ثمة في زحمة الدم والدمار والدموع التي تلف غزة اليوم، ما يدفع بعض الأصوات – بعضها حسن النية وأكثرها سيئُها – إلى رمي كرة اللهب في حضن مصر. وكأن القاهرة، بفتحها معبراً سحرياً، قادرة على محو خمسة وسبعين عاماً من احتلالٍ قاسٍ، أو كأنها مسؤولة عن حربٍ لم تبدأها، ولم تُستشر في توقيتها، ولم تُمنح حق الاعتراض على كوارثها.
والحال أن الحقيقة السيادية، التي يجب أن تُقال ولو جف الحلق من تكرارها، أن مصر ليست طرفاً في هذا الجنون الدائر؛ بل هي الرصيف الذي يُفرغ عليه الغضب، والبطن المطلوب منه ألا يصرخ وهو يُضرب من جهتين: مطرقة الاحتلال الإسرائيلي المباشر، وسندان حماس التي حولت غزة إلى ساحة لعبة الموت والحياة.
بيد أن من يتحدث عن "فتح مصر لمعبر رفح" دون أن يذكر أن المعبر من الجهة الفلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي منذ أيار (مايو) 2024، إما جاهل بالجغرافيا أو متواطئ في تغطية الجريمة. فكيف يُطلب من مصر فتح بوابة لا يقف خلفها شريك فلسطيني بل دبابة صهيونية؟ وهل يُعقل أن يُلام من يرفض أن يكون شاهد زور على شرعنة الاحتلال، أو ممراً يُسهل التطهير العرقي تحت مسمى "الإغاثة الإنسانية"؟
ذاك أن مصر، منذ بداية هذه المذبحة المستمرة، أبقت حدودها مفتوحة من ناحيتها، أنشأت مراكز لوجستية ضخمة في العريش، استقبلت آلاف الأطنان من المساعدات، وعالجت الجرحى في مستشفياتها، وأصرت على ألا يخرج أجنبي واحد من غزة إلا إذا دخلت شاحنة إغاثة لأهلها. أليست هذه أخلاق الكبار في زمن انعدام الأخلاق؟
لكن إسرائيل – وهنا مربط الفرس – حولت التجويع إلى سلاح حرب معلن. كل شاحنة إغاثة تُخضع لتفتيش مُذل، يُعاد تحميلها من رفح إلى نيتسانا ثم إلى كرم أبو سالم ثم تعود إلى رفح، في دوامة بيروقراطية سخيفة لا هدف لها سوى إذلال الخبز قبل أن يصل إلى الجائع، وتعفين الدواء قبل أن يُضمد الجرح.
يلوح في الأفق سؤال آخر لا يقل إيلاماً: ماذا عن دور حماس في هذه المأساة؟ ثمة حقيقة مُرة لا بد أن تُقال، وإن عضت على اللسان: عملية "طوفان الأقصى" لم تكن مجرد عملاً عسكرياً غير محسوباً، بل مغامرة كارثية في التوقيت والنتائج. فحركة حماس، دون تنسيق مع أحد – لا مع السلطة الفلسطينية ولا مع الدول العربية – فتحت أبواب جهنم على غزة، ظناً منها أن مباغتة العدو ستكسر المعادلات. لكن ما حدث أنها كسرت ظهر شعبها قبل أن تخدش جلد المحتل.
غزة دفعت ثمناً يفوق كل خيال: أكثر من ٢٠٠ ألف بين شهيد وجريح، دمار شبه كامل للبنية التحتية، مجاعة محققة، نزوح جماعي، وموت بطيء تحت الأنقاض والحصار. وكل ذلك من أجل ماذا؟ من أجل عملية "رمزية" لم تُحرر شبراً من الأرض، لكنها حولت حياة مليوني إنسان إلى جحيم مستمر؛ جحيم لا تُطفئه شعارات المقاومة المجيدة ولا خطب الصمود الأسطوري.
أغلب الظن أن الذين يطالبون مصر بأن تفتح حدودها دون ضوابط، لا يفهمون أبجديات الجغرافيا السياسية ولا يقرؤون دروس التاريخ القريب. سيناء ليست أرضاً فارغة تنتظر اللاجئين، ولا فندقاً خمس نجوم للنازحين. إنها أرض مصرية ذات سيادة، خاضت مصر من أجل تحريرها حروباً مريرة، ودفعت ثمن استعادتها دماً غالياً. ومصر التي حاربت الإرهاب في شمال سيناء لعقد كامل، وخسرت المئات من جنودها وضباطها، لن تفتح ثغرة في جدارها الأمني لتتسرب منها الجماعات المتطرفة أو الخلايا النائمة.
والحال أن من يتحدث عن "واجب مصر الإنساني" يتناسى أن الواجب الأكبر هو منع تكرار نكبة 1948. فلو خرج أهل غزة إلى سيناء – ولو "مؤقتاً" كما يزعم البعض – فلن يعودوا أبداً. التاريخ علمنا أن "المؤقت" في قاموس إسرائيل يعني "الأبدي"، وأن "الإغاثة الإنسانية" قد تتحول إلى غطاء لأكبر عملية تطهير عرقي في القرن الحادي والعشرين.
راهناً، تقف مصر أمام معادلة شيطانية: إن فتحت الحدود بلا قيود اتُهمت بالتواطؤ في التهجير، وإن أبقتها مضبوطة اتُهمت بالتخاذل عن نصرة الأشقاء. لكن القاهرة اختارت الطريق الأصعب: الحفاظ على وجود الفلسطينيين في أرضهم مهما كان الثمن، ومنع تحقيق الحلم الصهيوني القديم بدفع الفلسطينيين إلى الصحراء المصرية. إنها معركة وجود، لا مجرد أزمة إنسانية عابرة.
لعل الأكثر إيلاماً في هذا المشهد المأساوي هو أن البعض يحاول تحويل مصر إلى كبش فداء، بدلاً من توجيه السهام إلى القاتل الحقيقي. إسرائيل تقصف وتجوع وتحاصر، وحماس تتاجر بدماء شعبها على مذبح أوهام النصر الوهمي، بينما يُطلب من مصر أن تكون المنقذ الذي يحل الأزمة بعصا سحرية. وكأن مفاتيح السلام والحرب في يد القاهرة، لا في يد من يملك السلاح والقرار والأرض.
إذ نكتب هذا، لا ننسى الألم الفلسطيني المشروع، ولا نتجاهل صرخات الأمهات الثكالى وأنين الأطفال الجوعى. لكننا نرفض أن يتحول هذا الألم إلى سلاح يُوجه ضد الشقيق بدل العدو، وأن تُستغل المأساة لتصفية حسابات سياسية رخيصة أو لتمرير أجندات مشبوهة تخدم – في نهاية المطاف – المشروع الصهيوني الذي يحلم بتفريغ فلسطين من أهلها.
مصر، إذ تحرس حدودها بعناية، لا تحمي أمنها القومي فحسب؛ بل تحمي القضية الفلسطينية من الانتحار الديموغرافي، وتحفظ للفلسطينيين حقهم في البقاء على أرضهم رغم كل محاولات اقتلاعهم. وهي إذ تصر على أن تكون المساعدات للفلسطينيين داخل فلسطين، لا خارجها، إنما تؤكد أن الحل ليس في الهروب من الجلاد، بل في كسر سوطه وتحطيم سجنه.
أما الذين يريدون من مصر أن تلعب دور البطل الأسطوري الذي يحل كل المعضلات بضربة واحدة، فليتذكروا أن مصر دولة لها حدود وإمكانيات ومسؤوليات، وليست منظمة إغاثة دولية أو ملجأ مفتوحاً لكل كوارث المنطقة. ومن أراد أن ينصر غزة حقاً، فليضغط على من يحاصرها ويقصفها، لا على من يحاول – رغم كل الصعاب – أن يُبقي شعلة الأمل مضيئة في ليلها الطويل.
وإذا كانت إسرائيل تمارس القتل بالرصاص والقنابل، وحماس تمارس القتل بالقرارات الانتحارية والحسابات الخاطئة، فإن مصر – وحدها في هذا المشهد الدامي – تحاول أن تمارس فن البقاء؛ بقاء الفلسطينيين في أرضهم، وبقاء القضية حية رغم كل محاولات دفنها تحت الأنقاض. فدعوها تُدير هذه المعركة المعقدة بحكمتها، لا بعواطف من يصرخون من بعيد ولا يدفعون ثمن الصراخ.