ثمّة لعنة تطارد تاريخنا الحديث: كلّما دفنّا الإسلام السياسيّ، قام من قبره متنكّراً في أثواب جديدة. هذه المرّة، لم يأتِنا بعمامة سوداء أو لحية كثّة أو كاسيت يصدح بالأناشيد، بل بدكتوراه مزدوجة وبودكاست أنيق ومصطلحات فلسفيّة برّاقة. نايف بن نهار هو التجسيد الأمثل لهذه اللعنة: سيّد قطب بنسخة PDF، يوسف القرضاوي بميكروفون بودكاست، سلمان العودة بلغة أكاديميّة معقّمة. إنّه الصحوة الثالثة في أبهى تجلّياتها... وأخطرها.
ذاك أنّ الرجل – ولنكن واضحين منذ البداية – ليس مفكّراً حرّاً يجوب آفاق المعرفة، بل منتَج قطريّ خالص، صُنع في مختبرات الدوحة بعناية فائقة ليكون سيّد قطب العصر الرقميّ. المسار محسوب بدقّة مذهلة: من جامعة قطر (2008) إلى الجامعة الإسلاميّة العالميّة في ماليزيا – معقل "أسلمة المعرفة" الإخوانيّ – حيث نال ماجستير الفقه (2011) ودكتوراه أولى (2014)، ثمّ دكتوراه ثانية في العلوم السياسيّة (2018)، كأنّ واحدة لا تكفي لتلميع الخراب الفكريّ! ثمّ جاء التتويج: مدير مركز ابن خلدون في جامعة قطر، رئيس تحرير مجلّة "تجسير" – والاسم وحده يفضح المشروع: جسر بين القطبيّة والحداثة! – ومؤسّس مركز "وعي"، وكأنّ الوعي العربيّ ينتظر مركزاً قطريّاً ليوقظه من سباته!
لكنّ العبقريّة الشيطانيّة لنايف تتجلّى في اختراعه الأثير: "الخلقانيّة". يا للذكاء الماكر! بدلاً من الصراخ مثل قطب بأنّ المجتمعات المعاصرة جاهليّة، أو التنظير مثل سفر الحوالي في كتابه "العلمانية" عن الغزو العقائديّ، يأتينا نايف بسؤال فلسفيّ "بريء": هل المرجعيّة للخالق أم للمخلوق؟ إن اخترت المخلوق فأنت "خلقانيّ"، وهذا في قاموسه المبطّن يعني: جاهليّ معاصر، كافر بالحاكميّة، منحرف عن الصراط المستقيم... لكن بابتسامة أكاديميّة لطيفة! "الخلقانيّة" إذن ليست مصطلحاً جديداً، بل الحاكميّة القطبيّة ذاتها بعد عمليّة تجميل في العيادات القطريّة. خلقانية نايف هي نسخة PDF مفرنسة من الحاكمية القطبية. ذات الجوهر، بل وأكثر تمويهاً.
وإلى جانب "الخلقانيّة"، يتسلّل نايف بمصطلح آخر لا يقلّ خطورة: "فقه التصوّرات". يا للعبقريّة المقنّعة! بدلاً من الحديث المباشر عن تطبيق الشريعة أو الحاكميّة، يدعونا إلى "بناء تصوّرات فقهيّة" للواقع المعاصر. لكن أيّ تصوّرات هذه؟ إنّها ببساطة إعادة قولبة الواقع ليتطابق مع الرؤية القطبيّة، لكن بلغة ناعمة تتسرّب إلى العقول دون إنذار. "فقه التصوّرات" هو الباب الخلفيّ الذي تدخل منه الحاكميّة متنكّرة في ثوب التجديد الفقهيّ!
والأنكى من ذلك موقفه من الديمقراطيّة في كتابه المضحك المبكي "الديمقراطيّة كما هي". يفرّق حضرته بين "الديمقراطيّة المجرّدة" كآليّة و"الديمقراطيّة المؤدلجة" كقيم. الأولى حلال والثانية حرام. لكن أيّ أحمق هذا الذي يفصل الآليّة عن روحها؟ كمن يقول: أقبل الطائرة لكن أرفض الأجنحة! أو: أريد البحر بلا ماء! هذا ليس تنظيراً، بل احتيال فكريّ من الطراز الرفيع. إنّها الخدعة الإخوانيّة التاريخيّة: نستخدم الديمقراطيّة سُلّماً، فإذا وصلنا ركلناها. أو كما قالها أحد أساتذتهم: "الديمقراطيّة قطار نركبه حتّى محطّتنا." نايف لا يصرّح بهذا، لكنّه يضع له الأساس "العلميّ" في رسائله الجامعيّة المتعدّدة.
ولأنّ المسرح القطريّ لا يكتمل بممثّل واحد، كان لا بدّ من مشهد تمثيليّ مع الأب الروحي عزمي بشارة. في 2019، أنتقد نايف مديره عزمي حول الديمقراطيّة. صفّق السُذّج: "مفكّر مستقلّ!" لكن أين تتمّة المشهد؟ أين الردّ؟ أين النقاش؟ لا شيء! لأنّ الخلاف مسرحيّة مكتوبة سلفاً: عزمي يصطاد النخب العلمانيّة بيساريته المعطّرة، ونايف يصطاد الشباب المتديّن بقطبيّته المقنّعة. توزيع أدوار محترف في المصنع القطريّ للأيديولوجيا. والنتيجة؟ اختراق شامل لكلّ الجبهات!
أمّا المقارنة بينه وبين سلمان العودة فدرس في التطوّر الدارويني للإسلام السياسيّ. العودة بدأ خطيباً ملتهباً، ثمّ صار واعظاً رقيقاً، ثمّ مفكّراً غامضاً، قبل أن ينتهي إلى ما انتهى إليه. نايف تعلّم الدرس جيّداً: بدأ من حيث انتهى العودة، لكن بذكاء الثعالب. لا يهاجم السلطة بل يداهنها، لا يُفتي بل "يُنظّر"، لا يكفّر علناً بل يُخلقِن بنعومة، لا يخطب من المنبر بل يهمس في البودكاست. النتيجة؟ نفس السمّ القطبيّ لكن في كبسولات مغلّفة بالسكّر الأكاديميّ. نايف هو سلمان العودة المحدّث، الذي تعلّم من خطأ سلفه، فقرّر أن يكتب بلغة مجلّة محكّمة، لا أن يهتف على منصّة مهرجان.
والخطير في مشروع نايف أنّه لا يكتفي بالتأثير المحلّي أو الخليجيّ، بل صار مرجعاً للخطاب الإخوانيّ العابر للحدود. من ماليزيا حيث درس وتشرّب "أسلمة المعرفة"، إلى إندونيسيا حيث تُترجم أفكاره وتُدرّس في الحلقات، مروراً بتركيا حيث يجد صدى في أوساط "العدالة والتنمية" المتعطّشة لتنظير جديد، وصولاً إلى الجاليات المسلمة في الغرب التي تبحث عن خطاب "معتدل" في الظاهر، قطبيّ في الجوهر. نايف بن نهار صار البضاعة القطريّة الأكثر رواجاً في سوق الإسلام السياسيّ العالميّ!
بيد أنّ الكارثة الحقيقيّة ليست في نايف – فما هو إلاّ ترس في ماكينة ضخمة – بل في قدرته على اختراق جيل ما بعد الصحوة. جيل لم يشهد كيف دمّر القرضاوي الفقه بتسييسه، ولا كيف حوّل الحوالي العقيدة إلى ديناميت، ولا كيف انفجرت تجارب "الإسلام هو الحلّ" في وجه من رفعوها. جيل بريء يستمع إلى "بودكاست بدون ورق" – والعنوان وحده تحفة من السخرية: كأنّ المشكلة في الورق لا في الأفكار المسمومة! – ويظنّ أنّه يتلقّى تنويراً، بينما هو يجرع السمّ القطبيّ قطرة قطرة.
كيف نحصّن هذا الجيل من الطاعون الفكريّ المتجدّد؟ الوصفة واضحة وصعبة في آن:
أوّلاً: إعادة بناء المرجعيّة العلميّة الحقيقيّة، ليس بالشعارات الجوفاء، بل بإنتاج مفكّرين شرعيّين سياديّين يفهمون معنى الدولة الحديثة ولا يتآمرون عليها.
ثانياً: تأسيس خطاب وطنيّ إسلاميّ معرفيّ يواجه المشروع القطريّ بدعمه للفكر الاخواني بأدواته ذاتها، يفضح ولا يكتفي بالشجب.
ثالثاً: إدخال مساقات تفكيكيّة في التعليم: "الخلقانيّة" ليست فلسفة بل فخّ، "توطين المعرفة" ليس تأصيلاً بل تخريب، "الديمقراطيّة المجرّدة" ليست مفهوماً بل خديعة، "فقه التصوّرات" ليس تجديداً بل تقنّع.
رابعاً: صناعة بودكاستات بديلة بأصوات شابّة تطرح الإسلام الراشد – لا المؤدلج – بلغة العصر لا بمنطق القرون الوسطى.
خامساً: إحياء الذاكرة الجمعيّة – وهذا الأهمّ – عن مآلات الصحوة: كيف بدأت بالحماس وانتهت بالدماء، كيف وعدت بالجنّة وأورثت الجحيم.
والحقيقة التي تؤلم: نايف بن نهار ليس مفكّراً يبحث عن الحقيقة، بل مهندس معماريّ يبني جسوراً لعودة القطبيّة من بوّابات خلفيّة. لا يحمل السيف بل الدكتوراه، لا يكفّر بالميكروفون بل يُخلقِن بالأكاديميا، لا يهدم بالديناميت بل بالمصطلحات المفخّخة. إنّه جهاز ناعم يعيد بثّ رسالة قطب بمنهج معرفيّ مخمليّ.
والسؤال المصيريّ: إلى متى سنبقى في هذه الحلقة الجهنّميّة؟ كلّما قطعنا رأساً للهيدرا الإخوانيّة نبتت لها سبعة رؤوس! كلّما أغلقنا منبراً فتحوا بودكاست! كلّما حجبنا موقعاً أطلقوا تطبيقاً! أليس الوقت قد حان لنتوقّف عن مطاردة الأشباح ونبني مشروعنا الحضاريّ الخاصّ؟ مشروعاً لا يستمدّ شرعيّته من معاداة الآخرين، بل من قدرته على تقديم إجابات حقيقيّة لأسئلة الحاضر والمستقبل؟
البوصلة السعوديّة الواعية – وهنا لبّ القضيّة – أدركت الخطر مبكّراً: لا مكان للقطبيّة مهما تقنّعت، لا مساحة للإخوانيّة مهما تجمّلت، لا منبر لتجّار الدين مهما تثقّفوا وتأنّقوا. هذا ليس خياراً سياسيّاً عابراً، بل ضرورة وجوديّة قصوى. فإمّا دولة حديثة تحترم الدين ولا تتاجر به، أو عودة إلى كهوف "الحاكميّة" و"الخلقانيّة" وسائر المصطلحات المفخّخة التي لا تنتج إلاّ الخراب.
الخلاصة، وهي مُرّة كالعلقم: نايف بن نهار ليس الداء، بل العَرَض. الداء في المصنع القطريّ الذي لا يكفّ عن إعادة تدوير السموم القديمة في عبوّات جديدة. اليوم نايف، غداً آخر، بعد غد عشرة. المعركة ليست مع الأشخاص بل مع المنظومة. وإن لم نحسم الأمر الآن – الآن وليس غداً – فسنستيقظ ذات صباح لنجد سيّد قطب يحاضر في جامعاتنا، لكن بشهادة دكتوراه وحساب تيك توك.
إن لم نفكّك نايف بن نهار الآن، فسيعود إلينا سيّد قطب... من بوّابة بودكاست.
وهذا، يا سادة، ليس تحذيراً. بل نبوءة بدأت تتحقّق.