13 سبتمبر 2025

حين قصفت إسرائيل الوسيط القطري ردّت الرياض برسم الخريطة ‏من غزة إلى نيويورك دور المواطن السعودي في كسر معادلات التضليل وصنع المناعة الرقمية

في التاسع من سبتمبر 2025، دوّى القصف في قلب الدوحة؛ لم يكن صوتًا على مبنى، بل صدى لفشل جبهة كاملة في منع الرياض من إعادة رسم الخريطة.
‏في مشهد بدا كصحراء بلا معالم، مدت السعودية يدها، لا لتتبع آثارًا قديمة، بل لتضع دليلًا جديدًا. من يضرب الوسيط، يقرّ بأن زمام الطاولة خرج من قبضته, وهذا تمامًا ما فعلته إسرائيل. فالقصف لم يكن على قطر وحدها، بل على مسار سياسي تقوده الرياض نحو دولة فلسطينية معترف بها، ونظام إقليمي لا يُدار بالصواريخ ولا بالميليشيات.
‏في اللحظة ذاتها، جاء الرد من الرياض بلا لبس. في اتصال مباشر، وصف سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان القصف بأنه «جريمة وانتهاك صارخ»، وأكّد أن المملكة «تضع جميع إمكاناتها للوقوف مع قطر». وتحت قبة الشورى، أعلن أنّ «الموقف السعودي من القضية الفلسطينية ثابت»، وأن «لا سلام دون دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية». لم يكن ذلك تعبيرًا رمزيًا، بل تثبيتٌ لدورٍ قيادي لم يعد يكتفي بالوساطة، بل يرسم الخريطة.
‏في فبراير 2024، دعت المملكة العالم وخصوصًا الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن للاعتراف بدولة فلسطين. وبعد ثمانية عشر شهرًا، رفعت عشرات العواصم علم فلسطين، من مدريد إلى عواصم أميركا اللاتينية، فيما بقيت واشنطن غريقًا يتشبث بلوح مكسور.
‏ثم جاء «إعلان نيويورك»،  وثيقة من سبع صفحات صاغتها السعودية وفرنسا، تتضمن وقفًا للاستيطان، لجنة انتقالية، وبعثة أممية مؤقتة (قوة تثبيت مدنية–أمنية بتفويض دولي وزمن محدد) لتحوّل الخطاب إلى خريطة تنفيذية فعلية. وفي 12 سبتمبر، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة الإعلان بأغلبية 142 صوتًا مقابل 10 وامتناع 12. الرئيس الفرنسي ماكرون قالها بوضوح وفخر: «تحت قيادة فرنسا والسعودية، تم اعتماد إعلان نيويورك… نحن نرسم طريقًا لا رجعة فيه نحو السلام».
‏لكن ما يجعل “إعلان نيويورك” مختلفًا ليس عدد صفحاته، بل وزنه السياسي. فالوثيقة لم تكتفِ بالدعوة إلى حل الدولتين، بل حدّدت مسارًا لا رجعة فيه: وقف فوري للاستيطان، تشكيل لجنة انتقالية، وبعثة مؤقتة للتثبيت والمراقبة. الأهم، أنّها جاءت بصياغة مزدوجة تُدين هجوم “حماس” في 7 أكتوبر، وفي الوقت نفسه تُحمّل إسرائيل مسؤولية الأزمة الإنسانية في غزة، موازنة نادرة عزّزت مصداقية الطرح السعودي. ولعلّ ذكاء الرياض لم يكن في بنود الوثيقة فحسب، بل في اختيار باريس شريكًا لها: فرنسا ليست قوة رمزية، بل عضو دائم في مجلس الأمن، وحليف أوروبي قادر على نقل الخريطة من قاعة التصويت إلى كواليس التأثير. شراكة الرياض–باريس جعلت من الإعلان منصة جامعة بين الجنوب السياسي والغرب القانوني، وأحرجت إسرائيل من داخل معسكرها لا من خارجه.
‏أوروبا تزحزحت. بعض الدول اعترفت، وأخرى التحقت بالإعلان السعودي–الفرنسي. من إيرلندا وسلوفينيا (اعتراف فعلي)، إلى أصواتٍ غربيةٍ مؤيدة ككندا وأستراليا، تراكمت الكتلة الحرجة خلف الإعلان المشترك. وقد أعلنت برلين صراحةً تأييدها للتصويت، ما منح الإعلان زخماً إضافياً داخل الكتلة الغربية.
‏وفي ملف التهجير، اصطفت العواصم الكبرى على خط واحد: القاهرة وصفته بـ«جريمة»، عمّان بـ«تهديد وجودي»، والرياض قالتها تحت قبة الشورى: «غزة أرض فلسطينية غير قابلة للتصرّف». هنا الفرق بين من يساوم على البشر كأرقام، ومن يثبت الأرض كقدر.
‏في الملف السوري، ووفق تقديرات إقليمية متعددة، حرّكت الرياض خطوطًا دبلوماسية غير مسبوقة لدعم حكومة انتقالية جديدة، بعد فرار النظام القائم إلى موسكو أواخر 2024. الهدف لم يكن تقويض طرف، بل استعادة سوريا إلى الفضاء العربي كدولة فاعلة، لا كساحة نفوذ متنازع عليها. وقد تزامن ذلك مع تصعيد إسرائيلي واضح في الجنوب السوري، وسط تقارير عن محاولات تعطيل هذا المسار الجديد،  لا لخشية على سوريا، بل خوفًا من أن تستعيد قرارها من خارج محاور الوصاية.
‏لكن المعركة لم تكن في الأرض وحدها. تقرير «اعتدال» رصد خلال 90 يومًا أكثر من 12.9 مليون رسالة متطرفة؛ نحو 66% منها تحريض مباشر (≈8.6 مليون)، والبقية ذات طابع دعائي رمادي. هذه ليست تغريدات مرتجلة؛ بل حملة رقمية منظمة. أطرافها:
‏   •   إيران: عبر منصات دينية وإعلامية
‏   •   الإخوان: عبر شبكة من الحسابات الشعبوية
‏   •   إسرائيل: عبر وحدات الحرب الإلكترونية (سيغنت/سايبر)، منها ما ورد ذكره في تحقيقات استقصائية مثل “تيم خورخي”
‏هذا هو مثلث التشويش: دينٌ مُسَيَّس، سرديةٌ ماضوية، وأدواتٌ رقميةٌ تتنكر بلباس “الرأي العام”.
هؤلاء لا يجمعهم تحالف معلن، بل مصلحة خفية: تعطيل أي مسار لا يمرّ من بوابتهم. وكلما اقتربت الحلول من التطبيق، ازدادت حملاتهم شراسة، لا خوفًا على فلسطين، بل خوفًا من انكشاف عجزهم.
‏في المقابل، المواطن السعودي لم يعد متلقيًا. في الأشهر الماضية، تصدّر مشهد المواجهة الرقمية: من تفنيد الأكاذيب إلى الدفاع عن التحولات، أصبح دوره مركزيًا في تثبيت الرواية، لا مجرد صداها. صار هو الصقر الرقمي الأول: يرصد، ويبلّغ، ويفكك، ويواجه الحملات المتنكرة بوجه شعبي. من فضح المقاطع المفبركة، إلى الدفاع عن الرؤية، تبدأ المناعة من الشاشة.
‏وكلما ازدادت الحملات جنونًا - بالشائعات، بالمقاطع المفبركة، بالأخبار المركبة - ازداد الواجب على كل مواطن سعودي أن يتحوّل من مدافع إلى صانع مناعة.
‏فالحرب لم تعد حرب مواقع، بل حرب سرديات.
‏بوحدتنا ووعينا… نكتسح.
‏نتنياهو؟ ليس مشروعًا، بل مأزق متنقل. كلما اقتربت خريطة السلام من التحقق، ازداد قلقه من أن يفقد ورقة الصراع. لا يخشى الهزيمة، بل يخاف النجاح. فسلام ناجح يعني سقوط آخر خط دفاع أمام المحاسبة.
‏اقتصاديًا، هذا المسار السيادي لا يحمي الجغرافيا فقط، بل يؤمّن رؤية 2030: فاستقرار الإقليم شرطٌ لأي ازدهار مستدام. لا استثمار دون أمن، ولا طموح بلا خارطة واضحة.
‏وفي الأفق؟ تُعِدّ السعودية و فرنسا وشركاء الإعلان لتفويض أممي يطلق بعثة مراقبة مؤقتة، لا لفرض حل، بل لتثبيت مسار التنفيذ. المؤتمر الدولي المقبل سيحوّل البنود إلى جدول زمني قابل للقياس، والتاريخ إلى تعهّد يُحاسَب عليه.
‏من يصوغ مشروعًا دوليًا يُراكم شرعية، ومن يضرب الوسيط… يراكم عزلة.
‏خريطة الطريق مرسومة. من قصف الدوحة إلى مؤتمر نيويورك، ومن خطوط غزة إلى مقعد سوريا، يتضح أن الرياض لا تُعلّق الآمال على أحد… بل تكتبها وتطلب من العالم أن يوقّع.
‏ومن الرياض إلى العالم، تُكتب فصول جديدة في تاريخ منطقة لم تعد تنتظر الحلول… بل تصنعها.

7 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving اينشتاين السعودي Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة 2025 | اينشتاين السعودي