27 أغسطس 2024

القطيع الرقمي: مهزلة العقل الجمعي في عصر الهاشتاق

 
 لو أن جدي، رحمه الله، قام من قبره ودخل أحد "الكوفي شوبات" الفاخرة في الرياض اليوم، لظن أنه هبط في كوكب غريب. تخيلوه معي: يحدق بذهول في شاب يرتدي الثوب والشماغ، لكن وجهه مدفون في جهاز غريب يشع ضوءاً أزرق. الشاب يصرخ فجأة: "وصلت المليون فولور!"، ثم يعود لضرب الشاشة بأصابعه كأنه يؤدي طقساً سحرياً غريباً.
 
 هذا المشهد، ليس خيالاً. فوفقاً لأحدث الإحصائيات، يقضي السعودي مثلاً في المتوسط 3 ساعات وبضع دقائق يومياً على وسائل التواصل الاجتماعي. وعدد المستخدمين في المملكة ما يعادل 94.30% من السكان! أي أننا أمام ظاهرة "القطيع الرقمي" بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
 
 لنتأمل في آليات تشكل هذا العقل الجمعي الرقمي. إنها أشبه بعملية غسيل دماغ طوعي، تبدأ بالبحث عن القبول والشهرة، وتنتهي بتبني أفكار وآراء لم تكن يوماً جزءاً من نسيجنا الثقافي. 
 
 خذوا مثلاً شاباً سعودياً يغرد بحماسة عن "حقوق النسويين المتطرفة" أو "حرية تغيير الأديان". هل تظنون أنه مقتنع حقاً بهذه الأفكار؟ في البداية، على الأرجح طبعًا: لا. إنه يبحث فقط عن الـ"لايكات" والـ"ريتويتز" من هذا المجتمع. لكن مع مرور الوقت، وبفعل التكرار و"التعزيز" الاجتماعي، يجد نفسه يؤمن فعلياً بهذه الأفكار، دون أن يدرك كيف تحول من مجرد "صائد ترند" إلى "مؤمن حقيقي".
 
 هذه الظاهرة تذكرنا بتجربة آش للمطابقة الشهيرة، حيث أظهرت أن الأفراد مستعدون للتخلي عن آرائهم الصحيحة والانصياع لرأي الأغلبية، حتى لو كان خاطئاً بشكل واضح. 
 
 والآن، تخيلوا هذه التجربة على نطاق 94.30٪ سعودي، كل منهم يحمل في يده جهازاً ذكياً يربطه بهذا "القطيع الرقمي" على مدار الساعة!
 
 ولنتحدث عن دور "المؤثرين" في هذه المهزلة الرقمية. هؤلاء الذين أصبحوا بين عشية وضحاها "قادة رأي" و"مفكرين"، لمجرد أنهم يملكون عدداً كبيراً من المتابعين. أحدهم بالأمس كان يبيع الخضار في "عتيقه"، واليوم يفتي في السياسة والاقتصاد لملايين المتابعين. وأخرى كانت بالأمس "نسوية متطرفة وعانس بالخمسين"، واليوم أصبحت "خبيرة في العلاقات الزوجية" تنصح الملايين بكيفية إدارة حياتهم الشخصية. إنه عصر "الجهل المؤثر"، حيث أصبحت الشهرة معياراً للمصداقية والخبرة.
 
 والآن، دعونا نتحدث عن الآثار الاقتصادية والسياسية لهذا "القطيع الرقمي". في الماضي، كان الوزراء والمسؤولون يهتمون برأي كبار القوم وأهل الحل والعقد. أما اليوم، فأصبحوا يراقبون "الترندات" و"الهاشتاقات" لاتخاذ قراراتهم. رأينا كيف تغيرت سياسات وألغيت قرارات بسبب "هبة تويترية او فيسبوكية" عابرة في عالمنا العربي.
 
 وماذا عن قضايا "الربيع العربي" و"طوفان الأقصى"؟ رأينا كيف تحول الشباب بين ليلة وضحاها إلى "خبراء" في الشؤون السياسية العربية والدولية. بالأمس كانوا يتناقشون حول أفضل مطعم برجر، واليوم يحللون الاستراتيجيات العسكرية لحماس وإسرائيل. النتيجة؟ عواطف جياشة وآراء سطحية تبحث عن اللايكات والريتويتز ، بينما الواقع المرير: أكثر من 150 ألف قتيل وجريح، يغيب عن الأذهان المشغولة بحرب ملاحقة الفلورز.
 
 والأخطر من كل هذا هو تأثير هذه الظاهرة على الصحة النفسية لشبابنا. فقد أظهرت دراسة حديثة أن 12.7% من السعوديين معرضون لخطر الاكتئاب الشديد، و12.4% معرضون لخطر اضطراب القلق العام. وقد ربطت الدراسة هذه المعدلات المقلقة باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي. فهل نحن نربي جيلاً من المكتئبين القلقين، الغارقين في عالم افتراضي لا علاقة له بواقعهم؟ 
 
 ما الحل إذن؟ نحن بحاجة ماسة إلى تطوير ما أسميه "المناعة الفكرية الرقمية". علينا أن نعلم أبناءنا كيف يفكرون، لا ماذا يفكرون. كيف يحللون المعلومات التي تصلهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وكيف يميزون بين الحق والباطل، بين ما يفيدنا وما يضرنا. 
 
 هذا يبدأ من المنزل والمدرسة. على الآباء أن يجلسوا مع أبنائهم ويناقشوا ما يرونه على وسائل التواصل، يعلموهم كيف يسألون الأسئلة الصحيحة: من كتب هذا؟ ما هي مصادره؟ ما هي مصلحته في نشر هذه المعلومة؟ وعلى المدارس أن تدرج مناهج في "التربية الإعلامية الرقمية"، تعلم الطلاب كيفية التعامل النقدي مع المحتوى الرقمي.
 
 إننا نقف اليوم على مفترق طرق خطير. إما أن نستمر في هذا المسار من التقليد الأعمى والانسياق وراء كل "ترند" عابر، فنفقد هويتنا وقيمنا تماماً. أو أن نستيقظ من هذه الغيبوبة الرقمية ونبدأ في بناء نموذج أصيل للتعامل مع العصر الرقمي. نموذج يحافظ على جوهر هويتنا دون أن ينعزل عن العالم.
 
 يقول المثل المحبب لنفسي: "اللي ما يعرف الصقر يشويه". فهل سنعرف كيف نستفيد من التكنولوجيا، أم سنتركها "تشوينا" وتذيب هويتنا في بحر الـ"لايكات" و"الفولورز"؟ الإجابة، بين أيديكم... أو بالأحرى، بين أصابعكم على شاشات هواتفكم.

6 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤