تخيّل؛ ألف وتسعمائة "كمايتي" ينطلقون في شوارع القاهرة، من أصل فوق 106 مليون مصري، يبحثون عن مصر التي ماتت قبل ألفي عام. رقم كبير لحركة صغيرة، لكنّ الأرقام الكبيرة، كالوعود الكبيرة والتماثيل الضخمة، غالباً ما تخفي خلفها فراغاً أكبر. ثمّة في هذا المشهد ما يُذكّر بمن يبحث عن النور في قبر مُظلم، قد يجد بعض البريق على توابيت مُذهّبة، لكن ليس النور الذي يُضيء طريق شعب حيّ.
عندما تُصبح الهويّة... مُومياء مُحنّطة
والحال أنّ ما يعصف بمصر اليوم من صعود خطاب "الكمايتة" - أي القوميّة الفرعونيّة الجديدة - ليس مجرّد حنين رومانسيّ لماضٍ مجيد، بل هندسة رمزيّة خطيرة لهويّة تُقصي وتُقطّع وتُفتّت أكثر ممّا تجمع وتوحّد. إنّه مشروع يُراد له أن يُعيد تعريف المصريّ لا كمواطن له حقوق وعليه واجبات في دولة حديثة، بل ككائن متحفيّ يتكلّم لغة ماتت منذ قرون، ويُنكر كلّ ما جاء بعد رمسيس الثاني، وكأنّ ألفي عام من التاريخ مجرّد خطأ مطبعيّ في كتاب الزمن.
ليست المشكلة، بطبيعة الحال، في أن يفخر المصريّون بحضارتهم الفرعونيّة العريقة، ولا في أن يُقام متحف هنا أو يُنظّم موكب مومياوات هناك. المشكلة تكمن في أنّ هذا التمجيد الفرعونيّ يُروّج له اليوم كبديل شامل لا كجذر تاريخيّ، كمحور وحيد للهويّة لا كطبقة من طبقات حضاريّة متراكمة، كهويّة نقيّة لا كجزء من نسيج مُركّب. وفي هذا التحوّل من التقدير إلى التقديس، ومن الفخر إلى الفاشيّة الثقافيّة، تكمن الكارثة.
مفارقة الكلمة... من الأصدقاء إلى الآلهة الميّتة
بيد أنّ "كِمت" - الاسم القديم لمصر - ليست وليدة اليوم. والمفارقة أنّ الكلمة ذاتها، في تحوّلها اللغويّ عبر القرون، تحمل دلالات متناقضة يا لها من مفارقة دالّة! ففي اللهجة المصريّة المعاصرة، "الكمايتة" تعني مجموعة الأصدقاء الذين يلتقون بانتظام، يتسامرون ويتشاركون أفراحهم وأحزانهم: "إحنا كمايتة بنتقابل كل جمعة عالقهوة". إنّها كلمة دافئة، حميمة، تعكس النسيج الاجتماعيّ المصريّ بتماسكه وترابطه. أمّا في سياقها الأيديولوجيّ الجديد، فتحيل "الكيمتيّة" إلى حركة تسعى لإحياء الديانة المصريّة القديمة، بآلهتها الميّتة وطقوسها المندثرة. يا للمفارقة المُرّة! الكلمة نفسها تحمل معنيين: واحد حيّ نابض بالحياة، وآخر يُحاول بعث الأموات من قبورهم.
عودة من القبر... أم عودة إلى القبر؟
لقد طُرحت القوميّة الفرعونيّة سابقاً في عشرينيّات القرن الماضي، كصرخة تحرّر ضدّ الاستعمار البريطانيّ وكمحاولة لبناء هويّة وطنيّة مستقلّة. لكنّها تراجعت سريعاً، ليس لضعف في بنيتها الفكريّة فحسب، بل لسبب أعمق وأكثر دلالة: المصريّ الحقيقيّ، ذاك الذي يسكن الأحياء الشعبيّة ويركب المواصلات العامّة، كان ينبض بالعربيّة، ويُصلّي بالعربيّة، ويحلم بمصر حيّة نابضة لا بمصر المتحف المُحنّط.
لكنْ ألا يحقّ لنا أن نتساءل، ونحن نشهد هذه العودة المُريبة: لماذا تعود هذه الموجة الآن؟ ولماذا تحظى بدعم شبه رسميّ غير مسبوق؟ ألا يُشير هذا التوقيت إلى أزمة أعمق في تعريف الذات الجماعيّة؟
البهرجة الجوفاء... أو كيف تُلبس الجثّة ثياباً فاخرة
اليوم، تعود "كِمت" من جديد، لكن في ثوب مصقول مُبهر: مواكب أسطوريّة للمومياوات الملكيّة، متاحف بمليارات الجنيهات، ورموز بصريّة تملأ الشوارع والشاشات. غير أنّ هذه العودة تأتي بلا مشروع أخلاقيّ جامع، بلا رؤية اجتماعيّة شاملة، بلا برنامج سياسيّ واضح. إنّها عودة تُشبه من يُلبس جثّة ثياباً فاخرة ويتوقّع منها أن تمشي. ألا يُذكّرنا هذا بمن يُريد أن يُحيي الموتى بالزينة والبهرجة؟
وثمّة ما هو أعمق وأخطر: الحركة الكيمتيّة الحديثة، التي ظهرت في أواخر القرن العشرين، لا تكتفي بالفخر بالتراث، بل تدعو إلى عبادة فعليّة للآلهة المصريّة القديمة - ماعت وأنوبيس وإيزيس الخ- تُريد إحياء طقوس دينيّة اندثرت منذ ألفي عام، وكأنّ التاريخ يمكن أن يسير إلى الوراء، وكأنّ الوعي البشريّ لم يتطوّر منذ عصر الفراعنة. أليس في هذا ضرب من الوهم الجماعيّ؟ أليس في هذا إنكار لحركة التاريخ وسُنن التطوّر؟
البحث عن الشرعيّة... في قبور الأجداد
ذاك أنّ توقيت هذه العودة ليس بريئاً، وليس محض صدفة. فهي تأتي في لحظة تاريخيّة حرجة: بعد فشل مشروع الناصرية السياسيّة في تحقيق وعوده، وبعد سقوط الإسلام السياسيّ من أعلى هرم السلطة، وربّما كردّ فعل انتقاميّ على كليهما. تأتي والنظام يبحث عن شرعيّة جديدة لا تستند إلى صناديق الاقتراع ولا إلى الإنجاز التنمويّ، بل إلى أمجاد غابرة يصعب التحقّق من صحّتها أو قياس فعاليّتها. أليس في هذا اعتراف ضمنيّ بالعجز عن بناء المستقبل؟
وهنا ينبغي أن نضيف: ثمّة ما هو أخطر من البحث عن الشرعيّة في الماضي السحيق. إنّه استخدام هذا الماضي كسلاح إقصائيّ ضدّ الحاضر الحيّ. فحين يُصبح الفرعون مقياساً للوطنيّة، والهرم معياراً للانتماء، نكون قد دخلنا نفقاً مُظلماً من تسييس الذاكرة وعسكرة التاريخ. نكون قد حوّلنا الماضي من مصدر إلهام إلى أداة قمع.
الدولة المُخرجة... أم المُنتجة للمشهد؟
أغلب الظنّ أنّ هناك جهات في الدولة ليست مجرّد متفرّج على هذا المشهد، بل هي المخرج الأساسيّ له، والمُنتج الرئيسيّ لفصوله. ولنراقب مايقال عن افتتاح المتحف الكبير بأبّهة تُنافس عصر الفراعنة ذاته، إلى سياسات التعليم التي تُضخّم الحقبة الفرعونيّة على حساب أربعة عشر قرناً من الحضارة الإسلاميّة وألفي عام من المسيحيّة القبطيّة... كلّها إشارات لا تُخطئها العين إلى تبنٍّ رسميّ مُتسارع للفرعونيّة كهويّة مُهيمنة، بل وحيدة.
التناقض الصارخ... من "القرون الوسطى" إلى عصر الأهرام
والأدهى من هذا كلّه، والأكثر كشفاً للتناقض الصارخ، أنّ الدولة التي تُروّج للفرعونيّة اليوم هي ذاتها التي حاربت "الإخوان" بحجّة أنّهم يُريدون العودة بمصر إلى القرون الوسطى. فكيف يستقيم منطقيّاً محاربة العودة إلى القرن السابع الميلاديّ والدعوة في الوقت نفسه إلى العودة إلى القرن السابع قبل الميلاد؟ أليس في هذا تناقض صارخ يكشف عن غياب مشروع حضاريّ حقيقيّ للمستقبل؟ أليس في هذا اعتراف بأنّ المشكلة ليست في العودة إلى الماضي، بل في أيّ ماضٍ نختار؟
والحال أنّ هذا التوجّه الرسميّ له دوافع مُتشابكة يصعب فصلها: منها ما هو اقتصاديّ يتّصل بجذب السياحة، ومنها ما هو سياسيّ يتعلّق بالبحث عن شرعيّة تتجاوز الأسئلة الليبرالية عن الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، ومنها ما هو ثقافيّ يعكس إحباطاً عميقاً من فشل المشاريع الكبرى التي حملتها النُخب المصريّة طوال قرن. لكنّ الهويّة، يا سادة، لا تُختزل في تمثال مهما بلغت ضخامته، ولا تُباع في معرض مهما كانت فخامته، ولا تُفرض بقرار حكوميّ مهما علت سلطته.
العلم الزائف... أو البحث عن "الجين الفرعونيّ"
لعلّ الأخطر في خطاب "الكمايتة" الجديد أنّه لا يكتفي بتمجيد الماضي الفرعونيّ - وهو حقّ مشروع - بل يسعى إلى إعادة تعريف المصريّ المُعاصر وفق معايير عِرقيّة وجينيّة مُتخيّلة. هنا تحديداً ينقلب الفخر الوطنيّ إلى فاشيّة ثقافيّة لا تختلف كثيراً عن أسوأ ما عرفه التاريخ الحديث. فحين يُختزل المصريّ في جيناته المُفترضة، وحين تُقاس "أصالته" بمدى قُربه الجينيّ من رمسيس أو كليوباترا، وحين يُصبح التحليل الجينيّ معياراً للمواطنة الثقافيّة، فإنّنا ندخل نفقاً مُظلماً من العنصريّة المُقنّعة بالعلم الزائف.
وهنا لا بدّ من وقفة تأمّل: إنّ الحديث عن "النقاء العرقيّ" في بلد كمصر، ملتقى القارّات والحضارات منذ فجر التاريخ، لهو ضرب من الجنون العلميّ قبل أن يكون خطأً سياسيّاً. فأيّ عالِم أنثروبولوجيا جادّ سيُخبرك أنّ مصر كانت دائماً بوتقة انصهار جينيّ وثقافيّ، وأنّ البحث عن "الجين الفرعونيّ النقيّ" يُشبه البحث عن حجر الفلاسفة - مهمّة مستحيلة- لحالمين يرفضون مواجهة الواقع. إنّه وهم خطير يُذكّرنا بأوهام مماثلة قادت شعوباً إلى الكارثة.
المُقصَون من "الجنّة" الفرعونيّة
والأدهى أنّ هذا الخطاب، في سعيه المحموم لـ"تنقية" الهويّة المصريّة، يُقصي الغالبيّة العُظمى من المصريّين الفعليّين. مَن هم هؤلاء المُقصَون؟ إنّهم ببساطة معظم الشعب المصريّ، أولئك الذين يُشكّلون نسيج هذا الوطن الحقيقيّ:
تأمّل معي ذلك الرجل البسيط الذي يستيقظ فجراً على صوت المؤذّن، فيتوضّأ ويُصلّي ركعتين، ثمّ يخرج إلى عمله الشاقّ. يقف في طابور الخبز المدعوم، يتذمّر من الغلاء، يحلم بتعليم أولاده. هذا الرجل لا يعرف من الفراعنة إلّا ما شاهده في أفلام السينما، ولا يحفظ من التاريخ إلّا أسماء الصحابة وقصص الأنبياء. إنّه يقول "ربّنا يبارك فيك" لا "حفظتك الآلهة"، ويُسمّي ابنه "محمد" أو "أحمد" لا "رمسيس" أو "تحتمس". هل هذا الرجل أقلّ مصريّة من دُعاة الفرعونيّة الجُدد؟ هل مصريّته ناقصة لأنّ وعيه تشكّل عبر قرون من الحضارة الإسلاميّة؟
وتلك المرأة التي تجلس في حجرتها الضيّقة، تُعلّم أطفالها سورة الفاتحة، تحكي لهم عن قصّة سيّدنا موسى - نعم، موسى الذي واجه فرعون! - تُردّد "توكّلت على الله" حين تضيق بها الدنيا، و"الحمد لله" حين تنفرج. هذه المرأة لا تعرف "ماعت" إلهة العدالة الفرعونيّة، لكنّها تحفظ "إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان". لا تقرأ "كتاب الموتى"، لكنّها تعرف أنّ "كلّ نفسٍ ذائقة الموت". هل هذه المرأة دخيلة على مصر لأنّها لا تتكلّم الهيروغليفيّة؟ هل عليها أن تتخلّى عن إيمانها لتُثبت انتماءها؟
وذلك القبطيّ الذي يذهب إلى كنيسته كلّ أحد، يُرتّل الألحان بالقبطيّة - آخر ما تبقّى من اللغة المصريّة القديمة الحيّة! - يصوم الصيام الكبير، يحتفل بعيد القيامة. هذا القبطيّ الذي يفخر بأنّ المسيحيّة دخلت مصر على يد القدّيس مرقس، وأنّ كنيسته عمرها ألفا عام، يجد نفسه مُهمّشاً في سرديّة تقفز من الفراعنة إلى الحاضر، متجاهلة عشرين قرناً من التاريخ المسيحيّ المصريّ. يجد هويّته المسيحيّة مُحاصرة بين سرديّة الجين الفرعونيّ من جهة وسرديّة الأغلبيّة المُسلمة من جهة أخرى. أليس هذا القبطيّ مصريّاً أصيلاً؟ أم أنّ مصريّته مشروطة بإنكار مسيحيّته؟
جغرافيا الإقصاء... من النوبة إلى سيناء
وماذا عن أبناء الصعيد والنوبة، الذين حفظوا تقاليد مصر الأصيلة في عاداتهم وأعرافهم؟ ماذا عن قبيلة الهوارة -مثلًا- ذات الأصول الأمازيغيّة التي صارت جزءاً لا يتجزّأ من النسيج المصريّ؟ وماذا عن البدو وقبائل عربيةمثل: جهينة وسليم والرشايدة والبلوي وبلي وحرب وغيرهم في سيناء والصحراء الغربيّة، الذين دافعوا عن تراب مصر بدمائهم في كلّ حرب؟ وماذا عن أبناء الإسكندريّة، مدينة الإسكندر التي صارت أكثر مصريّة من مُدن كثيرة "أصيلة"؟ هل كلّ هؤلاء "دخلاء" لأنّهم لا يحملون "الجين الفرعونيّ" المزعوم؟
يلوح أنّ دُعاة الفرعونيّة الجُدد لم يسألوا أنفسهم سؤالاً بسيطاً لكنّه جوهريّ: ماذا تعني مصر في وجدان المصريّين الفعليّين؟ لو سألت سائق التاكسي، أو بائع الخضار، أو موظّف الحكومة، أو ربّة البيت، أو طالب الجامعة... ماذا تعني لهم مصر؟ لن يُحدّثوك عن "كِمت" أو "تا-مري"، بل عن "أمّ الدنيا"، عن "أرض الكنانة"، عن "مصر المحروسة". لن يستشهدوا بنصوص الأهرام، بل بأبيات أحمد شوقي: "وطني لو شُغلت بالخُلد عنه / نازعتني إليه في الخُلد نفسي". هذا هو الوطن الحيّ في قلوبهم، لا المتحف المُتخيّل في عقول الحالمين.
أناشيد الكراهية... بلغة "علميّة"
والحال أنّ الأمر يتجاوز مجرّد التجاهل أو الإهمال. فخطاب "الكمايتة" الجديد يحمل في طيّاته عنصريّة صريحة وإقصاءً ممنهجاً. دعونا نستمع إلى ما يقولونه، وما يُضمرونه، وما يكشف عن حقيقة مشروعهم:
العروبة؟ "استعمار ثقافيّ بدويّ دخيل". هكذا، بجرّة قلم واحدة، يُلغون أربعة عشر قرناً من الحضارة العربيّة الإسلاميّة في مصر. وكأنّ الأزهر الشريف، منارة العلم لألف عام، مجرّد خطأ تاريخيّ. وكأنّ اللغة العربيّة التي أنتجت نجيب محفوظ وطه حسين ويوسف إدريس مجرّد لكنة أجنبيّة على لسان مصر. ينسون أنّ العربيّة في مصر ليست مجرّد لغة مستوردة، بل لغة تمصّرت وصارت مصريّة حتّى النخاع، بلهجتها الفريدة وتعابيرها المميّزة التي لا يفهمها العرب الآخرون أحياناً! العربيّة المصريّة صارت هويّة في ذاتها، لا مجرّد لغة.
الإسلام؟ "غزو طارئ على مصر الأصيلة، ديانة الصحراء التي قضت على حضارة وادي النيل". ينسون، أو يتناسون في غمرة حماسهم الأعمى، أنّ الإسلام في مصر ليس مجرّد عقيدة دينيّة، بل نسيج اجتماعيّ وثقافيّ متجذّر في كلّ مناحي الحياة. ينسون أنّ القاهرة العربية، بمساجدها وأزقّتها وأسواقها، هي قلب مصر النابض، لا أطلال صامتة. ينسون أنّ الأزهر الشريف كان منارة في العلم والتنوير لقرون، وأنّ علماء مصر المسلمين أسهموا في الحضارة الإنسانيّة بما لا يقلّ عن إسهامات الفراعنة، إن لم يكن أكثر.
عقدة اللون... في بلد أفريقيّ!
وتبلغ العنصريّة ذروتها القبيحة حين يُهاجمون بشراسة لا مثيل لها من يقول إنّ كليوباترا قد تكون سمراء. وكأنّ لون البشرة معيار للحضارة! وكأنّ مصر ليست في قلب أفريقيا! وكأنّ النيل، شريان الحياة المصريّة منذ فجر التاريخ، لا ينبع من قلب القارة السمراء! هذه العنصريّة المقيتة تتناسى أنّ مصر كانت دائماً جسراً بين أفريقيا وآسيا، وأنّ دماء أفريقيّة كثيرة تجري في عروق المصريّين، وأنّ هذا التمازج هو مصدر قوّة لا ضعف. وقد أشار محمد حسنين هيكل في كتابه "خريف الغضب" لعقدة اللون الأسمر في شخصية الرئيس السادات رحمه الله، فالسادات؛ ذاك البطل الأسطوري كان ضحية لهذا الطرح العنصري الفاشي.
الكنيسة القبطيّة؟ "إرث من زمن الاحتلال الرومانيّ والبيزنطيّ". هكذا، بكلّ برود، يختزلون ألفي عام من المسيحيّة المصريّة في مجرّد "احتلال". ينسون أنّ الأقباط هم من حفظوا اللغة المصريّة القديمة في طقوسهم، وأنّهم جسر حيّ بين مصر الفرعونيّة ومصر الحديثة. ينسون أنّ الكنيسة القبطيّة أنجبت قدّيسين وعلماء وفلاسفة وشهداء أثْروا الفكر الإنسانيّ والروحانيّة العالميّة. ينسون أنّ الأقباط شاركوا في كلّ نضالات مصر الوطنيّة، من مقاومة الاستعمار إلى بناء الدولة الحديثة، وأنّ دماءهم امتزجت بدماء إخوانهم المسلمين في كلّ معركة.
التاريخ يُحذّر... من عواقب "النقاء"
لكنْ لنتوقّف هنا قليلاً ونسأل بصدق: أليس في هذا الخطاب الإقصائيّ ما يُذكّرنا بخطابات مشابهة في التاريخ الحديث؟ ألم تبدأ النازيّة بالحديث عن "النقاء العرقيّ الآريّ"؟ ألم تُبرّر الأبارتايد في جنوب أفريقيا بتفوّق عرق على آخر؟ ألم تُشعل كلّ حروب الإبادة العرقيّة بخطابات مماثلة عن الأصالة والنقاء؟ التاريخ يُعلّمنا، لمن يُريد أن يتعلّم، أنّ كلّ خطاب يُقسّم البشر إلى "أصلاء" و"دخلاء" إنّما يُمهّد الطريق للكارثة.
بيد أنّ كلّ خطاب يُقصي بهذا الشكل الفاضح، كلّ أيديولوجيا تُقسّم الشعب إلى "أصلاء" و"دخلاء"، إنّما تُمهّد الطريق ليس لنهضة حضاريّة، بل لفاشيّة ثقافيّة من أسوأ ما يمكن تخيّله. إنّها تُعدّ لفرز طبقيّ-عرقيّ-ثقافيّ خطير، يُهدّد النسيج الاجتماعيّ المصريّ المُترابط عبر القرون، ويُنذر بتمزيق لا يمكن رتقه.
عبقريّة الاستيعاب... سرّ مصر الأبديّ
ذاك أنّ ما يُميّز مصر عبر تاريخها الطويل، وما جعلها تستمرّ حيّة نابضة عبر آلاف السنين، هو قدرتها الفائقة على الاستيعاب والهضم والتمثّل. من الهكسوس إلى الفُرس، ومن اليونان إلى الرومان، ومن العرب إلى الأتراك... كانت مصر دائماً بوتقة انصهار حضاريّ خلّاقة، لا متحف أعراق مُتحجّرة. في كلّ مرحلة، كان المصريّون يأخذون ويُعطون، يتأثّرون ويُؤثّرون، يُضيفون طبقة جديدة إلى بنائهم الحضاريّ دون أن يهدموا ما سبق. هذه هي عبقريّة مصر الحقيقيّة.
ولعلّ من أبلغ الأمثلة على هذه القدرة الاستيعابيّة الفريدة ما حدث مع الفتح العربيّ لمصر. لم يأتِ عمرو بن العاص بجيوش تهدم وتُدمّر، بل جاء بحضارة عربية - إسلامية تُحاور وتتفاعل. المصريّون لم يتخلّوا عن هويّتهم، بل أضافوا إليها بُعداً جديداً أثراها. اللغة القبطيّة لم تختفِ بين عشيّة وضحاها، بل تعايشت مع العربيّة لقرون في تناغم عجيب. المسيحيّون لم يُجبروا على تغيير دينهم، بل ظلّوا جزءاً أصيلاً من النسيج المصريّ، يُشاركون في الحضارة الجديدة ويُثرونها. هذا هو سرّ مصر العظيم: قدرتها على التحوّل دون الانقطاع، على التجدّد دون التنكّر للماضي، على البناء فوق الأساسات دون هدمها.
حكاية رعب... أطفالنا في "مصر كِمت"
تخيّل معي، ولو للحظة واحدة مُرعبة، أن ينجح دُعاة "كِمت" في مشروعهم المجنون. تخيّل مصر تُطبّق رؤيتهم "النقيّة":
تخيّل أن يذهب ابنك إلى المدرسة صباحاً، فيقف في طابور الصباح، يُريد أن يقول "الحمد لله" كما علّمته أمّه منذ نعومة أظفاره، فيُنهره المُدرّس بصرامة: "نحن في مصر الفرعونيّة، قُل: أشكر رع!" تخيّل أن يُمنع من ترديد "بسم الله" قبل الامتحان، لأنّها "ليست من تراثنا الأصيل". تخيّل أن يُجبر على حفظ تراتيل لآلهة ميّتة لا يؤمن بها أحد، بدلاً من الآيات والأدعية التي يحفظها أجداده منذ قرون وتسكن قلوبهم.
تخيّل أن يُسأل ابنك عن مصريّته ليس بلغته التي يتكلّمها، ولا بالأرض التي وُلد فيها، ولا بالثقافة التي نشأ عليها، بل بتحليل جينيّ يُحدّد نسبة "الدم الفرعونيّ" في عروقه. وإن كانت النسبة "غير كافية"، يُصبح مواطناً من الدرجة الثانية، "مصريّاً بالإقامة" لا بالأصالة! تخيّل مجتمعاً يُصنّف أبناؤه وفق معايير عرقيّة وهميّة لا أساس لها من العلم، حيث يحصل "الأنقياء" المزعومون على امتيازات في التعليم والوظائف، بينما يُهمّش "المُهجّنون" ويُحرمون من حقوقهم.
مناهج الإقصاء... تاريخ بلا محمد عبده
تخيّل أن تُصبح المناهج الدراسيّة رحلة طويلة مُملّة في دهاليز المعابد الفرعونيّة، بينما يُختزل تاريخ مصر الإسلاميّة العظيم في صفحة واحدة عن "الغزو العربيّ"، وتاريخها المسيحيّ العريق في هامش صغير عن "الاحتلال البيزنطيّ". تخيّل أن يدرس الأطفال "كتاب الموتى" بدلاً من المُعلّقات السبع، وتراتيل آمون الغامضة بدلاً من أشعار أحمد شوقي الخالدة! تخيّل أن يُحرموا من معرفة إنجازات الحضارة الإسلاميّة المُبهرة في الطبّ والفلك والرياضيّات والفلسفة، وأن يُجهلوا إسهامات علماء مصر العظام في النهضة العلميّة العالميّة.
تخيّل أن يُكتب التاريخ المصريّ الحديث بلا محمد عبده، رائد الإصلاح الدينيّ والفكريّ الذي أضاء طريق النهضة. بلا رفاعة الطهطاويّ، رائد التنوير الذي فتح نوافذ مصر على الحداثة. بلا طه حسين، عميد الأدب العربيّ - نعم، العربيّ! - الذي جعل من اللغة العربيّة جسراً بين الأصالة والمعاصرة. بلا العقّاد والمازنيّ وتوفيق الحكيم وكلّ عمالقة الفكر والأدب. بلا أمّ كلثوم "كوكب الشرق" - أيّ شرق يا تُرى إن لم يكن الشرق العربيّ الذي غنّت له وأطربته؟- كلّ هؤلاء سيُصبحون مجرّد "دخلاء" على الحضارة الفرعونيّة "الأصيلة"، أسماء يجب محوها من الذاكرة!
القاهرة بلا مآذن... والإسكندريّة بلا أجراس
تخيّل أن تُهاجَم رموز الإسلام في مصر - من الإمام الشافعيّ الذي أسّس مذهباً فقهيّاً عالميّاً إلى الشيخ الشعراوي الذي فسّر القرآن للملايين - بوصفهم "غُزاة ثقافيّين". وأن تُمحى معالم القاهرة الإسلاميّة العظيمة، من جامع عمرو بن العاص، أوّل مسجد في أفريقيا، إلى قلعة صلاح الدين الشامخة، لأنّها "ليست من تراثنا"! وأن يُطالب البعض بهدم الأزهر الشريف، وبناء معبد لآمون مكانه! تخيّل القاهرة بلا مآذن تُعانق السماء، الإسكندريّة بلا كنائس تقرع أجراسها، الأقصر بلا أصوات الأذان والترانيم التي امتزجت مع أصداء التاريخ عبر القرون.
تخيّل نشيداً وطنيّاً جديداً لا يذكر اسم الله، لأنّ "الله" كلمة عربيّة دخيلة في نظرهم المريض. نشيد يتحدّث عن رع وأوزوريس وإيزيس، آلهة لا يعرفها 99% من المصريّين، ولا يؤمن بها أحد في هذا الزمان! تخيّل أن يقف الأطفال في المدارس يُنشدون تراتيل فرعونيّة ميّتة لا معنى لها في وجدانهم، بينما قلوبهم تنبض بآيات قرآنيّة حيّة أو بصلوات مسيحيّة عميقة ورثوها عن آبائهم وأجدادهم!
الطبقيّة العرقيّة... طريق إلى الحرب الأهليّة
وتخيّل - وهذا الأسوأ والأفظع - أن تُصبح مصر مُقسّمة طبقيّاً وفق معايير عرقيّة وهميّة لا وجود لها إلّا في عقول المهووسين. طبقة عُليا من "الفراعنة الأنقياء" الذين لا وجود لهم يحتكرون المناصب والثروات، وطبقات دُنيا من "المُهجّنين" و"الدخلاء" - أي معظم الشعب - يُعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية والثالثة. ألا يُذكّرنا هذا بأحلك فصول التاريخ البشريّ؟ ألا يُنذر بحرب أهليّة ثقافيّة تُمزّق النسيج الوطنيّ إلى أشلاء لا يمكن جمعها؟
الأمازيغ أحياء... و"الكمايتة" أموات
أغلب الظنّ أنّ دُعاة الفرعونيّة الجُدد لم يتعلّموا من دروس التاريخ القاسية؛ فالحركة الأمازيغيّة في الجزائر والمغرب، رغم مشروعيّة مطالبها الثقافيّة واللغويّة التي لا يُنكرها منصف، تختلف جذريّاً عن "الكمايتة". الأمازيغ شعب حيّ يتكلّم لغة حيّة، يُطالب بحقوق ثقافيّة ولغويّة معاصرة وواقعيّة. يُريدون أن تُدرّس لغتهم الحيّة في المدارس، أن تُستخدم في الإدارات الحكوميّة، أن تُكتب بها اللافتات في الشوارع. إنّهم يُطالبون بحقوق الأحياء في الحاضر، لا بإحياء الأموات من القبور.
أمّا "الكمايتة" فيُريدون إحياء لغة ميّتة لا يتكلّمها أحد منذ ألفي عام، وعبادة آلهة لا يؤمن بها أحد في عصرنا، وتطبيق شرائع لا يفهمها أحد ولا تصلح لزماننا. الفرق واضح كالشمس في رابعة النهار: الأمازيغيّة مطلب حيّ لشعب حيّ يُريد الاعتراف بوجوده المعاصر، والكمايتة مشروع ميّت لإماتة الأحياء وإنكار الواقع الحيّ.
ردّ فعل مفهوم... لكنّه مُدمّر
لكن لنكن منصفين ولا نُسرف في الإدانة. ثمّة في دعوة "الكمايتة" ما يستحقّ التأمّل والفهم العميق، لا الرفض الأعمى. فهي، في جانب منها على الأقلّ، ردّ فعل مفهوم على إخفاقات متراكمة أصابت الناس باليأس: إخفاق المشروع الناصري في تحقيق النصر والتقدّم الموعودين، إخفاق المشروع الإسلامويّ في بناء دولة العدل والحريّة التي بشّر بها، إخفاق المشروع الليبراليّ في التجذّر في التربة المصريّة وإنتاج نهضة حقيقيّة. وإذ يتراكم الإحباط جيلاً بعد جيل، يبحث البعض عن ملاذ في ماضٍ سحيق، مُتوهّمين أنّ الحلّ يكمن في العودة إلى "الأصل" المُتخيّل، إلى زمن كانت فيه مصر عظيمة بلا منازع.
تاريخ الصراع... ومصر التي تستوعب الجميع
ولعلّ من المفيد هنا أن نتذكّر، ونحن نُحلّل هذه الظاهرة، أنّ هذه ليست المرّة الأولى التي تشهد فيها مصر صراعاً مريراً على الهويّة. ففي عصر الخديوي إسماعيل، دار جدل محتدم حول التحديث والأصالة، بين من يُريد أن تكون مصر "قطعة من أوروبا" ومن يُصرّ على بقائها قلب العالم الإسلاميّ. في عصر الملك فؤاد، تصارعت الرؤى والمشاريع بين دُعاة التغريب الكامل ودُعاة الأصالة المُطلقة. في الخمسينيّات، تنازع الناصريّون والإخوان والليبراليّون على روح مصر ومستقبلها. لكنّ مصر، في كلّ مرّة، كانت تخرج من هذه الصراعات أكثر تماسكاً وأعمق وعياً بذاتها، لأنّها كانت تستوعب الجميع ولا تُقصي أحداً، تأخذ من كلّ تيّار ما يُفيدها وتترك ما يضرّها.
بيد أنّ الحلّ لا يكمن في الهروب إلى الماضي، مهما بدا مُغرياً، بل في مواجهة الحاضر بكلّ تعقيداته وتحدّياته. لا يكمن في إقصاء مكوّنات الهويّة المصريّة الحيّة، بل في إيجاد صيغة جامعة تحتضن الجميع وتُوظّف طاقاتهم. لا يكمن في هدم ما بناه الأجداد عبر القرون من تراكم حضاريّ، بل في البناء عليه وتطويره ليُواكب العصر.
المقوّمات موجودة... والإرادة مفقودة
والحقّ أنّ مصر تملك من المقوّمات ما يُمكّنها، بل يُحتّم عليها، صياغة هويّة حديثة جامعة لا إقصائيّة. فهي تملك إرثاً حضاريّاً متنوّعاً لا يُضاهى في ثرائه وتعدّده، وموقعاً جغرافيّاً فريداً يجعلها ملتقى القارّات والحضارات، وشعباً أثبت عبر التاريخ قدرة فائقة على التكيّف والإبداع والصمود. لكنّ هذه المقوّمات تحتاج إلى من يُحسن توظيفها في مشروع نهضويّ حقيقيّ يستشرف المستقبل، لا في مشروع إقصائيّ وهميّ يهرب إلى الماضي.
وصفة للنجاة... من براثن "كِمت"
فما العمل إذن؟ كيف نيواجه هذا المدّ الفرعونيّ الإقصائيّ قبل أن يستفحل؟ كيف تبنى هويّة مصريّة جامعة لا مُفرّقة، مُوحّدة لا مُقسّمة، حيّة لا ميّتة؟
السرديّة الجامعة... لا الحكاية المبتورة
أوّلاً، علينا أن نكتب سرديّتنا الوطنيّة الجامعة بأنفسنا وبوعي عميق، لا أن نترك الساحة لدُعاة الإقصاء والتطرّف من كلّ الجهات. سرديّة تحتفي بكلّ طبقات الحضارة المصريّة دون استثناء: الفرعونيّة والقبطيّة والإسلاميّة والحديثة. مناهج دراسيّة متوازنة حقّاً تُدرّس الأهرامات وبُناتها العظام، لكن تُدرّس أيضاً الأزهر وعلماءه الأفذاذ، والكنيسة المُعلّقة وقدّيسيها الأبرار. تُدرّس رمسيس الثاني وانتصاراته، لكن تُدرّس أيضاً عمرو بن العاص وفتوحاته وصلاح الدين الأيوبيّ وبطولاته. تُدرّس نفرتيتي وجمالها، لكن تُدرّس أيضاً شجرة الدرّ وذكاءها ونبويّة موسى وجهادها.
مناهج تُعلّم أطفالنا الحقيقة الساطعة: أنّ عظمة مصر لا تكمن في حقبة واحدة، مهما عظُمت وأبهرت، بل في قدرتها الفريدة على التجدّد والاستمرار عبر العصور. أنّ الحضارة الفرعونيّة عظيمة بلا شكّ، لكنّ مصر العربية الإسلاميّة التي أنارت العالم بعلمائها وفقهائها وفلاسفتها ليست أقلّ عظمة. أنّ الأهرامات مدعاة للفخر والاعتزاز، لكنّ الأزهر الذي نشر العلم والمعرفة ليس أقلّ مدعاة للفخر. أنّ معابد الأقصر رائعة في عمارتها، لكنّ كنائس مصر القديمة التي حفظت المسيحيّة وأثرتها في أحلك عصورها ليست أقلّ روعة.
الإعلام الوطنيّ... لا "كُمت تي في"
إعلام وطنيّ حقيقيّ يُبرز كلّ وجوه مصر بلا تمييز: الفرعون والفقيه، الكاهن والفلاّح، المُعلّم الأزهريّ والمُعلّم القبطيّ، الصعيديّ والإسكندرانيّ، النوبيّ والبدويّ. نشيد وطنيّ يجمع ولا يُفرّق، يُوحّد ولا يُقسّم، لا يُقصي اسم الله الذي يؤمن به 95% من المصريّين ويحيون ويموتون عليه، ولا يُنكر قبطيّة الأجراس التي تُقرع منذ ألفي عام وتمتزج مع الأذان في سيمفونيّة مصريّة فريدة.
ثانياً، نحتاج بشكل عاجل إلى تأسيس هيئة وطنيّة للهويّة المصريّة، تضمّ ممثّلين حقيقيّين عن كلّ مكوّنات المجتمع دون إقصاء: الأزهر الشريف بتاريخه العريق، الكنيسة القبطيّة بعراقتها الممتدّة، المثقّفين والمُفكّرين من مختلف التيّارات الفكريّة، المؤرّخين وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا المتخصّصين، الفنّانين والأدباء المبدعين، وممثّلين حقيقيّين عن المجتمع المدنيّ النشط. مهمّة هذه الهيئة الأساسيّة صياغة رؤية جامعة للهويّة المصريّة تُراعي التنوّع وتحتفي به، والإشراف على تنفيذها في المناهج الدراسيّة والإعلام والثقافة والفنون. رؤية تحترم التنوّع كثروة لا كنقمة، تحتفي بالتعدّد كمصدر قوّة لا ضعف.
نظريّة الطبقات... لا خرافة النقاء
وهنا أقترح بقوّة أن تتبنّى هذه الهيئة مبدأ "الطبقات الحضاريّة" الذي يُناسب الحالة المصريّة تماماً، بدلاً من "النقاء الحضاريّ" الوهميّ. أي أن ننظر إلى تاريخ مصر العظيم كطبقات جيولوجيّة متراكمة، كلّ طبقة تُثري التي تليها وتستفيد من التي سبقتها في تناغم بديع. الطبقة الفرعونيّة هي الأساس العميق، نعم، لكنّ البناء الحضاريّ لا يكتمل بالأساس وحده. الطبقات القبطيّة والإسلاميّة والحديثة ضروريّة جميعها لاكتمال البناء الحضاريّ المصريّ وتماسكه.
المؤسّسات الثقافيّة... لا الجوامع الخاوية
ثالثاً، وهذا الأهمّ والأعجل، نحتاج إلى استعادة دور المؤسّسات الثقافيّة الجامعة وتفعيلها. فتراجع دور المجلس الأعلى للثقافة، وضعف المؤسّسات الثقافيّة الرسميّة، وغياب الرؤية الثقافيّة الشاملة، فتح الباب على مصراعيه أمام خطابات التطرّف والإقصاء من كلّ الجهات. نحتاج إلى برنامج ثقافيّ وطنيّ جامع وطموح:
معارض دائمة تعرض كلّ وجوه مصر بفخر واعتزاز، من رمسيس إلى محمد علي، من إخناتون إلى طه حسين، من الأنبا أنطونيوس إلى الإمام الشافعيّ. مراكز ثقافيّة حقيقيّة في كلّ حيّ وقرية تُقدّم رواية مصر الكاملة، لا المبتورة أو المُشوّهة. مسرح وسينما وأدب يُنتج هويّة حيّة نابضة تُواكب العصر، لا يُحنّط الماضي ولا يُقدّسه، بل يستلهمه ويبني عليه.
المهرجانات الجامعة... لا "كرنفال كِمت"
مهرجانات ثقافيّة دوريّة تحتفي بكلّ ألوان الطيف المصريّ الغنيّ: مهرجان للتراث الفرعونيّ بكلّ عظمته، نعم، لكن أيضاً مهرجان للتراث القبطيّ بكلّ عراقته ، ومهرجان للتراث الإسلاميّ بكلّ ثرائه، ومهرجان للتراث الشعبيّ المصريّ بكلّ تنوّعاته الإقليميّة. متاحف حديثة لا تعرض فقط آثار الفراعنة العظام، بل أيضاً مخطوطات الأزهر النفيسة النادرة، وأيقونات الكنائس القديمة البديعة، وإبداعات الفنّ الإسلاميّ الرائعة، وإنجازات مصر الحديثة في العلم والفنّ والأدب والفكر.
المجتمع المدنيّ... في مواجهة خطاب الكراهية
رابعاً، نحتاج إلى تفعيل حقيقيّ لدور المجتمع المدنيّ في مواجهة خطابات الكراهية والإقصاء من أيّ جهة أتت. جمعيّات أهليّة نشطة تعمل بجدّ على نشر ثقافة التسامح والتعايش والقبول بالآخر، منظّمات شبابيّة حيويّة تُنظّم حوارات مثمرة بين أبناء الطوائف والمناطق المختلفة، مبادرات مجتمعيّة خلّاقة تُبرز القواسم المشتركة الكثيرة بدلاً من التركيز على الفوارق القليلة. برامج تبادل ثقافيّ حقيقيّ بين المحافظات المختلفة، لتعريف أبناء الشمال بثقافة الجنوب العريقة، وأبناء الوادي بثقافة الصحراء الأصيلة، وأبناء المدن بثقافة الريف العميقة.
قانون مُكافحة التمييز... لا "شريعة كِمت"
خامساً، وهذا ضروريّ وعاجل، نحتاج إلى قانون صارم يُجرّم خطاب الكراهية والتمييز على أساس العرق أو الدين أو اللون أو الأصل الجغرافيّ أو أيّ أساس آخر. قانون يحمي كلّ المصريّين بلا استثناء من الإقصاء والتهميش والتمييز، سواء جاء هذا الإقصاء باسم الفرعونيّة أو العروبة أو الإسلام أو المسيحيّة أو أيّ أيديولوجيا أخرى. قانون يُعاقب بحزم من يُحاول تقسيم المصريّين إلى درجات وفئات بناءً على معايير عرقيّة أو دينيّة أو ثقافيّة وهميّة، ويحمي وحدة النسيج الوطنيّ من كلّ محاولات التمزيق.
التعليم الجامع... من المهد إلى المدرسة
سادساً، نحتاج إلى تعزيز جذريّ لدور التعليم في بناء الهويّة الجامعة منذ الطفولة المبكرة. مدارس تُعلّم الأطفال منذ الصغر أنّ التنوّع ثروة لا نقمة، أنّ الاختلاف إثراء لا إفقار، أنّ مصر كبيرة بتعدّدها لا بأحاديّتها. مناهج تاريخ تعرض كلّ الروايات بإنصاف، لا رواية واحدة مُنحازة. مناهج أدب تُدرّس نصوصاً من كلّ العصور والثقافات المصريّة جنباً إلى جنب. مناهج فنون تعرض الفنّ الفرعونيّ والقبطيّ والإسلاميّ والحديث كحلقات متّصلة في سلسلة الإبداع المصريّ المتواصل.
درس التاريخ... مصر الانفتاح لا الانغلاق
يلوح أنّ درس التاريخ واضح وضوح الشمس لمن يُريد أن يتعلّم ويستفيد. مصر العظيمة، تلك التي أشعّت حضارتها على العالم كلّه وعلّمته، لم تكن أبداً مصر المُنغلقة على ذاتها في قوقعة الماضي، بل مصر المُنفتحة على الآخر والمستقبل. لم تكن مصر التي تُقصي وتُلغي وتمحو، بل مصر التي تستوعب وتُدمج وتُضيف. لم تكن مصر النقاء العرقيّ المُتوهّم الذي لا وجود له، بل مصر التمازج الحضاريّ الخلّاق الذي أنتج أعظم الحضارات.
طه حسين، عميد الأدب العربيّ الذي لا يُنازَع، لم يكتب "الأيام" الخالدة بالهيروغليفيّة، بل بلغة عربيّة بليغة ساحرة جمعت بين الأصالة والمعاصرة في نسيج فريد. لم يدعُ إلى العودة إلى عبادة آمون-رع، بل إلى الأخذ بأسباب الحضارة الحديثة مع الحفاظ على الخصوصيّة المصريّة وروحها. نجيب محفوظ، الفائز بنوبل وفخر الأدب العربيّ، لم يستلهم رواياته العظيمة من "نقوشات فرعونيّة" صمّاء، بل من حارات القاهرة الإسلاميّة النابضة بالحياة، من الحسين والغوريّة وخان الخليلي، من ناسها البسطاء وأحلامهم وآلامهم. يوسف شاهين، المُخرج العالميّ الذي رفع اسم مصر عالياً، لم يُخرج أفلاماً عن الفراعنة فقط، بل صوّر نبض الشارع المصريّ المُعاصر بكلّ تناقضاته وتعقيداته وثرائه الإنسانيّ.
مصر الحوار... لا مصر الإقصاء
والحال أنّ مصر، من الإسكندريّة القديمة منارة العلم إلى الأزهر الشريف قِبلة العلماء، كانت دائماً مصر الحوار لا الإقصاء، مصر التعدّد لا الأحاديّة، مصر الانفتاح لا الانغلاق. وحين انغلقت على ذاتها، في فترات تاريخيّة استثنائيّة، تراجعت وذبلت وفقدت دورها الحضاريّ الرياديّ حتّى استعادت انفتاحها.
وربّما كان من المفيد، ونحن نختتم هذا التأمّل، أن نتذكّر أنّ أعظم فترات ازدهار مصر الحديثة كانت تلك التي شهدت تعايشاً خلّاقاً مُثمراً بين مكوّناتها المختلفة. القاهرة الخديويّة التي جمعت المسجد والكنيسة والمعبد اليهوديّ في حيّ واحد يعجّ بالحياة. الحركة الوطنيّة في 1919 التي وحّدت الهلال والصليب في وجه الاستعمار وأذابت الفوارق في بوتقة النضال المشترك. النهضة الثقافيّة في النصف الأوّل من القرن العشرين التي أنتجت روّاداً عمالقة من كلّ الطوائف والمذاهب والخلفيّات. المقاومة الشعبيّة في 1956 التي جمعت كلّ المصريّين، بلا تمييز، دفاعاً عن وطنهم الواحد.
فنّ البناء... لا حرفة الهدم
ذاك أنّ الهويّة الحيّة لا تُبنى بالحفر المحموم في المقابر، مهما كانت عظيمة ومُبهرة، بل بالحوار الخلّاق مع الحاضر والانفتاح الواعي على المستقبل. لا تُبنى بإقصاء الآخر وشيطنته، بل باحتضانه والتعلّم منه. لا تُبنى بتقديس الماضي وتحنيطه، بل بالبناء عليه وتجاوزه نحو الأفضل. ومصر، عبر تاريخها الطويل المجيد، كانت دائماً أستاذة بارعة في هذا الفنّ الصعب: فنّ الجمع لا التفريق، فنّ البناء لا الهدم، فنّ الاحتضان لا الإقصاء.
الحقيقة البسيطة... قوّة الإبداع لا نقاء الدم
وفي الختام، لا بدّ من التأكيد مرّة أخرى على حقيقة بسيطة لكنّها جوهريّة وحاسمة: إنّ قوّة أيّ أمّة لا تُقاس أبداً بنقاء دمها المزعوم - الذي لا وجود له أصلاً - بل بقدرتها على الإبداع والإنتاج والعطاء. لا تُقاس بعودتها المَرَضيّة إلى الماضي، بل بقدرتها على صناعة المستقبل بثقة. لا تُقاس بإقصائها للآخر وكراهيتها له، بل بقدرتها على احتوائه وتحويل التنوّع إلى مصدر قوّة لا ضعف، إلى ثروة لا عبء.
مصر الحيّة... لا مصر المتحف
لأنّ مصر، في النهاية وبعد كلّ شيء، ليست مُتحفاً جامداً للذكريات الفرعونيّة، مهما كانت مُبهرة وساحرة. ليست مقبرة مُذهّبة نحتفظ فيها بمومياوات الماضي ونعبدها. ليست معرضاً للتماثيل الصامتة والبرديّات الميّتة التي لا تُكلّم أحداً. مصر وطن حيّ نابض لشعب حيّ مُبدع، يستحقّ هويّة حيّة ديناميكيّة تحتضنه كما هو بكلّ تنوّعه وثرائه، لا كما يُراد له أن يكون في مُخيّلة دُعاة "كِمت" الجُدد المهووسين بالماضي.
أمّ الدنيا... التي احتضنت الدنيا
مصر هي أمّ الدنيا لأنّها احتضنت الدنيا كلّها بحنان الأمّ، لا لأنّها أقصتها بقسوة. هي منارة الشرق لأنّها أضاءت للجميع بلا تمييز، لا لأنّها احتكرت النور لنفسها. هي أرض الكنانة لأنّها حمت جيرانها تحت جناحها، لا لأنّها حاربت الجميع بلا هوادة. هي "المحروسة" لأنّ الله حرسها بتنوّعها وتعدّدها وقدرتها على الاستيعاب، لا بنقائها المزعوم الذي لا وجود له.
أكبر من كلّ اختزال... أعمق من كلّ تشويه
ولأنّ مصر أكبر بكثير من أن تُختزل في حقبة واحدة، مهما عظُمت وأبهرت... ولأنّ المصريّين أعمق بكثير من أن يُعرّفوا بجيناتهم المُتخيّلة، مهما "نقيت" في أوهام البعض... ولأنّ الهويّة المصريّة أغنى بكثير من أن تُحبس في متحف، مهما كبُر وتوسّع... فإنّ مشروع "كِمت" محكوم عليه بالفشل الذريع، كما فشل من قبل كلّ مشروع إقصائيّ أحاديّ حاول أن يفرض على مصر هويّة ضيّقة خانقة لا تتّسع لكلّ أبنائها.
المصريّ البسيط... يُمارس الهويّة الحقيقيّة
وسيبقى المصريّ البسيط، ذاك الذي يركب الميكروباص المُتهالك كلّ صباح ويقف في طابور الخبز المدعوم كلّ مساء، يُمارس هويّته الحقيقيّة الأصيلة كلّ يوم بعفويّة وصدق: يُصلّي في المسجد أو يُصلّي في الكنيسة، يقول "ربّنا يخلّيك" و"ربّنا يبارك فيك" بنفس الإيمان، يُسمّي أولاده محمد ومريم وأحمد ومارينا بنفس المحبّة، يحتفل بشمّ النسيم (عيد فرعونيّ أصيل) وبعيد الفطر (عيد إسلاميّ عزيز) وبعيد الميلاد (عيد مسيحيّ مجيد)، دون أن يرى في ذلك أيّ تناقض أو تنافر.
سرّ مصر الأبديّ... الجمع لا التفريق
لأنّ هذا هو سرّ مصر الحقيقيّ الذي حيّر المؤرّخين: قدرتها العجيبة الفريدة على الجمع بين ما يبدو متناقضاً للناظر السطحيّ، على صهر المختلف في بوتقة واحدة متجانسة دون إلغاء خصوصيّته، على البناء فوق الأطلال دون هدم الأساسات. وهذا السرّ العظيم لن يفهمه أبداً دُعاة "كِمت" الجُدد، المهووسون بنقاء متوهّم لم يُوجد قطّ في أرض احتضنت، عبر سبعة آلاف عام من التاريخ المتواصل، كلّ من وطئها وأحبّها وانتمى إليها بصدق.
النموذج المُضيء... في عالم مُتمزّق
وفي زمن تتصاعد فيه الهويّات القاتلة المُدمّرة في كلّ مكان، من الهند القصيّة إلى أوروبا القريبة، ومن أميركا البعيدة إلى الشرق الأوسط المُضطرب، تحتاج مصر أكثر من أيّ وقت مضى إلى التمسّك بتقليدها العريق الأصيل في الاستيعاب والدمج والتوحيد. لا لتكون مجرّد استثناء شاذّ في عالم يتمزّق ويتفتّت، بل لتكون نموذجاً ساطعاً يُحتذى في عالم يبحث بيأس عن طريق للخلاص من لعنة الهويّات المُغلقة القاتلة.
رسالة لخاطفي مصر... من كلّ الجهات
ولعلّ في هذا كلّه درساً بليغاً لكلّ من يُحاول اختطاف مصر لمشروعه الخاصّ الضيّق، سواء كان فرعونيّاً متطرّفاً أو إسلاميّاً متشدّداً أو قوميّاً متعصّباً أو ليبراليّاً متغرّباً: مصر أكبر من كلّ المشاريع الصغيرة، وأعمق من كلّ الأيديولوجيّات السطحيّة، وأقدم من كلّ النظريّات العابرة. من يُريد أن يخدم مصر حقّاً وصدقاً، عليه أن يخدمها كما هي في واقعها الحيّ، لا كما يتمنّاها في خياله المريض. أن يحترم تنوّعها الثريّ، لا أن يفرض عليها أحاديّته الفقيرة. أن يبني على تراكمها الحضاريّ العظيم، لا أن يهدم طبقاته ليُبقي طبقة واحدة.
السؤال الحاسم... والجواب القاطع
وأخيراً، يبقى السؤال الأهمّ الذي يجب أن نواجهه بشجاعة: هل ستنجح "الكمايتة" في مشروعها المجنون؟ هل ستتمكّن من فرض رؤيتها الإقصائيّة الضيّقة على مصر العظيمة؟
الجواب، والتاريخ كلّه شاهد عدل، هو لا قاطعة. ذاك أنّ مصر أقوى بما لا يُقاس من أيّ محاولة لاختزالها أو تقليصها أو تشويهها. الشعب المصريّ، بحسّه العميق المتجذّر وحكمته التي صقلتها القرون والمحن، يعرف كيف يُفشل المشاريع التي تُحاول تمزيق نسيجه الوطنيّ المتماسك. لقد فشلت محاولات مماثلة كثيرة من قبل، وستفشل هذه المحاولة البائسة أيضاً كما فشلت سابقاتها.
الفشل المحتوم... والندوب المحتملة
لكنّ الفشل المحتوم لا يعني أنّ المحاولة لن تترك ندوباً عميقة. لا يعني أنّها لن تُعمّق الانقسامات المصطنعة وتُؤجّج الصراعات العبثيّة. لهذا فإنّ المواجهة الواعية ضروريّة وعاجلة، والمواجهة تبدأ بالوعي العميق والمعرفة الصحيحة والحوار البنّاء. تبدأ برفض الإقصاء من أيّ جهة جاء ومهما كانت مبرّراته، والتمسّك بمصر الجامعة الحاضنة لا المُفرّقة الطاردة.
مصر في القلوب... لا في المتاحف
فالوطن، في نهاية المطاف وخلاصة القول، ليس فكرة مُجرّدة باردة في عقول المُنظّرين المعزولين، بل واقع حيّ دافئ في قلوب المواطنين العاديّين. وقلوب المصريّين، تلك التي نبضت بحبّ الوطن الصادق عبر آلاف السنين، لن تقبل أبداً أن يُختزل وطنها الحبيب في تابوت فرعونيّ، مهما كان مُذهّباً ومُرصّعاً. ستظلّ تنبض بكلّ ما يجعل مصر مصر الحقيقيّة: بصوت المؤذّن الشجيّ وقرع الأجراس العذب، بتراتيل القدّاس الخاشعة وآيات القرآن المُرتّلة، بأغاني أمّ كلثوم الخالدة وأشعار أحمد شوقي الباقية، بنيلها الخالد الذي لا ينضب وصحرائها الشاسعة التي لا تنتهي، بماضيها العريق المجيد وحاضرها النابض بالحياة وأملها الذي لا يموت في مستقبل أفضل وأجمل.
هذه مصر... الحقيقيّة والحيّة والأبديّة
هذه هي مصر الحقيقيّة، مصر الحيّة، مصر الأبديّة. ومن أراد غيرها، فليبحث عنها في المتاحف والمقابر