من طلعات الدرون إلى فواتير الغاز… إسرائيل تُدافع، الخليج يموّل، ومصر ترفع شعار “لن نركع”!
ثمة في العنوان ما قد يصدم القارئ العربي، ذاك الذي تربى على شعارات "الكيان الصهيوني" و"العدو الغاصب". بيد أن الوقائع، تلك العنيدة التي لا تستأذن أحداً، تروي قصة أخرى؛ قصة جيش إسرائيلي يحلق في سماء سيناء لا ليحتل أو يعتدي، بل ليحمي مصر من أعدائها... الذين يحملون جنسيتها!
والحال أن من يتابع مسلسل العمليات الإسرائيلية في سيناء منذ 2011، يكتشف مفارقة تستحق التأمل: إسرائيل، العدو التاريخي المفترض، تقوم بما عجز عنه الجيش المصري، أو ربما بما لا يريد القيام به. أكثر من مئة ضربة جوية بين 2015 و2018، طائرات بدون طيار تحلق أسبوعياً، تنسيق استخباراتي يفوق ما كان بين الحلفاء التقليديين. وكل هذا، طبعاً، "سري" و"غير رسمي" و"لا نعلم عنه شيئاً"، كما يردد المتحدثون العسكريون المصريون بوجوه لا تخلو من الحرج.
(لقراءة الخبر، اضغط على الرابط)
لعل المشهد الأكثر دلالة كان في أغسطس 2013، حين حلقت طائرة إسرائيلية بدون طيار فوق قرية العجرة بشمال سيناء، واستهدفت خلية من "أنصار بيت المقدس" كانت تستعد لإطلاق صواريخ على إيلات. النتيجة؟ أربعة قتلى من "خيرة المجاهدين" كما وصفتهم الجماعة نفسها. رد الفعل المصري الرسمي؟ نفي قاطع وحديث عن "انفجار داخلي" أو "خطأ تقني"! يلوح أن الحقيقة أصبحت عبئاً ثقيلاً على الدولة المصرية، فباتت تفضل الكذبة المريحة على الاعتراف المُحرج.
إذ نتذكر أن سيناء، تلك الأرض التي حررها السادات بالحرب والسلام معاً، تحولت بعد 2011 إلى ما يشبه إمارة داعشية مصغرة. "ولاية سيناء" صارت اسماً يثير الرعب، ليس في قلوب الإسرائيليين وحدهم، بل في قلوب المصريين أنفسهم. وحين عجز الجيش المصري عن السيطرة على الوضع، رغم عشرات الآلاف من جنوده ومليارات الدولارات من معداته، جاء "العدو" ليؤدي المهمة بكفاءة لافتة.
أغلب الظن أن الرئيس السيسي فهم اللعبة جيداً. فالرجل الذي وصل إلى السلطة بوعود الاستقرار والأمن، وجد نفسه أمام معضلة: كيف يحارب الإرهاب في سيناء دون أن يعترف بفشل جيشه؟ الحل كان عبقرياً بطريقته الشرق أوسطية: دع إسرائيل تقوم بالعمل القذر، وأنكر كل شيء! هكذا يحصل على النتيجة المطلوبة دون أن يدفع الثمن السياسي.
والحق أن التنسيق لم يتوقف عند الضربات الجوية. فبين 2015 و2018، نفذت إسرائيل أكثر من 100 ضربة جوية داخل سيناء ضد "ولاية سيناء" الداعشية، باستخدام طائرات بدون طيار ومقاتلات ومروحيات منزوعة الشعار، بموافقة شخصية من السيسي نفسه (نيويورك تايمز، معهد واشنطن). وكانت الطائرات الإسرائيلية تحلق مرة أسبوعياً على الأقل في ذروة الحملة (Geneva Academy)، فوق رؤوس ذلك الجيش الذي تصفق له في الأعياد الوطنية، بينما يستقبل القصف الإسرائيلي في الليالي المظلمة بترحيب صامت!
فحين احتاج السيسي إلى تبرير زيادة قواته في سيناء بما يتجاوز قيود معاهدة السلام، وافقت إسرائيل فوراً. وحين أرادت إسرائيل ضمان أمن حدودها الجنوبية، سمحت مصر ضمنياً بعمليات "خاطفة" داخل أراضيها. تبادل خدمات من النوع الذي يُخفى عن الشعوب ويُمارس في الغرف المظلمة.
يا مصري، استيقظ من وهم الكرامة!
لئن كانت هذه "الشراكة" الأمنية تحمي الطرفين من خطر مشترك، فإنها تكشف أيضاً عن حقيقة أقسى من طعم العلقم: يا مواطن مصر، هل تساءلت يوماً من أين تأتي الكهرباء التي تضيء بيتك؟ هل تعلم أن كل مصباح في شقتك المتواضعة يُضاء بغاز "العدو الصهيوني"؟ هل تدرك أن الجيش الذي تصفق له في المناسبات الوطنية يحتاج إلى طائرات إسرائيلية لحمايتك من "إخوانك" في سيناء؟
والحق أن لا ذنب لك يا مصري في هذه المهزلة. أنت الضحية الأولى والأخيرة، محكوم عليك بالعيش في مثلث اللعنة: نظام يكذب عليك صباح مساء، وإسرائيل تُنير بيتك رغم أنفك، والخليج يسدد فواتيرك وأنت لا تدري! تُحكم بقبضة واحدة لكن بثلاثة أذرع: ذراع يخنقك بالأكاذيب القومية، وذراع يمدك بالطاقة من تل أبيب، وذراع ثالثة تدفع الثمن من الرياض وأبوظبي. وأنت؟ أنت مجرد رقم في لعبة كبرى، تدفع ثمن كهرباء إسرائيلية بأموال خليجية، وتصدق أن عدوك في القدس بينما من يذلك في القاهرة!
هل تُصفق في أكتوبر لجيش تقصف إسرائيل نيابة عنه في سيناء؟ هل تهتف للوطنية بينما 1.5 مليار قدم مكعب من الغاز الإسرائيلي تتدفق يومياً لإضاءة بيتك؟ هل تلعن "الكيان الصهيوني" وأنت تشاهد التلفاز بكهرباء صهيونية، في بيت يُبرد بتكييف إسرائيلي، تحت حماية طائرات إسرائيلية تحلق فوق سيناء؟
ذاك أن حكومتك، تلك التي تملأ أذنيك بشعارات "الكرامة" و"العزة" و"مصر التي لا تركع"، هي نفسها التي ركعت أمام حقول الغاز الإسرائيلية. صفقة بـ15 مليار دولار، تجعل من "الكيان المحتل" شريان الحياة لـ100 مليون مصري. فحين تدفع فاتورة الكهرباء الشهرية، اعلم أن جزءاً من نقودك يذهب إلى خزائن تل أبيب!
والأنكى من ذلك، أن النظام الذي يبيعك وهم "القومية العربية" في النهار، يستقبل الطائرات الإسرائيلية في الليل. أكثر من مئة غارة جوية نفذتها إسرائيل فوق أرضك، فوق سيناء "المحررة"، بموافقة وتنسيق كاملين من جيشك "الوطني". وحين تُسأل الحكومة، تنفي وتكذب وتتهم الصحافة الأجنبية بـ"التآمر"!
إلى متى ستبقى أسير هذه الأكاذيب؟ إلى متى ستصدق أن عدوك في تل أبيب بينما من يذبحك في العريش والشيخ زويد؟ إلى متى ستدفع ثمن كهرباء إسرائيلية وأنت تلعن إسرائيل؟
يا خليجي، كفى إذلالاً بأموالك!
راهناً، ومع إغلاق معبر رفح الذي تسيطر عليه إسرائيل من الجانب الفلسطيني، تكتمل الصورة السريالية. مصر التي كانت تتغنى بدورها كـ"شقيقة" فلسطين الكبرى، تقف عاجزة أمام معبر مغلق، تنتظر موافقة إسرائيلية لفتحه. والأعجب أنها حين تريد تبرير إغلاقها للمعبر من جانبها، تتذرع بـ"العمليات العسكرية" الإسرائيلية!
نفاق التطبيع: حين تُعلم القاهرة الخليج دروساً في "الكرامة"!
بيد أن الأمر الأكثر إثارة للسخرية والقرف معاً هو الازدواجية المصرية الفاضحة تجاه التطبيع. فمصر التي تنصب نفسها واعظة للخليج في "الكرامة العربية" و"رفض التطبيع"، وتطلق كلاب إعلامها على الإمارات والبحرين لتوقيعهما اتفاقيات إبراهيمية، هي نفسها الدولة العربية الوحيدة التي تمارس التطبيع بأبشع صوره وأكثرها إذلالاً!
ثمة تطبيع أمني حين تحلق الطائرات الإسرائيلية فوق سيناء كحامية للجيش المصري. وثمة تطبيع طاقي حين يتدفق الغاز الإسرائيلي ليضيء كل بيت ومصنع ومسجد في مصر. وثمة تطبيع استراتيجي حين يتبادل الجيشان المعلومات والتنسيق كحليفين لا كعدوين. ومع ذلك، ترفض القاهرة الانضمام رسمياً للاتفاقيات الإبراهيمية. لماذا؟ لأنها ببساطة لا تحتاج إلى توقيع على ما تمارسه فعلياً منذ سنوات!
والحال أن من وقعوا الإبراهيمية من دول الخليج لا توجد طائرات إسرائيلية واحدة تحلق في سمائهم، ولا يعتمدون على الغاز الإسرائيلي لإنارة مدنهم، ولا تُستخدم ودائعهم لتمويل صفقات مع تل أبيب! بينما مصر، "قلعة الصمود والممانعة"، تفعل كل ذلك وأكثر، ثم تتباكى على "خيانة" الآخرين!
أليس في ذلك ما يكفي من النفاق ليدفن أسطورة "الريادة القومية" التي تتشدق بها القاهرة؟ أليس حرياً بمن يعيش في بيت من زجاج إسرائيلي أن يكف عن رمي الآخرين بحجارة "الخيانة"؟
والحق أن من يرفض التوقيع على الورق، ليس بريئاً من الفعل؛ بل هو من أجرم في الظلام واحتقر من وقع في النور. ذاك أن التطبيع الصامت أخس من التطبيع المعلن، والنفاق أحط من الصراحة، والكذب على الشعوب أقذر من الاعتراف بالحقائق!
بيد أن السؤال الأكثر إلحاحاً يا أهل الخليج: إلى متى ستستمرون في تمويل هذه المهزلة؟ أنتم تدفعون المليارات، ومصر تشتمكم على شاشاتها كل مساء! أنتم تودعون المليارات في البنك المركزي المصري، وإعلامهم يصفكم بـ"البدو" و"عبيد أمريكا" و"أذناب الصهيونية"!
هل تعلمون أن الغاز الإسرائيلي الذي يضيء القاهرة يُدفع ثمنه من ودائعكم؟ أن الـ28.3 مليار دولار التي أودعتموها في البنك المركزي المصري عام 2023 تُستخدم جزئياً لتسديد فاتورة الـ15 مليار دولار لشركات الغاز الإسرائيلية؟ هل تدركون أن الطائرات الإسرائيلية التي تحمي سيناء تطير بوقود اشتُري بأموالكم؟ أنتم تدفعون لإسرائيل بالواسطة، عبر خزائن مصر التي تتظاهر بمعاداة التطبيع!
يلوح أن الخليج تحول إلى بقرة حلوب للنظام المصري: يحلبها في الصباح، ويركلها في المساء! يأخذ منها المليارات بابتسامة دبلوماسية، ثم يطلق عليها كلاب الإعلام بشتائم "قومية"! أليس في ذلك ما يكفي من الإذلال؟
آن الأوان يا خليج أن توقفوا التمويل غير المشروط! أن تربطوا كل قرش باحترام سيادي واضح وصريح. لا دعم بلا شراكة حقيقية، ولا شراكة مع من يسبكم في العلن ويتوسلكم في السر. كفى استجداءً للود ممن يبيعكم بأرخص الأثمان! اسحبوا ودائعكم، أوقفوا منحكم، اربطوا كل دولار بشرط: إما احترام كامل أو قطيعة كاملة!
فالخليج اليوم هو من يملك الثروة والمكانة والقرار السيادي. هو من يبني المستقبل بينما غيره يتغنى بأطلال الماضي. فلماذا يُدار من حطام مشروع قومي مأزوم ومفلس؟ لماذا يدفع فواتير من فشل في حماية نفسه؟ آن للخليج أن يقود لا أن يُقاد، أن يشترط لا أن يُبتز، أن يفرض احترامه لا أن يشتريه بالمليارات!
المشهد الكامل: حين يلتقي النفاق بالفشل
والحال أن المعادلة باتت فاضحة بما يكفي: إسرائيل تحمي مصر من الإرهاب، وتزودها بالطاقة. الخليج يمول العملية كلها ويمنع الانهيار الاقتصادي. ومصر؟ مصر تمثل دور البطل القومي على المسرح، بينما تمد يديها تحت الطاولة!
الخليج يكتب الشيكات، ومصر تصدر البيانات. الخليج يمنع الانهيار، ومصر تتغنى بـ"الصمود الأسطوري". الخليج يدفع لإسرائيل ثمن الغاز الذي يضيء القاهرة، ومصر تلعن "الكيان الغاصب" على المنابر! إسرائيل تقصف الإرهابيين في سيناء، ومصر تدعي أنها "حامية العروبة"!
أغلب الظن أن هذه اللعبة المثلثة وصلت إلى نهايتها. فحين تحتاج مصر إلى طائرات إسرائيلية لحمايتها من الإرهاب، وإلى غاز إسرائيلي لإضاءة مدنها، وإلى أموال خليجية لمنع انهيار اقتصادها، فربما حان الوقت للجميع للاعتراف بالحقائق المرة.
للمصريين نقول: نظامكم باعكم بثمن بخس. باع كرامتكم لإسرائيل مقابل الأمن والكهرباء، وباع قضيتكم الفلسطينية مقابل البقاء في السلطة. أنتم تعيشون على الغاز الإسرائيلي والمال الخليجي، بينما يُطعمونكم أوهام "الريادة" و"القيادة التاريخية"!
وللخليجيين نقول: أموالكم تُهدر في بئر بلا قاع. تدفعون لنظام يحتقركم علناً ويتملقكم سراً. تمولون دولة تعتمد على عدوكم المفترض في أبسط احتياجاتها. أليس الأجدر أن تستثمروا في من يحترمكم، بدلاً من من يبتزكم عاطفياً كل أزمة؟
حين تصبح السيادة مزحة ثقيلة
يبقى السؤال الأخير: إلى متى ستستمر هذه المسرحية الهزلية؟ إلى متى سيدفع الخليج فاتورة النفاق المصري؟ إلى متى سيصدق المصريون أكاذيب نظامهم؟ وإلى متى ستحمي إسرائيل مصر من نفسها؟
الإجابة، على ما يبدو، مرتبطة بلحظة الصحوة الكبرى. بيد أن هذه الصحوة لن تأتي بالأماني الطيبة أو الخطب الرنانة. ستأتي حين يدرك الخليجيون أن عقدة "الأخ الأكبر" المصري انتهت صلاحيتها منذ زمن، وأن مصر اليوم ليست أم الدنيا بل عالة عليها. ستأتي حين يُعلن الخليج بصوت واحد: لا دعم دون احترام، لا مال لمن يشتمنا في الصباح ويستجدينا في المساء، لا ودائع لمن يبيعها لإسرائيل ثم يتهمنا بالتطبيع!
آن الأوان يا خليج أن تُعيدوا تعريف الشراكة: إما احترام متبادل ومصارحة كاملة، أو فليبحث النظام المصري عن ممول آخر لصفقاته مع "العدو الصهيوني". فإن لم توقفوا هذه اللعبة اليوم، ستصبحون غداً ليس فقط الممولين للابتزاز، بل الضامنين السياسيين له. وحينها، لن تكون الضحية مصر وحدها، بل الخليج كله سيدفع ثمن جبنه عن قول الحقيقة.
أما المصريون، فلحظة صحوتهم مرهونة بإدراكهم أن الذل الحقيقي ليس في الاعتراف بالواقع، بل في العيش على أكاذيب تُهينهم كل يوم. حين يدركون أن "الريادة التاريخية" لا تُبنى على الغاز الإسرائيلي والمال الخليجي، وأن "الكرامة الوطنية" لا تتحقق بإنكار من يحميك ويُطعمك ويُنير بيتك!
والحق أن من لا يقول الحقيقة اليوم، سيُدفن تحت ركامها غداً. فالتاريخ لا يرحم الجبناء، ولا يغفر للمنافقين، ولا يُكرم من يبيع كرامته بثمن بخس. والشعوب التي تقبل العيش على الأوهام، محكوم عليها بالموت البطيء تحت وطأة أكاذيبها.
حتى تحين تلك اللحظة الفاصلة، ستبقى الطائرات الإسرائيلية تحلق فوق سيناء كحامية للأمن المصري، والغاز الإسرائيلي يتدفق عبر الأنابيب كشريان حياة للاقتصاد المصري، والأموال الخليجية تُصب في خزائن مصر كأوكسجين لنظام يحتضر، بينما القاهرة تواصل لعبة النعامة، دافنة رأسها في رمال النفاق، متظاهرة بأن شيئاً من هذا لا يحدث.
والأنكى من كل ذلك؟ أن الجميع يعرف الحقيقة، لكن لا أحد يجرؤ على قولها بصوت عال. إلا نحن، هنا، الآن.
ولعل الخلاصة الأخيرة في هذا المشهد العبثي: أن الخليج اليوم لا يبحث عن انتقام من مصر، بل عن احترام لنفسه، لمكانته، لكرامته السيادية. والاحترام لا يُشترى بالبترودولار، بل يُنتزع بقرارات شجاعة وموازين قوى جديدة. فإما أن يفرض الخليج شروطه ويستعيد هيبته، أو يبقى إلى الأبد بقرة حلوب للأنظمة الفاشلة.
فهل من مستمع؟ أم أن الصمم السياسي بات وباءً عربياً لا دواء له؟
والحق أننا لا نُعلن الحقيقة فقط، بل نُعلن موت المسرحية وانكشاف الممثلين. فالستار سقط، والأقنعة تساقطت، ولم يبق إلا الوجوه العارية: إسرائيل الحامية، ومصر المحمية، والخليج الممول. وكل من يدعي غير ذلك، فهو إما أعمى أو منتفع من العمى!