لطالما رسم المستشرقون الجزيرة العربيّة خارج الزمن، صحراء لا تصلح إلاّ لميلاد الأديان، وكأنّها فراغ جغرافيّ معلّق بين القارّات. لكنّ اكتشافاً علميّاً جديداً يقلب تلك السرديّة رأساً على عقب، ويُعيد للجزيرة تاريخها الطبيعيّ المُغيّب. ذاك أنّ الكهوف، التي لم تُستنطق من قبل، باتت تتحدّث الآن بلغة العلم، مقدّمةً شهادتها الصخريّة ضدّ سرديّة الاستبعاد التاريخيّ.
في دراسة نُشرت حديثاً في مجلّة Nature المرموقة (Markowska et al., 2025)، كشف فريق من الباحثين، بقيادة هيئة التراث السعوديّة، عن أدلّة جيولوجيّة تؤكّد مروراً متكرّراً للجزيرة العربيّة بفترات رطبة جعلتها خضراء يانعة. هذه الأدلّة، المتمثّلة بـ 22 تكويناً كلسيّاً من سبع كهوف في وسط السعوديّة، توزّعت على هضبة نجد (في مناطق المجمعة، وادي، الدوادمي، الرياض والقصيم)، يعود بعضها إلى 7.44 مليون سنة، ما يجعلها أقدم سجلّ مباشر للرطوبة في تاريخ الجزيرة على الإطلاق. وفي هذا ما يسدّ فجوة معرفيّة هائلة ظلّت فاغرة فاها – كأفعى التاريخ التي ابتلعت روايات كاملة – في فهمنا للمناخات القديمة، ويبرهن أنّ المنطقة لم تكن صحراء قاحلة دائماً، بل شهدت عصوراً كانت فيها مروجاً وأنهاراً.
نحن، إذن، أمام مفارقة كبرى: الجزيرة التي أُخرجت من التاريخ البشريّ، ووُصفت بأنّها هامش حضاريّ، كانت في الواقع ممرّاً حيويّاً للهجرات البشريّة، وجسراً بيئيّاً ربط قارّات العالم. هذا اقتضى أن تكون أرضاً خصبة، معشوشبة، تتيح للإنسان والحيوان العبور والاستقرار. والأهمّ من ذلك، أنّها لم تكن أسيرة للجفاف – كما لو كان قدراً لازباً – بل عاشت دورات مناخيّة غنيّة بالأمطار والمياه.
فالاستشراق هنا لم يكن مجرّد توصيف جغرافيّ، بل هندسة معرفيّة للاستبعاد، نحتت الجزيرة خارج التاريخ ثمّ تبرّعت بشرح غيابها. لم يصف التضاريس فحسب، بل رتّب الحقّ في التاريخ: مَن يملك ماضياً ومَن لا يملك سوى حاضر رمليّ. هل كانت «حضارة الجفاف»، التي وصفها المستشرقون، مجرّد اختزال متعسّف للتاريخ الطبيعيّ للمنطقة؟ وهل كان وصف البلاد العربيّة بـ»الصحراء الروحيّة» تبسيطاً يخفي تعقيداً جيولوجيّاً وبيئيّاً أعمق؟ لم يعد من شكّ في ذلك، فالكهوف الآن ليست رمزاً للخوف أو مكاناً للعزلة، بل أرشيفاً للحقيقة، ومنصّة للشهادة ضدّ الوهم الاستشراقيّ.
لم تكن الكهوف لتنطق بصدى فقط، بل بحسابات ذرّية تُعيد صياغة التاريخ الطبيعيّ للجزيرة. ذاك أنّ العلماء استخدموا تقنية التأريخ بالأورانيوم والثوريوم ليحدّدوا عمر كل طبقة رسوبية، واستخرجوا من نظائر الأوكسجين والكربون إشارات دقيقة تدل على معدلات التبخر والرطوبة. لقد أصبحت الكهوف دفاتر أرصاد، والقطرات المتكلّسة مرآة مناخ لملايين السنين، والحجارة التي لطالما فُسِّرت على أنّها دليل على صمت المكان، غدت ناطقة بلغة العلم عمّا لم تنطق به الكتب.
اللافت أنّ هذه الفترات الرطبة تزامنت مع تغيّرات في ميلان الأرض ودورانها حول الشمس، في ما يُعرف بـ«دورات ميلانكوفيتش». وكأنّ الجزيرة كانت تتحرّك مناخيّاً ليس بفعل السحب وحدها – كما يفهم الناظر السطحيّ – بل بفعل مدارات الكواكب. نحن أمام رقصة فلكيّة خفيّة كانت تُمطر هنا وتُجدب هناك، في إيقاع لا يدركه إلاّ العلم الحديث، مثله كمثل لحن غامض يعزفه الكون، لا تلتقطه أذن راعي الإبل في الصحراء، مع أنّه كان دائماً يحوم حوله.
والأكثر إثارة أنّ الباحثين اكتشفوا تشابهاً في توقيت الفترات الرطبة مع أدلّة مماثلة من شمال إفريقيا والقرن الإفريقيّ، ما يدعم فرضيّة أنّ الجزيرة كانت جزءاً من نظام بيئيّ مشترك، وممرّاً حقيقيّاً للكائنات والحضارات. وهكذا فإنّ الجزيرة التي رُسمت كرمل ساكن، تتبدّى شريطاً من التفاعل الدائم بين القارّات، وكأنّ خيوط التاريخ البشريّ كلّها كانت تنسج عبر تضاريسها، لا حولها كما أراد الاستشراق أن يوهم.
المثير للاهتمام أنّ الحديث النبويّ الشريف سبق العلم في الإشارة إلى هذه الحقيقة. يقول النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وسلّم): «..لا تقوم الساعة حتّى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً» . الكلمة المفتاحيّة هنا هي «تعود»، أي أنّها كانت كذلك في الماضي. ما اعتُبر نبوءة مستقبليّة أو استعارة مجازيّة يتبيّن أنّه إشارة إلى حقيقة تاريخيّة، يؤكّدها العلم اليوم. وهذا التناغم بين الوحي والفحص العلميّ، بين الإشارة النبويّة والكشف الجيولوجيّ، يضع الخطاب الدينيّ في مستوى فهم أعمق للطبيعة ممّا توهّمه المستشرقون، ويسائل المنظومة المعرفيّة التي أرادت وضع الدين في قفص الخرافة والغيبيّات.
والحال أنّ المذهل في هذا الاكتشاف ليس فقط ما يقدّمه من معرفة علميّة، بل مصدره أيضاً. ذاك أنّه لم يأتِ من مؤسّسة غربيّة «تشرح» لنا تاريخنا – كما لو كنّا قاصرين عن فهم أرضنا – بل من هيئة التراث السعوديّة، التي انخرطت في مشروع بحثيّ دوليّ (Palaeodeserts) يهدف إلى إعادة قراءة تاريخ الجزيرة العربيّة من خلال الأدلّة البيئيّة. هكذا تنقلب المعادلة: الجزيرة العربيّة، موضوع المعرفة سابقاً، تتحوّل إلى منتِجةٍ للمعرفة. والعلماء السعوديّون، الذين كانوا مستهلكين للسرديّات الغربيّة، يصبحون صانعين للرواية العلميّة. ليس هذا مجرّد اكتشاف جيولوجيّ، بل استرداد لحقّ معرفيّ، وقلب لأدوار ظلّت ثابتة – كأحجار الكهوف نفسها – أمداً طويلاً.
ومن مفارقات التاريخ أنّ الغرب لم يعرف الجزيرة إلاّ كمصدر للطاقة، كخزّان نفطيّ يمدّ صناعاته بالوقود، فإذا بها اليوم مصدر للطاقة المعرفيّة، ولمعادلات جديدة في فهم تاريخ المنطقة والعالم. وإذا كانت رؤية 2030 في المملكة العربيّة السعوديّة تسعى إلى تنويع الاقتصاد وبناء مستقبل أكثر استدامة، فهذا الاكتشاف يضيف بُعداً تاريخيّاً وبيئيّاً لتلك الرؤية. فإعادة رسم صورة الجزيرة العربيّة وتاريخها هي أيضاً إعادة رسم لمستقبلها. الماضي الأخضر يشرح مستقبلاً أخضر محتملاً، ولكنّه هذه المرّة ليس نتاج دورات فلكيّة، بل إرادة إنسانيّة تسعى إلى تصحيح مسارات تنمويّة مغايرة.
على أنّ الأهميّة الثقافيّة لهذا الاكتشاف تتجاوز حدود الجغرافيا والتاريخ. فهو يقدّم تحدّياً جوهريّاً للخطاب الاستشراقيّ الذي اختزل المنطقة في صورة نمطيّة جامدة، وكأنّ الجزيرة – التي كانت خضراء ثمّ عادت جرداء ثمّ ستعود خضراء – لا تتغيّر ولا تتبدّل. ويُثبت هذا الاكتشاف أنّ الجزيرة العربيّة، التي رُسمت كفراغ صامت، كانت في الواقع مسرحاً محوريّاً في رحلة الإنسان على الأرض، ومكاناً شهد حركة من وإلى وعبر، لا مجرّد سكون وركود وجمود.
ما يحدث اليوم هو نوع من «العدالة المعرفيّة»: الكهوف تنطق بما أُسكت عنه قروناً، والصحراء تكشف عن ذاكرة مائيّة خُبّئت تحت رمالها. ليس هذا مجرّد قلب لصفحة، بل إعادة كتابة لكتاب كامل سُطِّرت عناوينه بحبر الأوهام، ورُسمت خرائطه بأصابع الجهل، وقُرئت فصوله بعيون موصدة عن الحقيقة.
وبين حديث النبوءة ومعادلات العلم، بين ماضٍ تكشفه الكهوف ومستقبل تستقرؤه الرؤى، تعود الجزيرة العربيّة إلى مكانها الطبيعيّ: ليست هامشاً جافّاً، بل مركزاً نابضاً، تتقاطع فيه البشريّة بالطبيعة، والتاريخ بالمستقبل. وإذا كانت الجزيرة فيما مضى صفحة بيضاء يخطّ عليها الغريب ما يشاء من فرضيّات وتوهّمات، فإنّها اليوم تُملي هي – من أعماق كهوفها ورواسبها – سرديّتها على عالم القرن الحادي والعشرين.
والمفارقة أنّ هذا الاكتشاف يأتي في لحظة يتحدّث فيها العالم عن تغيّر المناخ كخطر داهم، ليُذكّرنا بأنّ المناخ كان دائماً متغيّراً، وأنّ الأرض كانت دوماً تبدّل جلودها كالأفعى. لكنّ الفرق أنّ التغيّر السابق كان طبيعيّاً، بفعل ذلك الإيقاع الفلكيّ الخفيّ، فيما التغيّر الحاليّ ناتج عن تدخّل بشريّ خطير، خارج عن ذلك الإيقاع، ومربك لتلك الموسيقى الكونيّة التي ظلّت تعزف زمناً طويلاً قبل أن يعبث الإنسان بأوتارها.
أليس من اللافت أنّ تكون هذه الكهوف السعوديّة عنصراً في معادلة جديدة لفهم أزمة المناخ العالميّة؟ وأليس من المفارق أن يأتي هذا الصوت العلميّ من منطقة لطالما نُظر إليها كمجرّد خزّان للنفط، أي مصدر للتلوّث ولغازات الدفيئة، فإذا بها مصدر لفهم أعمق للنظام المناخيّ الذي نهدّده اليوم؟
في المحصّلة، نحن أمام اكتشاف يتجاوز الدلالة العلميّة ليصبح بياناً ثقافيّاً: الجزيرة العربيّة تتحدّث عن نفسها، بلغتها، من كهوفها. ولعلّ المستشرق الذي كتب أنّ العرب بلا تاريخ... لم يسأل الصخور جيّداً. أو لعلّه كان يسأل، ولكنّ بلغة استعلاء لا تليق بمخاطبة الحجر والتراب. والصخور، كما تبيّن، لا تُجيب إلاّ من يستنطقها بتواضع العالم وشغف الباحث، لا بغرور مَن يظنّ أنّه قد امتلك حقّ رسم خريطة العالم والإنسان.
رابط الدراسة العلمية الأصلية المنشورة في مجلة Nature بعنوان:
“Recurrent humid phases in Arabia over the past 8 million years”
https://www.nature.com/articles/s41586-025-08859-6