يطالعنا في كل عصر ذلك المشهد المسرحي العجيب: عالمٌ يخلع بيعته للسلطة الشرعية، يحمل السلاح في وجه الدولة، يموّل جيش البغي، ثم حين يُقتل تنهال دموع "المظلومية" وتُرفع رايات "الشهادة"! كأنّ العمامة تاجٌ يمنح صاحبه صكّ براءة من الشريعة، أو كأنّ حفظ القرآن جواز مرور للتمرد على الإمام.
ذاك أنّ الوعي العربي - المسكون بأوهام القداسة - يرفض أن يرى الحقيقة المرّة في قضية الحجّاج وسعيد بن جبير. يصرّ على رسم لوحة رومانسية بائسة: حاكم "متجبر" يقتل عالماً "مظلوماً". لكنّ هذه اللوحة الباكية تتجاهل حقيقة صارخة: أنّ سعيد بن جبير لم يكن درويشاً منزوياً في محرابه، بل كان "رأس حربة" في "تمرد مسلح" هدّد وحدة الأمة.
ولعلّ أخطر ما في هذه المسرحية المأساوية أنّها نتاج عمليّة تشويه ممنهجة بدأت مع العباسيين وتسلّلت كالسمّ إلى كتب التاريخ والتراجم. ذاك أنّ الدولة العباسية، التي قامت على أنقاض الأمويين، احتاجت إلى "شيطنة" خصومها، فصار الحجّاج - أقوى رجالات الدولة الأموية - هدفاً مثالياً لآلة التشويه. وما أسهل أن تجد "مؤرخين" يكتبون ما يُرضي السلطان! فتدفّقت الروايات المختلقة، وتضخّمت الحكايات المبالغ فيها، حتى صار الحجّاج في المخيال الشعبي وحشاً لا يشبع من الدماء.
والأنكى من هذا أنّ روايات الشيعة والخوارج - أعداء الحجّاج اللدودين - تسرّبت بخبث إلى مصادر أهل السنة. فالخوارج، الذين أذاقهم الحجّاج الهزيمة تلو الهزيمة، صنعوا منه صورة "الطاغية المجرم". والشيعة، الذين قمع تمرداتهم وأفشل مؤامراتهم، نسجوا حوله أساطير "السفّاح الظالم". وهكذا، وبقدرة قادر، تحوّلت أكاذيب الخصوم إلى "حقائق تاريخية" يتناقلها المؤرخون بلا تمحيص!
والمضحك المبكي أنّ "تجار المظلومية" - الذين يذرفون الدموع على سعيد بن جبير - يتناسون أنّ علياً قتل في النهروان آلاف "القرّاء" الذين كانت جباههم كأركاب الإبل من كثرة السجود! بل إنّ الخوارج - الذين أفناهم سيف علي - كانوا أشد عبادة وأكثر تلاوة للقرآن من سعيد بن جبير نفسه. فلماذا لا يبكي هؤلاء على "شهداء النهروان"؟ أم أنّ المعايير تختلف حين يتعلق الأمر بالصحابة؟
بل إنّ أبا بكر الصديق - الذي يتغنّى الجميع بعدله - قاتل مانعي الزكاة حتى أفناهم، رغم أنهم كانوا يصلّون ويصومون ويشهدون أن لا إله إلا الله. فإذا كان الحجّاج "ظالماً" في قتل سعيد بن جبير، فماذا نقول عن أبي بكر؟ أليس من السخرية المرّة أن يُدان الحجّاج على ما مُدح عليه الصحابة؟
والطريف أنّ هؤلاء المتباكين على ابن جبير يتجاهلون النصوص الشرعية كأنها لم تنزل! فالله تعالى يقول بصريح العبارة: "فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله". والنبي ﷺ يقول بوضوح صادم: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه". فهل نزلت هذه النصوص لتُطبّق على العامة فقط؟ أم أنّ العمامة تمنح صاحبها حصانة من كلام الله ورسوله؟
ثم إنّ المتاجرين بدم سعيد بن جبير يتعامون عن حقيقة ساطعة: أنّ الرجل نكث بيعته للخليفة الصالح عبدالملك بن مروان مرتين! نعم، مرتين! وكأنّ البيعة الشرعية - التي جعلها الإسلام عقداً مقدساً - صارت كقميص يُلبس ويُخلع حسب المزاج السياسي!
والعجب العُجاب أنّ معارضي الحجّاج يغمضون أعينهم عن إنجازاته العظيمة في بناء الدولة. فالعراق في عهده - الذي امتد عشرين عاماً - تحوّل من بؤرة للفتن إلى منارة للحضارة. أسّس مدينة واسط، نظّم الخراج، مدّ القنوات، وأرسل الجيوش حتى بلغت الهند والسند.
لكنّ الداء العضال في العقل العربي هو عبادة الأشخاص. فما إن يلبس الرجل عمامة حتى يصير معصوماً، وما إن يحفظ بضع آيات حتى يصير فوق المساءلة. وإذا خرج على السلطة الشرعية صار تمرّده "جهاداً"، وإذا قُتل في بغيه صار "شهيداً"! وكأنّ الشريعة نزلت لتُطبّق على العامة فقط، أما "أصحاب العمائم" فلهم شريعة خاصة من نسج خيالهم!
الحجّاج - رحمه الله - فهم هذه المعادلة وفكّكها بحزم. لم يجعل للعمامة حصانة من الشرع، ولم يمنح العالِم امتيازاً فوق النص. طبّق الشريعة على الجميع: كبيرهم وصغيرهم، عالمهم وجاهلهم. وتلك - والله - هي العدالة الحقّة التي يخشاها المتمردون ويكرهها تجّار العمائم.
إنّ إعادة قراءة التاريخ بعين ناقدة تكشف لنا كيف تحوّلت الأكاذيب السياسية إلى "حقائق" تاريخية، وكيف صار تشويه الخصوم "علماً" يُدرس في المدارس. ولعل في قضية الحجّاج وسعيد بن جبير درساً بليغاً في كيف يمكن لحكاية بسيطة - عن والٍ طبّق الشرع على عالم متمرد - أن تتحوّل، عبر قرون من التشويه الممنهج، إلى أسطورة مأساوية عن "الظالم والمظلوم"! وكأنّ التاريخ ليس سوى رواية يكتبها المنتصرون، ويصدّقها المهزومون، ويتناقلها المغفّلون!