09 أغسطس 2025

حين صار الفول حلالاً على الطريقة اليهودية

حكايات من قلب القاهرة عن صفقة غاز تغير طعم الإفطار والكرامة.
‏وزير البترول المصري بيشرب قهوته الصبح - المحوجة على بوتاجاز إسرائيلي - وهو بيقرأ بيان نفي صفقة الغاز. الورقة في إيده بتترعش، مش من الخوف، من بخار الغاز الإسرائيلي اللي طالع من الفنجان. بيقول للصحفيين إن الأخبار "غير دقيقة"، بينما شركة نيوميد الإسرائيلية بتحتفل بـ"أكبر صفقة في تاريخ إسرائيل". مين بيكدب؟ اللي بيدفع ولا اللي بيقبض؟ اللي بيخبي الفضيحة ولا اللي بيعلن الانتصار؟
‏الدكتور أحمد، مهندس بترول في شركة الغاز المصرية، بيوقع كل يوم على أوراق استيراد الغاز من حقل ليفياثان. نفس الدكتور أحمد اللي أبوه استشهد في حرب أكتوبر. بيوقع والقلم بيترعش في إيده، بيقول لزميله: "أبويا كان بيحارب إسرائيل بالسلاح، وأنا بوقع ليهم شيكات بالمليارات." زميله يرد: "ما تزعلش نفسك، ده احنا بنستنزف غازهم." الدكتور أحمد يضحك ضحكة صفرا: "أيوه، بنستنزفهم بسبع دولارات ونص للمليون وحدة حرارية، وهم كانوا بياخدوه مننا بدولار ونص. احنا بنستنزفهم زي ما الضحية بتستنزف السكينة!"
‏من 2005 لـ2012 كنا بنبيع الغاز لإسرائيل. صفقة فساد؟ أكيد. الوزير سامح فهمي حكم عليه بالسجن 15 سنة عشانها، وحصل الي حصل وتم النقض. بس على الأقل كنا البايعين، حتى لو بسعر الخردة. دلوقتي بقينا المشترين بسعر الذهب. كأن التاريخ بيسخر مننا، أو احنا اللي قررنا نسخر من نفسنا.
‏في نفس اليوم اللي مصر وقعت فيه الصفقة - 7 أغسطس 2025 - إسرائيل قصفت مدرسة في غزة. الأطفال تحت الأنقاض . الصواريخ ممولة جزئياً من المليارات المصرية. يعني كل طفل مصري بيروح المدرسة الصبح، بيساهم من غير ما يعرف في قتل طفل فلسطيني. مش بإرادته، بإرادة اللي وقعوا باسمه وصرفوا من جيبه وسكتوا ضميره.
‏سهير عبد الرحمن، مذيعة في قناة حكومية براتب 300 ألف جنيه شهرياً، بتقدم برنامج عن "الإنجازات الاقتصادية العظيمة". بتتكلم عن صفقة الغاز على إنها "شراكة استراتيجية تحقق أمن الطاقة". نفس سهير اللي كانت بتصرخ ضد كامب ديفيد قبل أكتر من عشر سنين. بتخلص البرنامج وتروح فيلتها في التجمع، تولع البوتاجاز الإيطالي - اللي بيشتغل بنفس الغاز - عشان تعمل عشا، وتقعد مع جوزها يخططوا لرحلة أثينا. المقاومة كلام، والغاز أفعال، والفلوس بتغطي على الاتنين.
‏الشيف حسام في فندق الفورسيزونز، بيحضر بوفيه الإفطار للسياح. من ضمنهم 15 سائح إسرائيلي. بيطبخلهم الفول المصري بالغاز المستورد من بلدهم. السياح بياكلوا وبيضحكوا: "طعم الفول ده مألوف، كأننا بناكل في تل أبيب!" الشيف حسام مش فاهم ليه الطعم مألوف. مش عارف إن الغاز جاي من نفس الحقل. الضيافة المصرية بقت بنكهة إسرائيلية، والكوشير (يعني الأكل الحلال عند اليهود، وبيتعمل وفق شريعتهم، زي ما إحنا عندنا الحلال في الإسلام)  مش بس في الأكل، في الطاقة كمان.
‏لحظة صمت هنا. لحظة حزن حقيقي. الدكتور أحمد راح البيت، قعد في أوضة نومه، فتح درج الكومودينو وطلع صورة أبوه بالبدلة العسكرية. بص في عينيه الميتة من 52 سنة وقال بصوت مخنوق: "سامحني يا بابا. أنا مش خاين، أنا مجرد موظف." ودموعه نزلت على الصورة. دموع حقيقية، مش سخرية، مش استهزاء. دموع الخزي اللي مالهاش علاج.
‏العالم فيه 19 دولة بتصدر الغاز. قطر المصالحة تمت معاها وهي أكبر مُصدر في العالم. الجزائر جارتنا وعندها أنابيب لأوروبا. روسيا بتدي خصومات بعد العقوبات. الإمارات اللي اشترت رأس الحكمة بنفس المبلغ عندها فائض. حتى ترينيداد عندها غاز. بس احنا اخترنا الوحيدين اللي بيقتلوا جيراننا.
‏حقل ظهر بتاعنا، أكبر حقل في المتوسط، بتشغله شركة إيني الإيطالية وشركاء أجانب. ليه؟ عشان مديونينلهم مليار و600 مليون. سحبوا سفن الحفر: "ادفعوا الأول." فبقينا في دايرة جهنمية: بنشتري من إسرائيل بالدولار، نبيع للمصريين بالجنيه المنهار، ندفع للإيطاليين بالدولار، عشان يطلعوا غازنا. لو كافكا شاف ده، كان انتحر من اليأس.
‏اللواء أشرف الديب، مسؤول ملف الطاقة في المخابرات، قاعد في اجتماع بفندق سانت ريجس. بيتفاوض مع الإسرائيليين اللي بيضحكوا بالعبري: "مصر بتدفعلنا أكتر من المساعدات الأمريكية!" اللواء مش فاهم عبري، بس فاهم إن الضحكة دي ضحكة انتصار.
‏الشركة المتحدة منشغلة تماماً. عايزه تشغل الرأي العام، طلعت قضية بيع الأعضاء قبل الصفقة باسبوعين. هاجمت تركي آل الشيخ عشان موسم الرياض. ميزانية مليارية للشتيمة، صمت مطلق عن المليارات لإسرائيل. أولوياتها واضحة: فهموا الناس أن محمد عبده أخطر من الاحتلال.
المحامي كريم الشاذلي من المتطوعين في وفد جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل. رجع فخور بمرافعته "التاريخية" التي أقتبس منها الخبراء فعلاً. في مكتبه بجاردن سيتي، فتح اللاب توب - الشاحن في الكهربا اللي جاية من محطة توليد بتشتغل بنفس الطاقة المستوردة - وبدأ يكتب: "انتصرنا قانونياً على الكيان الغازي." قصده "الغاصب" بس الأوتوكوريكت غيرها لـ"الغازي". حتى التكنولوجيا بتسخر منه.
‏الصفقة 15 سنة. الطفل في الروضة، هيدفع فيها لحد الجامعة. هيورث الدين لولاده. العاصمة الإدارية كلفت 25 مليار. دافعين لإسرائيل أكتر من عاصمة. بنبني مدن فرعونية وندفع جزية صهيونية.
‏مطار القاهرة، وفد إسرائيلي للاحتفال بملحق الصفقة. السفير طارق من الخارجية استقبلهم، حاول يبتسم فطلعت تكشيرة. دخلوا صالة كبار الزوار - كان فيها صورة ناصر، اتشالت واتحط نخيل وهرم "محايد". رئيس الوفد قال: "مصر بلد الحضارة... والغاز." السفير رد: "أهلاً وسهلاً." أهلاً بمين؟ سهلاً في إيه؟
‏مصر أول دولة تمول عدوها علناً. فيشي كانت بتماطل النازيين. احنا بندفع بالدولار في الميعاد. بنقاوم بالخُطب ونمول بالصفقات. بنشتم علناً ونحول سراً. بنلعن بالنهار ونبارك بالليل.
‏كل صباح، 100 مليون مصري بيولعوا نار إسرائيلية تحت الفول. الفول المصري بطعم الكوشير. والكوشير؛ أي حلال يهودياً. بنفطر مقاومة ونتعشى استسلام. بنصحى على نشيد بلادي وننام على إيصال الغاز.
‏الصفقة ممضية، والفلوس بتتحول، والغاز بيجي، والضمير ميت. قاعدين نشتم موسم الرياض ونسكت عن غاز تل أبيب. نهاجم حفلة ونبرر صفقة. العدو اللي مش عايز عمرو دياب، مش اللي بيقتل بفلوسنا.
‏الفول بقى كوشير. الإفطار بقى إسرائيلي. المقاومة بالريموت: نوقفها للتوقيع، نشغلها للخطابات. دي مش سياسة، دي انفصام. مش دبلوماسية، دي بهدلة. مش ذكاء، دي غباوة بقيمة الصفقة.
‏الغاز اللي كان نعمة بقى نقمة. والنار اللي كانت بتدفي بقت بتحرق. والفول اللي كان مصري بقى كوشير. وإحنا؟ إحنا اللي كنا بنغني "بلادي بلادي لكِ حبي وفؤادي"، بقينا بنغنيها والفؤاد ده بيتحرق بغاز إسرائيلي. بلادي بقت بلادهم. وفؤادي بقى رماد. والفول... الفول بقى كوشير.
‏—-
‏تنويه: هذا المقال هو خلاصة حوار مطوّل أجريته خلال إجازتي الحالية في لوس أنجلوس مع صديقي المصري الدكتور أحمد (اسم مستعار بناءً على طلبه). جميع الأسماء الواردة مستعارة، والمشاهد الواردة كُتبت كما رواها لي، ثم راجعها وأضاف بعض التفاصيل قبل النشر.

8 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving اينشتاين السعودي Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة 2025 | اينشتاين السعودي