ما يصعب على كثيرين استيعابه – يشهد انقلاباً كاملاً في هذا النموذج: السعودية تصنع التقنية ولا تكتفي بشرائها، تُخطّط للمستقبل ولا تتكيّف معه فحسب، تشكّل التاريخ ولا تستجيب له كما كان الحال في السابق. هذا المثلث الثوري يوم الأمس: سوريا، التقنية، السلطة: يشكّل “ثلاثي هيمنة” جديداً يعيد رسم خارطة المنطقة بأكملها. أوَلم يلخّص ترامب ذلك بقوله: “بناء بلدانهم ذات السيادة، عبر رؤى فريدة، ومصائر يصوغونها بأنفسهم”؟ السيادة، والرؤية، وصناعة المصير: هذا ثالوث جديد يتجاوز – بل وينسف – المفردات التقليدية للعلاقات الدولية في المنطقة المضطربة.
في ختام المشهد، نعيد تأمّل تلك الجملة الدالة التي أطلقها ترامب عن محمد بن سلمان: “لا ينام ليلاً”. النوم فعل بيولوجي يمارسه البشر العاديون، أما السهر فيمارسه من يخطط للأمم. في الليل، حين تهدأ عيون الناس، تُرسم خرائط السيادة. ليس هذا مجرّد وصف عابر لنمط حياة، بل هو – لمن يدقق – استعارة لقوّة تتخطّى الزمن وتتجاوز حدوده. البشر ينامون، أمّا التاريخ فلا ينام. السياسيون العاديون ينامون، أمّا صانعو الزمن – وهنا يكمن الفارق الجوهري – فلا ينامون. ولعلّ هذا هو التمييز الحاسم بين سياسي يدير مرحلة، وقائد يصنع حقبة: الأوّل يأخذ الليل راحة، والثاني يرى في ظلمات الليل ما لا يراه الآخرون في وضح النهار.
حين يصفق الغرب لتحولات الرياض، يعترف ضمناً بأن الزمن لم يعد ملكه وحده. في أرضٍ كانت تُختزل بالخيمة، تُبنى اليوم مراكز بيانات تحتفظ بخرائط الزمن القادم. لقد أصبح الزمن يُصنع من نجد، لا يُستورد من روما.