في بلد لا يملك كهرباء لتشغيل ثلاجة، يخرج نعيم قاسم يطلب من السعودية “فتح صفحة جديدة”.
تخيّلوا المشهد: تنظيم مسلح غارق في أزماته، يمد يده لدولة تبني تحالفًا نوويًا مع باكستان.
نملة تقترح على الأسد أن يتقاسما الصيد.
لكن السؤال: هل خطاب قاسم تحوّل استراتيجي أم صرخة استغاثة؟
قد يبدو براغماتيًا، لكنه في جوهره اعتراف ضمني بأن استراتيجية المواجهة المباشرة انهارت، وأن الحزب يبحث عن مخرج بعدما فقد القدرة على المناورة التي تمتع بها لعقود.
الحزب لم يعد مقاومة بل مريضًا طريح سرير العناية المركزة.
نصر الله وكبار القيادات اغتيلوا في بيروت، هجمات البياجر قضت على الصف الثاني، هذه الاغتيالات، مع الضربات المتواصلة المؤلمة، نزفت الحزب حتى العظم.
المفارقة صارخة. الحزب الذي شتم الرياض عقدين يطلب شراكتها اليوم.
يقول: “سلاحنا ضد إسرائيل فقط”.
لكن ذاكرة اللبنانيين مثقلة بالقصير والغوطة، حيث تورّط الحزب في معارك دامية لم تمنع سقوط النظام الذي قاتل لأجله.
الخارج يزيد المشهد قسوة.
إسرائيل قصفت الدوحة بلا حساب.
السعودية ردّت بتوقيع اتفاقية دفاعية مع باكستان في سبتمبر 2025.
اتفاقية لا تذكر النووي صراحة، لكن باكستان تملك 170 رأسًا نوويًا. رسالة واضحة: الرياض اليوم تفاوض من موقع ردع استراتيجي.
وقبلها جاءت الطعنة من دمشق.
الأسد الذي كان ذراعًا لإيران انتهى لاجئًا في موسكو.
وعلى أنقاضه جلس أحمد الشرع، السني المنتصر القادم من أدلب، رئيسًا لسوريا بدعم سعودي واضح وعلني.
ترامب أعلن من الرياض رفع العقوبات عن دمشق بناءً على طلب الأمير محمد بن سلمان.
دمشق، التي كانت جسر السلاح الإيراني، صارت بوابة الرياض.
وبسقوطها، انقطع الشريان البري الذي ربط طهران بالضاحية.
ولم تكن طهران نفسها بمنأى عن الوهن.
فحرب يونيو 2025 مع إسرائيل استنزفتها، دمّرت مواقعها النووية، وجعلتها تلهث لإعادة البناء بدل تمويل حلفائها.
اليوم، حزب الله يعتمد على سلاح منهك وحليف أضعف منه.
أما الداخل اللبناني، فلم يعد ساكنًا.
انتُخب جوزيف عون رئيسًا في يناير 2025. وفي سبتمبر أقرّت حكومته خطة يقودها الجيش لنزع السلاح غير الشرعي قبل نهاية العام.
خطة بخمس مراحل: تبدأ من الجنوب وتنتهي بالضاحية والبقاع.
ليست شعارات، بل قرارات رسمية، استغلت لحظة ضعف الحزب لفرض سيادة الدولة.
والضغط الشعبي يتزايد أيضًا.
المطالب لم تعد شعارات بل صرخة من رحم الأزمات: كهرباء لا قذائف، دولة لا دويلة، خبز لا خطب.
الناس يعيشون تحت انهيار الليرة، أموالهم محتجزة في المصارف، والمرفأ المدمر منذ 2020 ما زال شاهدًا على دولة عاجزة وميليشيا أثقلتها الحروب.
حتى قاعدته الشيعية بدأت تتململ بعد النزوح والدمار.
وهنا يظهر الفارق بين الأمس واليوم.
حسن نصر الله كان يصرخ من موقع قوة، متهمًا السعودية بكل قبيح.
أما نعيم قاسم، فيدعو إلى “تجميد الخلافات” بصوت خافت ذليل.
ولم يقتصر الطوق على الداخل والإقليم، بل شمل الغرب أيضًا.
فبعد لقاء ترامب–الشرع، تبنّت واشنطن دمشق الجديدة كبديل سياسي.
أما في الرياض، فسيقرأ خطاب قاسم كاعتراف متأخر بالعجز.
وفي تل أبيب، لن يُقرأ كتهديد، بل كدليل على أن الحزب وصل إلى حدود استنزافه القصوى.
التاريخ لا يرحم، لكنه يمنح أحيانًا فرصة جديدة.
كما أنقذت السعودية الكويت عام 1990 حين حشدت العرب والعالم لردع الغزو، تقف اليوم أمام مشهد مشابه: مواجهة الميليشيات لا لتبتلع لبنان، بل لتحميه من أن يصبح رهينة لإيران أو فريسة لإسرائيل.
أما أنا، الغريب عن لبنان، فأرى المشهد بلا أقنعة.
بلد يملك أجمل شواطئ المتوسط، ولا يملك كهرباء لتبريد سمكة.
بلد يتحدث قادته عن “تحرير القدس”، بينما أمهات ينتظرن في طوابير الخبز، يحملن أرغفة محترقة بيد وأطفالًا جائعين باليد الأخرى.
هذه ليست مقاومة. هذه مهزلة على جثث الناس.
وهكذا نعود للبداية.
تنظيم محاصر يفاوض دولًا.
رئيسه يخطط لنزع سلاحه.
وطوائفه تصرخ طلبًا لحياة طبيعية.
بين غبار الضاحية وأنوار الرياض النووية، الفرق صار واضحًا:
من يعيش على رماد الماضي، ومن يكتب التاريخ بالحبر الاستراتيجي.
إن مضت خطة نزع السلاح حتى نهايتها، فلن يكون السؤال: هل يحتفظ الحزب بسلاحه؟ بل هل يحتفظ بوجوده السياسي ذاته.
والقرار الأخير، في نهاية المطاف، لن يُحسم في موسكو أو طهران أو الرياض وحدها، بل في بيروت، حيث يختار اللبنانيون بين دولة ودويلة.