21 يوليو 2025

بين من يشتري المستقبل ومن يستجدي البقاء: قصة الخمسة تريليونات المزعومة ‏لجان الشركة المتحدة والذباب الإلكتروني: صناعة الوهم وتصدير الفشل

‏ثمّة في رقم الخمسة تريليونات الذي اخترعه سامح عسكر ما يوحي بأنّ الرجل يحسب بأصابع يديه وقدميه معاً، ثم يضرب الناتج في خياله المريض؛ والحال أنّ الأرقام الحقيقية - تلك التي تتطلب قراءة لا هلوسة - تتحدث عن ترليونين كحدّ أقصى، وحتى هذا فيه تضخيم. لكنّ عسكر، وقد نشأ في بلد يعيش على الودائع كما يعيش المريض على المسكّنات، لا يستطيع التمييز بين الاستثمار الذي يبني الثروة والصدقة التي تؤجّل الانهيار.
‏يظنّ صاحبنا أنّ السعودية "دفعت" لأمريكا 600 مليار دولار، كما يدفع المحتاج بقشيشاً للحصول على رضا المحسن. لا يفهم أنّ هذه استثمارات في Boeing وMicrosoft وgroq، في مراكز الذكاء الاصطناعي ومنظومات الدفاع المتطوّرة. والأهمّ من كل ذلك: مفاعلات نووية متقدّمة ستنقل المملكة إلى عصر الطاقة النظيفة، وطائرات F-35 التي تُعدّ قمّة التكنولوجيا العسكرية الأمريكية. ذاك أنّ عقله المُبرمج على منطق "اليد الممدودة" عاجز عن استيعاب أنّ هناك أموالاً تخرج لتعود مضاعفة، وتقنيات تُشترى لتصنع المستقبل، لا لتُبدّد في دعم الخبز والبنزين كما يحدث مع المساعدات الخليجية لمصر.
‏والأنكى أنّ عسكر يتباكى على "مليوني فلسطيني يموتون جوعاً" ويطالبنا بالضغط على ترامب! وكأنّ ترامب رئيس جزر الواق واق وليس رئيس أقوى دولة بالعالم! هل يريد أن نردّ بنفس المنطق الغبي ونقول له: أين كانت نخوته المصرية عندما أغلقت حكومته معبر رفح؟ أين كانت "الفزعة" عندما شاركت مصر في حصار غزة سنوات طويلة؟ لماذا لم تسر بنفسك يا سامح وتقود مظاهرة مليونية لإقفال السفارة الإسرائيلية في بلدك؟ لماذا لم تطلب من رئيسك ورئيس مخابراتك - بحكم العلاقة المميّزة بين دولتيكم - بمكالمة نتنياهو وتقولوا له: (علشان خاطرنا وحياة الأيام الحلوة بينينا ما تصغّرناش قدام شعبنا والعرب!!)؟ يلوح أنّ النخوة عنده تعني مطالبة الآخرين بدفع الثمن بينما بلاده تحصد المكاسب السياسية والاقتصادية والآن الإعلامية من وراء المعاناة الفلسطينية.
‏ذاك أنّ لجان الشركة المتحدة التابعة للمخابرات المصرية - تلك التي تدير المسرحية من وراء ستار - توجّه سامح وأمثاله لكتابة هذه المقالات الاستفزازية. الهدف؟ تصدير أزمة غزة من مصر لدول الخليج التي لا يربطها بغزة معبر، ولم تضحّ بغزة في حرب 1967 واستبعدتها في مفاوضات السلام. يريدون تحويل فشلهم إلى ورقة ابتزاز عاطفي ضدّ دول الخليج. ولتمرير هذه اللعبة المكشوفة، يبنون صورة زائفة لـ"مصر التي لا تركع"! يا للمفارقة: مصر التي تركع يومياً أمام صندوق النقد، وتستجدي الودائع الخليجية، تصبح فجأة "الصامدة التي لا تنحني"! أغلب الظنّ أنّ الركوع كثر عليهم حتى نسوا الفرق بين الوقوف والسجود.
‏بيد أنّ المسألة أعمق من مجرّد نفاق سياسي. إنّها تكشف عن عقلية كاملة تشكّلت في ظل عقود من الفشل الممنهج. عقلية ترى في كل علاقة مالية "صدقة"، وفي كل استثمار "رشوة"، وفي كل نجاح "خيانة". لعلّ هذا ما يفسّر عجز عسكر عن فهم أنّ الإمارات عندما تستثمر 1.4 تريليون في أمريكا، فهي لا تشتري رضاءً بل تبني نفوذاً؛ تحصل على تقنيات الذكاء الاصطناعي المحظورة، تصبح شريكاً في الثورة التكنولوجية القادمة.
‏والطريف - لو لم يكن مبكياً - أنّ لجان الشركة المتحدة - والذباب الإلكتروني المصري عامة - غضبت لعدم دعوة الجانب المصري للقمّة مع ترامب، فسّروه إهانة! والحقيقة المُرّة التي يرفضون الاعتراف بها: وجود مصر مثل عدمه. لو جاءت، لأحرجت دول الخليج بطلباتها المادية. القمّة للاعبين الحقيقيين، لا للمتفرجين. لئن كان ثمّة إهانة، فهي أن يُدعى من لا يملك إلا الشكوى والاستجداء إلى طاولة من يصنعون القرارات ويرسمون المستقبل.
‏راهناً، وبينما قطر تشتري 210 طائرات بوينغ لتبني إمبراطورية طيران عالمية، تنتظر مصر الوديعة الخليجية التالية لترقيع اقتصادها المنهار. بينما السعودية تستثمر في الفضاء والمستقبل، تفاوض مصر على شروط أقل قسوة لقرضها القادم من صندوق النقد. هنا يكمن الفرق بين من يصنع الثروة ومن يستجديها، بين من يبني القوّة ومن يتسوّل البقاء.
‏أغلب الظن أنّ عسكر لن يفهم أبداً أنّ النفوذ الحقيقي اليوم لا يُشترى بشيك، بل يُبنى بالاستثمارات طويلة المدى وبالشراكات الاستراتيجية. عندما تملك حصصاً في أكبر الشركات الأمريكية، عندما تصبح شريكاً في تطوير التقنيات المتقدّمة، عندما تموّل البنية التحتية الحيوية، وعندما تحصل على تقنيات نووية سلمية وطائرات الجيل الخامس، حينها يصبح لك صوت مسموع وتأثير فعلي وردع حقيقي. أما التهديد بالانهيار والابتزاز بالفوضى - أوراق مصر الوحيدة - فتلك أسلحة الضعفاء التي تضرّ أصحابها أكثر مما تضر خصومهم.
والحال أنّنا عندما نستثمر في أمريكا، لا "نشتري رضاها" كما تظنّون أنتم مع كلّ من يقرضكم دولاراً معدوداً. بل نشتري مستقبلاً، نبني قوّة، نخلق نفوذاً. عندما تملك السعودية تكنولوجيا الغد، عندما تصبح الإمارات شريكاً في ثورة الذكاء الاصطناعي، عندما تبني قطر إمبراطورية طيران عالمية، فنحن لا نتسوّل، بل نتملّك. والفرق الذي يعجز عقلك المشبع بثقافة الهزيمة عن إدراكه هو أنّنا عندما نختلف مع أمريكا، لدينا أوراق ضغط حقيقية: يمكننا سحب استثماراتنا، بيع حصصنا، تحويل أموالنا إلى أسواق أخرى. أمّا أنتم، فماذا تملكون؟ التهديد بالإفلاس؟ التلويح بالانهيار؟ الابتزاز بالفوضى المحتملة؟
‏وإذ يدّعي عسكر أنّ ترامب بكلّ ما وراءه من سلطات الكونجرس والمحكمة العليا، "عبد للمال" يمكن شراؤه، ينسى أو يتناسى أنّ حكومته هي العبد الحقيقي للوديعة الخليجية القادمة. على الأقلّ ترامب يتعامل في سوق حرّة، يبيع ويشتري ويفاوض؛ أمّا السيسي وحكومته فيقفون على أبواب الخليج والغرب بيد ممدودة وكرامة مهدورة. على الأقلّ العلاقة الأمريكية-الخليجية علاقة تبادل منافع؛ أمّا العلاقة المصرية-الخليجية فعلاقة المحتاج بالمحسن، المتسوّل بالمتصدّق.
‏لئن كان في القصّة عبرة، فهي أنّ جيلاً كاملاً من المثقّفين المصريين - ممثّلاً في سامح عسكر وأمثاله - فقد القدرة على فهم العالم الحديث. جيل نشأ على ثقافة التسوّل فصار يرى كلّ مال صدقة، وكلّ نجاح خيانة، وكلّ تقدّم تآمراً. هذه عقلية الفاشل الذي يبرّر فشله بتخوين الناجحين؛ لا يستطيع أن يقول "تعلّموا منهم"، فيقول "إنّهم خونة". لا يستطيع أن يواجه الحقيقة، فيخترع الأكاذيب. جيل يحلم بعالم تُحلّ فيه المشاكل بالشعارات، وتُدار فيه السياسة بالعواطف، وتُبنى فيه الاقتصادات بالمناشدات.
‏لكنّ الجنون الحقيقي - ذاك الذي دفعهم حتى للاستعانة ببقايا الإخوان من أمثال سامح - هو في الواقع ردّ فعل مذعورة على دعوة الشرع للقمّة مع ترامب. سقوط النموذج العسكري في سوريا يُرعبهم. يُرعبهم أكثر أنّ الخليج قد يتبنّى فكرة التغيير إذا شعر أنّ القيادة العسكرية لا رجاء فيها.
‏وبينما هم غارقون في أوهامهم، يمضي القطار. السعودية تبني NEOM ومشاريع المستقبل، الإمارات تطلق المسابير إلى المرّيخ، قطر تحوّل نفسها إلى محور عالمي. ومصر؟ مصر تنتظر الوديعة التالية، والقرض التالي، والمثقّف التالي الذي سيبرّر فشلها بتخوين نجاح الآخرين. هكذا ننتهي دائماً: بين من يبني إمبراطوريات مالية ويشتري المستقبل، ومن يكتب مقالات هستيرية ويستجدي البقاء. والفرق بيننا وبينكم كالفرق بين من يصنع التاريخ ومن ينتحب على هوامشه. وبين لحظة انتظار ولحظة تسوّل، يضيع عمر أمّة كانت يوماً منارة، فصارت عبرة.
‏وفي الختام، يا سامح، دعني أهمس في أذنك حقيقة مُرّة: نحن لم نعد نتصدّق عليكم من باب الإحسان، بل من باب الخوف. الخوف من أن تصبح مصر صوماليا جديدة في جوارنا. ودائعنا في بنككم المركزي ليست استثماراً - فأيّ عاقل يستثمر في اقتصاد ينهار؟ - بل ضريبة أمنية ندفعها لإبقائكم بعيدين عن الهاوية... وعنّا.
‏لكن وسط هذا العبث المأساوي، ثمّة لحظة إنسانية مؤلمة: ملايين المصريين الذين يستحقّون أفضل من هذا، شباب يحلمون بمستقبل حقيقي لا بوديعة مؤقّتة، أطفال يولدون في بلد رهن مستقبلهم قبل أن يتعلّموا المشي. هؤلاء هم الضحايا الحقيقيون لعقلية بقايا الإخوان كعسكر وأمثاله؛ عقلية تُبرّر الفشل بدلاً من مواجهته، تُزيّن العجز بدلاً من تجاوزه.
‏متى تتعلّم مصر الفرق بين الاستثمار والاستجداء؟ متى تفهم أنّ القوّة تُبنى لا تُستعار، وأنّ الثروة تُخلق لا تُستوهب؟ أم أنّ قدرها أن تظلّ أسيرة مثقّفي الشركة المتحدة يحسبون بأصابعهم ويفكّرون بأحلامهم؟

9 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤