لماذا فشلت الجمهورية الطائفية ونجحت الملكيات السنية
في المشرق العربي، حيث الكوارث تتوالد كالفطر بعد المطر، يقف العراق شاهدًا على مأساة مركبة: سبعة عقود من “التقدم” الجمهوري المزعوم أنتجت خرابًا يفوق ما أحدثه المغول، فيما قرون من ما يسمونه “الرجعية” الملكية أنتجت حضارة ودولة. والمفارقة الأشد أن العراقيين، وهم يغرقون في مستنقع الدم، ما زالوا يتشبثون بأوهامهم “التقدمية”، كمن يُصر على ارتداء معطف ممزق في عاصفة ثلجية لأنه “حديث الطراز”.
ذاك أن الإصرار على الفشل بات، على ما يبدو، جزءًا من الهوية الوطنية العراقية. كأن ثمّة متعة مازوخية في تكرار التجارب الفاشلة ورفض الناجحة. والسؤال الذي يتهرب منه الجميع: لماذا نجحت النخب السنية تاريخيًا في بناء دول ودورات حضارية، فيما أخفقت التجارب الشيعية السياسية، لا سيما في نسختها الاثني عشرية الصفوية؟
الجواب ليس في تفوق عرقي؛ بل في البنية الفكرية للمذهبين حيال السلطة. المذهب السني، ببراغماتيته التي يعيبها عليه البعض، طور مبدأ “من غلب”: الاعتراف بالأمر الواقع والعمل على إصلاحه من الداخل. هذه “الانتهازية” المزعومة أنتجت الاستقرار الذي مكن من البناء الحضاري. من بغداد هارون الرشيد إلى قرطبة عبد الرحمن الداخل، ومن قاهرة صلاح الدين إلى دمشق عبد الملك بن مروان، كانت الدول السنية مختبرات حضارية، تبني وتبدع وتتسامح.
أما التشيع السياسي الاثني عشري فمحكوم بمأزق وجودي: انتظار الإمام الغائب يعني، بالضرورة المنطقية، رفض كل شرعية قائمة. كل حاكم “غاصب” بالتعريف، وكل نظام “جور” بالضرورة. كيف تبني دولة على أساس أنها غير شرعية؟ كيف تؤسس دولة على قاعدة أنها باطلة؟ حتى “ولاية الفقيه”، ذلك الاختراع الخميني الذي حاول حل المعضلة، انتهى إلى ما هو أسوأ: حاكم “مقدس” لا يُسأل عما يفعل، يمارس الاستبداد باسم السما
والنموذج الصفوي – ذلك الكابوس التاريخي الذي عاد ليطاردنا – يجسد الفشل في أوضح صوره. الصفويون حولوا إيران من مركز حضاري إلى قلعة طائفية معزولة، ومن التشيع الروحاني إلى أيديولوجيا سياسية عدوانية. إيران اليوم، وريثة الصفويين، تملك النفط والغاز والموقع الاستراتيجي، لكنها منبوذة، شعبها يتضور جوعًا فيما حكامها يبددون المليارات على ميليشيات من بيروت إلى صنعاء، وها هي تُضرب ضرب غرائب الإبل بلا رحمة. هل هذا نجاح؟
العراق منذ 2003 وقع في الفخ نفسه. الأحزاب الشيعية الحاكمة – من “الدعوة” إلى “بدر” إلى التيار الصدري – لا تحكم بمنطق الدولة، بل بعقلية الثأر التاريخي. تنهب الخزينة وتُسميه “استرداد حقوق”، تمارس الطائفية وتُسميها “عدالة انتقالية”، تخضع البلد لإيران وتُسميه “محور مقاومة”. والنتيجة؟ بلد يشبه شركة مساهمة فاشلة: كل مساهم (ميليشيا شيعية) يريد نهب ما تبقى من أصول، فيما الشركة تغرق في الإفلاس، والموظفون (المواطنون) يهربون بحثًا عن عمل في شركات أخرى (بلدان الخليج والغرب).
لنكن أكثر دقة بالأرقام التي تفضح هذا الفشل: الملكية العراقية في 37 عامًا (1921–1958) بنت دولة من الصفر، أسست جيشًا وطنيًا، شيدت جامعات ومستشفيات، اكتشفت النفط وأحسنت إدارته، وضعت دستورًا محترمًا، وأدارت التنوع الطائفي بحكمة نسبية. الجمهورية في 65 عامًا (1958–2023) ماذا أنتجت؟ ثلاثة رؤساء وزراء لُقبوا بـ”اللصوص الثلاثة”، مئات النواب الطائفيين الذين لا هم لهم سوى المحاصصة، 500 ألف قتيل في حروب عبثية، 5 ملايين مهجر ونازح، وتريليونات الدولارات النفطية المنهوبة. أي النظامين كان “تقدميًا” حقًا؟
هذا يقودنا إلى السؤال الأكثر إلحاحًا: ما العمل؟ والجواب، مهما بدا صادمًا للبعض، واضح كالشمس: العودة إلى الملكية. لكن أي ملكية؟
الخيار التقليدي هو الهاشميون،ملوك العراق السابقون. لكن ثمّة خيارًا أكثر جرأة وواقعية: استيراد ملك من إحدى الأسر الخليجية العريقة. نعم، استيراد! كما فعلت اليونان حين استوردت ملكها من الدنمارك، وبلجيكا من ألمانيا، والنرويج من السويد. الأوروبيون لم يخجلوا من “الاستيراد الملكي” حين احتاجوه، فلماذا نخجل نحن أصحاب الدم والتاريخ الواحد والمصير المشترك؟
آل سعود، الذين يحكمون السعودية منذ 300 سنة، يملكون الشرعية والخبرة والموارد، والشيعة يعيشون فيها بمواطنة كاملة. أمير سعودي شاب على عرش بغداد يعني: مليارات الاستثمارات فورًا، حماية من الأطماع الإيرانية، دمج العراق في مشاريع التنمية السعودية الضخمة مثل “نيوم”. والأهم: عودة العراق إلى حاضنته الخليجية العربية السنية الطبيعية.
آل صباح الكويت، الذين يحكمون منذ قرنين ونيف، يقدمون بديلًا مقبولًا أيضًا. الأقرب جغرافيًا، والأكثر خبرة في إدارة التنوع (40% من سكانها شيعة يعيشون بسلام). أمير كويتي في بغداد سيكون مقبولًا من الجميع: عراقي بما يكفي، وخليجي بما يلزم.
آل خليفة البحرين، حكام منذ قرنين، لديهم الخبرة النادرة: حكم سني ناجح لأغلبية شيعية. أليس هذا بالضبط ما يحتاجه العراق؟
لكن الأهم من الأسرة المختارة هو الجائزة الكبرى: دخول العراق مجلس التعاون الخليجي. تخيلوا: عملة خليجية مستقرة بدل الدينار المنهار، سوق خليجية مشتركة تفتح أبواب الرخاء، درع الجزيرة يحمي من كل معتد، وحرية التنقل تعيد وصل ما انقطع. العراق يصبح “المملكة” في اتحاد خليجي موسع.
وللمتغنين بـ”السيادة الوطنية” نسأل: أي سيادة في بلد يحكمه المرشد المُخرف من طهران؟ أي استقلال في دولة ميليشياتها تأتمر بأوامر “الحرس الثوري”
أما حديث “الكرامة”، فدعونا نكون صرحاء: أي كرامة في أن يبيع العراقي كليته ليطعم أطفاله؟ أي عزة في أن تُباع البنات في أسواق “الميليشيات”؟ أي شرف في أن يُقتل السنة بالقناصة؟ الكرامة الحقيقية في أن يعود العراق بلدًا يُحترم، لا ساحة قتال لعصابات إيران.
لنكن أكثر وضوحًا بالمقارنات المعاصرة: دبي، تلك القرية الصحراوية قبل خمسين عامًا، صارت مركزًا عالميًا. بغداد، عاصمة الرشيد والمأمون، صارت مدينة أشباح. الرياض تبني مدنًا من المستقبل، والموصل ما زالت تنبش جثثها من تحت الأنقاض. أبوظبي تطلق مسابير إلى المريخ، وكربلاء غارقة في مجاري الصرف الصحي. من “التقدمي” ومن “الرجعي” هنا؟
الملكيات الخليجية نجحت لأنها حلت معضلة الشرعية ببساطة: الملك لا يحتاج لتزوير انتخابات، لا يحتاج لشعارات طائفية، لا يحتاج لميليشيات تحميه. شرعيته تاريخية، ونجاحه يُقاس بما يبني لا بما يهدم. ولأنه فوق الطوائف – كالمدير التنفيذي الذي لا يملك أسهمًا في الشركة – همه نجاح الشركة لا نهبها.
في المحصلة، الخيار ليس بين الملكية والجمهورية كشكلين مجردين. إنه بين الحياة والموت، بين الوجود والعدم. بين نموذج سني معتدل أثبت نجاحه عبر القرون، ونموذج صفوي متطرف أثبت فشله في كل تجربة. بين عراق ينهض من رماده كطائر العنقاء، أو عراق يواصل الاحتراق حتى لا يبقى منه سوى الرماد.
والتاريخ، ذلك المعلم القاسي الذي لا يعيد الدروس، ينتظر جواب العراقيين. فهل يملكون الشجاعة للاعتراف بأن تجربتهم “التقدمية” والأخرى "الطائفية الشيعية" فشلت فشلًا ذريعا؟ أم سيواصلون رقصة الموت حتى يُسدل الستار نهائيًا على مأساة اسمها العراق؟
الساعة تدق، والوقت ينفد، والتاريخ لا يرحم المترددين. إما تاج يجمع، أو طوائف تُمزق. إما ملك خليجي يبني، أو ميليشيات إيرانية تُدمر. والخيار، في النهاية، للعراقيين. إن بقي منهم من يستطيع الاختيار.