03 يونيو 2025

حين مرّت من أمامي بعد ثلاثين عامًا وكان البحر شاهداً على لقاء لم يكن

 جاء المساء إلى سردينيا ملقياً رداءه الأرجواني على مياه المتوسط، فجلست على شرفة الفندق أتأمل في تلاعب الأمواج بأشعة الغروب، وإذ بي أراها تمر أمامي كطيف من أطياف الذكرى، ومعها زوجها وأولادها، فارتعش قلبي ارتعاش الوتر المشدود بعد سنين من الصمت.
ثلاثون عاماً مرت منذ آخر لقاء. لقد تغيرت ملامحها، ونقشت السنون على جبينها خطوطاً رقيقة كأبيات شعر كتبها الزمان، ولكن عينيها ما زالتا تحملان ذلك البريق الذي أسرني في شوارع الرياض القديمة.
كانت مختلفة عن كل فتيات جيلها. في زمن الهمس، كانت تضحك بصوت عالٍ كشلال جبلي. كانت تقرأ الشعر وتناقشني في معاني المتنبي. أحببتها لأنها كانت تحمل روحاً حرة في زمن القيود.
أتذكر أمسياتنا في حدائق الرياض، نلتقي خلسة عند شجرة السدر العتيقة. ثم جاء ذلك المساء المشؤوم حين دخل أبي غرفتي ومعه كبار العائلة: "إما أن تنساها، وإما أن تنسى اسمك ونسبك. هي ليست قبيلية".
مضت السنون كقافلة بطيئة. تزوجتُ امرأة اختارتها العائلة، طيبة القلب، لا ذنب لها سوى أنها ليست هي. وفي ليالي الأرق، كنت أتخيلها في حياة أخرى، أراها في كل مكان: في وجه عابرة، في ضحكة طفلة، في أغنية قديمة.
واليوم، في هذه الجزيرة البعيدة، التقت عيناي بعينيها لحظة خاطفة. رأيت في نظرتها انعكاس ثلاثين عاماً من الأسئلة المعلقة. مرت وكأنها لا تعرفني، لكنها التفتت مرة واحدة، التفاتة قرأت فيها ملحمة من الشوق المدفون.
بعد أن اختفت، بقيت جالساً كتمثال من ملح. ثلاثون عاماً انهارت في لحظة، ثم عادت لتبني نفسها من جديد.
أكتب هذه الكلمات كمن يكتب على سطح الماء: يعلم أنها لن تبقى، لكن لا بد أن تُقال. أحببتها حب الصحراء للمطر. وتعلمت أن بعض قصص الحب تبقى معلقة في الأثير كأغنية لم تكتمل، جميلة في نقصانها، خالدة في ألمها.
والآن، وقد غابت الشمس وبدأت النجوم تظهر، أجلس على نفس الشرفة. أنا رجل في الخمسين، أحمل حباً عمره ثلاثون عاماً، حباً لم يشخ رغم شيخوختي.
ربما هذا قدر بعض العشاق: أن يحبوا مرة واحدة حباً مطلقاً، ثم يحملون هذا الحب كوشم خفي على القلب، ينبض مع كل نبضة، ويضيء في ظلمات الوحدة كنجمة بعيدة.
غداً سأعود إلى الرياض، إلى حياتي المعتادة. لكن شيئاً ما تغير الليلة. في تلك الرؤية اكتمل شيء ناقص، وانكسر شيء سليم، وولد شيء جديد من رماد الماضي.
هذه قصتي، قصة حب لم يُكتب له أن يكون، لكنه كان أجمل ما في حياتي. وأنا الآن، على شرفة في سردينيا، أودع هذا الحب وأحييه في آن، كمن يودع الشمس عند الغروب وهو يعلم أنها ستشرق غداً، لكن ليس له، بل للعالم.
سردينيا - ١٦ أوغست ٢٠٢٣ 

3 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤