في فجر يوم 29 يوليو 2024، تحولت ساوثبورت، المدينة الساحلية الهادئة في شمال غرب إنجلترا، إلى مسرح لمأساة هزت أركان المملكة المتحدة. أكسل موجانوا روداكوبانا، شاب بريطاني من أصل رواندي يعاني من اضطرابات طيف التوحد، قتل ثلاثة أطفال وأصاب ثمانية آخرين في ورشة محلية. لكن الشرارة الحقيقية كانت شائعة كاذبة انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مدعية أن المهاجم مسلم.
هذه اللحظة أشعلت حريقاً كان يتراكم وقوده منذ عقود في أعماق المجتمع البريطاني. في بلد حكم يوماً الهند ودولاً إسلامية عديدة، أصبح رئيس وزرائها السابق من أصول هندية وعمدة عاصمتها مسلماً. إنها مفارقة التاريخ في أبهى صورها.
هذه المفارقة تعكس تحولاً عميقاً في النسيج الاجتماعي البريطاني، تحول بدأ منذ عقود ولكنه وصل الآن إلى نقطة الانفجار. كما يقول المؤرخ البريطاني الشهير، سيمون شاما: "بريطانيا اليوم تواجه أزمة هوية غير مسبوقة. إنها تصارع مع إرثها الإمبريالي من جهة، ومع واقعها كمجتمع متعدد الثقافات من جهة أخرى."
لفهم عمق هذه الأزمة، علينا العودة إلى جذور الهجرة في بريطانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث قامت في استقدام العمال من مستعمراتها السابقة لإعادة بناء اقتصادها المدمر. كان يُنظر إليهم آنذاك كحل مؤقت، لكنهم أصبحوا جزءاً دائماً من النسيج الاجتماعي البريطاني.
هذا التحول الديموغرافي لم يكن مجرد تغيير في الأرقام، بل كان تحدياً عميقاً لمفهوم "البريطانية" نفسه. كما يشير عالم الاجتماع البريطاني الشهير، ستيوارت هول: "الهوية ليست أمراً ثابتاً، بل هي عملية مستمرة من التفاوض والتحول. ما نراه اليوم هو صراع حول معنى أن تكون بريطانياً في عالم اليوم".
وفقاً لمكتب الإحصاءات الوطنية، وصل صافي الهجرة في 2023 إلى 685,000 شخص، مع وجود 3.9 مليون مسلم يشكلون 6.5% من سكان إنجلترا وويلز. لكن الأزمة الديموغرافية الحقيقية تكمن في التباين الكبير في معدلات الخصوبة.
يقول أكثر من مراقب: معدل الخصوبة المرتفع بين المسلمين والجاليات الأخرى يثير مخاوف عميقة لدى اليمين البريطاني. هناك خوف حقيقي من أن تصبح بريطانيا "أجنبية" في أرضها.
هذه المخاوف ليست جديدة. في عام 1968، ألقى السياسي المحافظ إينوك باول خطابه الشهير "أنهار من الدم"، محذراً من عواقب الهجرة الجماعية. اليوم، تجد صدى هذا الخطاب في سياسات الأحزاب اليمينية المتطرفة.
لكن هناك وجه آخر لهذه القصة. قال لي صديق بربطاني قبل فترة: الجيل الثالث والرابع من المهاجرين لا يرون أنفسهم كغرباء في بريطانيا. إنهم بريطانيون بكل معنى الكلمة، ولكنهم يطالبون بتعريف أوسع وأكثر شمولاً للهوية البريطانية.
في غضون أيام من حادثة ساوثبورت، تحولت شوارع المدن البريطانية إلى ساحات حرب. الشرطة، التي واجهت انتقادات لعدم استعدادها، استخدمت القنابل الدخانية وخراطيم المياه. تم اعتقال أكثر من 500 شخص في الأيام الأولى.
ومن اللافت للانتباه ماتم تداوله عن مسؤول أمني بريطاني: "لقد فشلنا في توقع حجم الاستياء المتراكم. أجهزتنا الأمنية كانت مستعدة لمواجهة الإرهاب، لكنها لم تكن جاهزة لثورة اجتماعية."
الحكومة سارعت بتقديم مشروع قانون يشدد العقوبات على مثيري الشغب ويوسع صلاحيات الشرطة في مراقبة وسائل التواصل الاجتماعي. لكن هذه الخطوة أثارت انتقادات حادة من منظمات حقوق الإنسان.
أحد المحاميات حذرت أمس في BBC قائلة: "نحن على شفا منحدر خطير. هذه القوانين قد تستخدم لقمع المعارضة السلمية تحت ستار مكافحة العنف."
صديقي في الدراسة والأكاديمي السابق الذي نقل أعماله من بلده بريطانيا إلى سنغافورة قال لي: "بريطانيا تخاطر بفقدان موقعها كمركز مالي وتكنولوجي عالمي. الاستقرار السياسي والاجتماعي أساسي لجذب الاستثمارات والمواهب."
ويضيف: "التأثير طويل المدى قد يكون أكثر خطورة. نحن نخاطر بفقدان جيل كامل من المواهب والاستثمارات. استعادة الثقة في الاقتصاد البريطاني قد تستغرق عقداً أو أكثر."
في الشرق الأوسط، استغلت بعض الأنظمة الأزمة البريطانية للرد على الانتقادات السابقة. أحد المسؤولين الأصدقاء من دولة عربية كتب بحسابه الشخصي بالفيسبوك: "نأمل أن تتعلم بريطانيا الآن أن الديمقراطية ليست وصفة واحدة تناسب الجميع."
وسط هذه الأزمة، برزت أصوات الجيل الجديد من البريطانيين من أصول مهاجرة. زينب علي، ناشطة شابة من أصل باكستاني، تقول على شاشات الإعلام بوم أمس: "نحن بريطانيون بقدر أي شخص آخر. هويتنا متعددة الأوجه وهذا مصدر قوة، لا ضعف. نحن نريد بناء بريطانيا تحتضن تنوعها، لا أن تخاف منه."
هذا الصوت يمثل تياراً متنامياً في المجتمع البريطاني. فهل ما نراه هو ظهور هوية بريطانية جديدة، هوية تجمع بين التقاليد البريطانية والتأثيرات الثقافية العالمية. هذا التطور قد يكون مفتاح بريطانيا لمستقبل أكثر انسجاماً وازدهاراً.
مع استمرار الأزمة، تبرز ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل بريطانيا:
1. "بريطانيا المنقسمة": استمرار التوترات الاجتماعية يؤدي إلى تقسيم البلاد فعلياً إلى مجتمعات منعزلة، مع تطبيق قوانين وأنظمة مختلفة في مناطق مختلفة. هذا السيناريو قد يؤدي إلى تفكك تدريجي للمملكة المتحدة، مع احتمال استقلال اسكتلندا وإعادة تو حيد أيرلندا.
2. "العودة إلى الماضي": صعود اليمين المتطرف وتبني سياسات صارمة ضد الهجرة والتعددية الثقافية، مما قد يؤدي إلى عزلة بريطانيا دولياً. هذا قد يشمل خروج بريطانيا من اتفاقيات دولية مثل اتفاقية جنيف للاجئين، وتشديد الرقابة على وسائل الإعلام.
3. "النموذج الجديد": نجاح بريطانيا في صياغة عقد اجتماعي جديد يوازن بين الهوية التقليدية والتنوع الثقافي، مما يجعلها نموذجاً يحتذى به عالمياً. هذا قد يتضمن إصلاحات جذرية في نظام التعليم، وإعادة هيكلة الاقتصاد لتحقيق عدالة أكبر، وتبني سياسات اندماج أكثر فعالية.
ما يحدث في بريطانيا اليوم هو اختبار حاسم لقدرة الديمقراطيات الغربية على التكيف مع تحديات القرن الـ21. النتيجة ستشكل مستقبل النظام العالمي برمته او ربما تكتب رسميا وفاة نظرية "نهاية التاريخ" والتي هي بالفعل مريضة على أسرة أجهزة غرفة العناية المركزة.
بريطانيا على مفترق طرق تاريخي. هل ستنجح في إعادة تعريف نفسها كأمة متعددة الثقافات تحافظ على قيمها الأساسية؟ أم ستنزلق نحو الانقسام والعزلة؟
الطريق إلى الأمام لن يكون سهلاً عليهم. سيتطلب حواراً وطنياً صريحاً وصعباً حول الهوية والانتماء في القرن الحادي والعشرين. سيتطلب إصلاحات جذرية في التعليم والاقتصاد والسياسة الاجتماعية. وقبل كل شيء، سيتطلب قيادة شجاعة مستعدة لمواجهة التحديات الصعبة بدلاً من الاختباء وراء شعارات بسيطة.
ان المجتمعات المتعددة الثقافات تواجه تحدياً مزدوجاً: الحفاظ على التماسك الاجتماعي مع احترام الاختلاف. نجاح بريطانيا في هذا التحدي قد يقدم نموذجاً للعالم بأسره. ولكن هذا صعب للغاية.
وكما قال ونستون تشرشل ذات مرة: "لن تنتهي هذه لتكون نهاية. قد لا تكون حتى بداية النهاية. ولكنها، ربما، نهاية البداية." اليوم، تقف بريطانيا مرة أخرى على عتبة تحول تاريخي. والعالم كله يراقب، منتظراً ليرى ما إذا كانت الأمة التي قادت يوماً إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس قادرة على قيادة الطريق نحو مستقبل أكثر عدلاً وشمولاً للجميع.
في النهاية، قد تكون هذه الأزمة هي اللحظة التي تعيد فيها بريطانيا اختراع نفسها، متجاوزة إرثها الإمبريالي نحو هوية جديدة تجمع بين الماضي والحاضر، بين التقليد والتجديد. وكما يقول الشاعر البريطاني الراحل توني هاريسون: "الهوية ليست شيئاً نرثه، بل شيئاً نصنعه." ربما حان الوقت لبريطانيا أن تصنع هويتها من جديد.
هذه اللحظة التاريخية تحمل في طياتها تحديات هائلة، ولكنها أيضاً تقدم فرصة فريدة لإعادة تشكيل المجتمع البريطاني على أسس أكثر عدالة وشمولية. إن نجاح بريطانيا في هذا المسعى لن يكون مهماً فقط لمستقبلها، بل سيقدم دروساً قيمة للعديد من الدول الأخرى التي تواجه تحديات مماثلة في عصر العولمة والهجرة الجماعية.
قد تكون بريطانيا قادرة على التكيف والابتكار وإعادة تعريف نفسها، وربما، هذا ما سيحدد مصيرها. وكما أظهرت مراراً وتكراراً عبر تاريخها الطويل، فإنها تمتلك القدرة على النهوض من أعمق الأزمات وإعادة اختراع نفسها. هل ستنجح هذه المرة أيضاً؟ العالم كله ينتظر الإجابة.