ثمّة سخريات في التاريخ لا تقلّ فجاجة عن تلك التي يصوغها كاتب مسرحيّ عبثيّ. ولعلّ أكثر هذه السخريات فظاعة قصّة سقوط القسطنطينيّة عام 1453. ذاك أنّ النصر المدوّي الذي حقّقه العثمانيّون تحوّل، بمكر الزمن وتقلّباته، إلى البذرة الأولى لتفوّقٍ أوروبيّ فتك بهم بعد قرون. كأن تذبح شاة عملاقة، فتكتشف بعد حين أنّك غرست سكّينك في جسدك أنت.
ما قبل 1453: أوروبا المنهكة والعثمانيّون الصاعدون
قبل سقوط القسطنطينيّة، كانت أوروبا أشبه ببيت محترب: ممالك متقاتلة، كنيسة متهالكة، وإقطاع كالحجر على صدر الفقراء. أوروبا كانت مفكّكة، مهلهلة، متخلّفة عن الشرق. أمّا العثمانيّون فكانوا يتقدّمون كريح شتاء قارسة تهبّ من الأناضول؛ من إمارة صغيرة شحيحة الموارد، إلى قوّة تستولي على البلقان وتهدّد أسوار عاصمة روما الشرقيّة.
القسطنطينيّة كانت حلماً يراود المسلمين منذ أن حاصرها معاوية وأرسل ابنه يزيد ضمن قوّات المسلمين الأولى. وها قد أتت ساعة تحقيق الوعد النبويّ على يد السلطان محمّد الشاب. العثمانيّون لبسوا ثياب القياصرة وتسمّوا "قيصر الروم"، في مزيج من الغرور السلطانيّ والتقاط ميراث محتضر. بيد أنّ هذا الفتح، الذي يفترض أنه انتصاراً خالصاً، أطلق في أوروبا طاقات لم تكن في الحسبان، وفتح أبواباً ظنّها العثمانيّون موصدة إلى الأبد.
1453-1500: الصدمة التي أيقظت أوروبا
حينما سقطت المدينة، خرج منها لاجئون بيزنطيّون، لا يحملون ذهباً ولا فضّة، بل كنوزاً معرفيّة أثمن: مخطوطات إغريقيّة ورؤوساً مملوءة بذاكرة ثقافيّة تمتد للإغريق وأفلاطون وأرسطو. هؤلاء العلماء - أمثال بيساريون وجيميستوس بليثون - هربوا من مدينتهم كمن يحاول إنقاذ الكتب من حريق، فأشعلوا، من حيث لم يحتسبوا، حريقاً آخر في إيطاليا: حريق النهضة الأوروبيّة ونهاية القرون الوسطى المظلمة الأوروبية. هذه المفارقة لم يدركها العثمانيّون: أنّهم أرسلوا، من دون قصد، رسلاً حملوا تراث الإغريق والبيزنطيّين إلى صدر أوروبا المتعطّشة لحضارتها القديمة.
والأعجب أنّ العثمانيّين حين أغلقوا طريق التجارة القديم عبر البوسفور، أرغموا الأوروبيّين، كالمحاصرين في زاوية، على البحث عن طريق حول المضيق. النتيجة؟ كولومبوس يُبحر غرباً فيكتشف عالماً جديداً، وفاسكو دا غاما يدور حول أفريقيا. وهكذا، فإنّ أوّل نتائج إغلاق الباب القديم كان فتح القارّتين الأمريكيّتين! ألم نقل إنّها سخرية التاريخ؟
وفيما العثمانيّون ينشغلون بالاحتفال بنصرهم الكبير، كان الرجل الألمانيّ يوهانس غوتنبرغ يبتكر المطبعة. هذه الآلة البسيطة كانت أعظم ثورة في تاريخ المعرفة البشريّة: بقدرتها على إنتاج آلاف النسخ من الكتب، أحدثت في أوروبا انقلاباً معرفيّاً. في المقابل، رفض العثمانيّون هذه "البدعة" لمدّة 270 سنة كاملة! حظروا المطبعة بفتوى دينيّة تُجرّم طباعة القرآن، وهكذا بقيت معارفهم حبيسة بطء النسّاخ، فيما كانت المطابع تقذف الكتب في أوروبا بالآلاف. أيّ فجوة عقليّة أفظع من هذه؟
1500-1600: الفتوحات الضخمة وبذور التخلّف
بينما كان سلاطين العثمانيّين الكبار - سليم الأوّل وسليمان القانونيّ - يتوسّعون من حدود فيينا إلى بغداد ومن القرم إلى القاهرة، كانت أوروبا تخوض ثورتها العلميّة بهدوء. مع كوبرنيكوس وغاليليو، تحطّمت الصورة القديمة للكون، وانفتحت نافذة هائلة على العلوم الطبيعيّة. لم يكن العلماء الأوروبيّون يفتحون مدناً، بل عقولاً؛ ولم يكونوا يُسقطون حصوناً، بل مسلّمات. هذا الفتح الصامت سيُثبت لاحقاً أنّه أخطر من أيّ فتح عسكريّ.
وبينما كان العثمانيّون يظنّون أنّ البحر المتوسّط "بحيرة عثمانيّة" خاصّة بهم، كان الأوروبيّون يجعلون المحيطات طرقهم الجديدة للثروة. فإسبانيا والبرتغال، ثمّ هولندا وبريطانيا، راحت تنهب ذهب الأمريكتين، وتسيطر على تجارة آسيا. وبعد قرن واحد فقط من سقوط القسطنطينيّة، تلقّى العثمانيّون أوّل هزيمة بحريّة كبرى في ليبانت (1571). كانت هذه الهزيمة، التي تكبّدها الأسطول العثمانيّ أمام تحالف بحريّ أوروبيّ، إشارة واضحة إلى أنّ البندقيّة وإسبانيا وغيرهما لم تعد ترتجف من اسم السلطان. لكنّ الأتراك، كالمقامر المدمن، عالجوا هذه الصدمة كعارض مؤقّت لا يستحقّ تغيير النظريّة.
1600-1700: انقلاب الموازين
في هذه الفترة، حدث تحوّل دراماتيكيّ كبير. العثمانيّون، الذين كانوا يحاصرون فيينا عام 1529، عادوا لمحاصرتها عام 1683. لكنّ المشهد العسكريّ تغيّر بشكل مذهل: هُزم العثمانيّون هزيمة ساحقة أمام تحالف من الدول الأوروبيّة أسمته "الرابطة المقدّسة". ومن تلك اللحظة، عكس التاريخ حركته: لم يعد العثمانيّون يتقدّمون، بل يتراجعون تدريجيّاً أمام زحف أوروبيّ مستمرّ.
والحال أنّ أكبر كارثة في هذه القصّة السوداء تتجلّى في موقف العثمانيّين من التحديث. فكلّما حاول سلطان إدخال تقنيات أو أساليب جديدة، قامت المؤسّسة العسكريّة التقليديّة - وعلى رأسها الانكشاريّون - بمقاومة التغيير. كان هؤلاء كالدهر: يأكلون ولا يُؤكلون. ضحايا غرور النصر، تحوّل العثمانيّون من مُبتكرين إلى محنّطين، من مبدعين إلى مقلّدين، ومن فاتحين إلى مُنكفئين. أمّا الأوروبيّون، فتحوّلوا من مهزومين إلى مُجدّدين، ومن متهالكين إلى مُجترحين. سخرية التاريخ تتجلّى هنا في أبهى صورها.
1700-1800: عصر التنوير الأوروبيّ وجمود العثمانيّين
بحلول القرن الثامن عشر، كانت أوروبا تقطف ثمار النهضة والثورة العلميّة، فوصلت إلى عصر التنوير مع فلاسفتها العظام: ديكارت، سبينوزا، نيوتن، كانط، فولتير، آدم سميث... هؤلاء صاغوا فهماً جديداً للكون والدولة والإنسان والاقتصاد، وضعوا فيه بذور الثورات السياسيّة والصناعيّة اللاحقة. والنتيجة؟ مصانع تنتج أكثر عشرات المرّات من الورش الحرفيّة، وشركات ضخمة مثل "شركة الهند الشرقيّة" البريطانيّة تمسك بزمام التجارة العالميّة. أمّا عسكريّاً، فقد تُرجمت الثورة العلميّة إلى ترسانات جديدة من الأسلحة والمدافع والسفن الحربيّة.
ماذا عن العثمانيّين في هذه الفترة؟ كانوا ضحيّة ما يمكن تسميته "فخّ النجاح": أسرى مؤسّسات وسلطات استنفدت فاعليّتها منذ زمن بعيد. حاول بعض السلاطين، كسليم الثالث، إدخال إصلاحات عسكريّة وإداريّة، لكنّهم اصطدموا بمقاومة عنيفة من الراسخين في نعيم الصيغة القديمة. وهكذا، كلّما خطا العثمانيّون خطوة، كانت أوروبا قد قطعت أميالاً. النتيجة؟ فجوة متزايدة الاتّساع بين ضفتي البحر المتوسّط.
1800-1924: الانهيار والتحديث المتأخّر
لم يتجلَّ انقلاب المعادلة بوضوح أكثر من تلك اللحظة التي وطأت فيها قدما نابليون أرض مصر العثمانيّة عام 1798. كان المشهد مدويّاً: الفرنسيّون، أحفاد أولئك الذين كانت ممالكهم مرعوبة من السلطان، يستعمرون أهمّ مقاطعة عثمانيّة! والأصدق والأكثر رمزيّة أنّ نابليون أحضر معه جيشاً من العلماء والمهندسين، كما لو أنّه يخبر العثمانيّين بفجاجة: "انظروا، هكذا يبدو الغرب اليوم!"
لم تكن مصر سوى البداية. جاء دور الجزائر (1830) ثمّ تونس (1881) تحت الحكم الفرنسيّ. وهكذا بدأت القوى الأوروبيّة تقضم، قطعة تلو الأخرى، من جسد الإمبراطوريّة العثمانيّة المحتضرة، وصولاً إلى تسمية الأوروبيّين لها بـ"رجل أوروبا المريض". ياللسخرية! من كان عملاقاً أصبح مريضاً ينتظر الموت، ومن كان مريضاً شُفي فبات عملاقاً.
في هذه المرحلة جاءت "التنظيمات العثمانيّة": سلسلة إصلاحات يائسة بدأها السلطان محمود الثاني وخلفاؤه بدافع اليأس. المأساة هنا تفضح نفسها بأبشع صورها: الدولة التي احتلّت نصف قارّة أوروبا، أصبحت تقلّد أنظمة هذه القارّة وقوانينها. العثمانيّون الذين كانوا معلّمين للغرب في القرن الخامس عشر، صاروا تلاميذ خجولين على أيدي خصومهم. كان إصلاح الشرق يجري بأدوات الغرب نفسه؛ إنّها مفارقة مريرة، لكنّها لا تخلو من دلالة عميقة.
وجاءت الحرب العالميّة الأولى (1914-1918) لتكتب السطر الأخير في هذه المسرحيّة السوداء. تحطّمت الإمبراطوريّة العثمانيّة، بسبب غباء السلاطين الأحفاد وتفريطهم بنصر وفكر محمد الفاتح، وقُسّمت أراضيها بين المنتصرين باتفاقيّات سايكس-بيكو وغيرها. ثمّ جاء الضابط العثمانيّ المتطرف مصطفى كمال، الذي سيصبح "أتاتورك"؛ أي أبا الأتراك، ليضع القبر على القبر: ألغى الخلافة عام 1924، وحوّل آيا صوفيا - رمز الفتح القديم - إلى متحف علمانيّ. هل هناك رمزيّة أبلغ من هذه الحركة؟ كأنّ أتاتورك يقول: لقد انتهت الدورة التاريخيّة وعدنا إلى نقطة البداية، لكن بالأدوار معكوسة.
ماذا يمكن أن نتعلّم من هذه المفارقة المريرة؟
يذهب المفكّر أرنولد توينبي إلى أنّ الحضارات تنمو باستجابتها للتحدّيات. والمُثير أنّ سقوط القسطنطينيّة كان تحدّياً "مثاليّاً" لأوروبا: صادماً بما يكفي لإيقاظها، دون أن يسحقها. في المقابل، فإنّ النصر العثمانيّ أصاب أصحابه بما يسمّيه برنارد لويس "التشبّع الحضاريّ": الإحساس بأنّهم بلغوا الكمال، فلا حاجة للتعلّم من الآخرين.
الدرس الأعمق من قصّة القسطنطينيّة كاشف وقاسٍ: التاريخ لا يتحرّك كخطّ مستقيم بل كنهر ملتوٍ. فالانتصارات قد تكون كالفخاخ تحمل في طيّاتها بذور الهزائم، والهزائم قد تكون كالأسمدة لنهوض جديد. وكما يقال: قد يكون النصر بداية الهزيمة، وقد تكون الهزيمة منطلق النصر. الفارق يكمن في ما نفعل بعد كليهما.
إنّها المرارة الحضاريّة ذاتها التي نراها اليوم في عالمنا العربيّ والإسلاميّ: مجد مضى، وتفوّق علميّ تحوّل عبر قرون من الإخلاد والركون إلى حاضر يقف متسوّلاً على أبواب معاهد العلم والتقنية الغربيّة. وهو ما يدفع مثقّفينا دوماً إلى استعادة قصّة القسطنطينيّة كدرس مؤلم في قسوة التاريخ: فإذا كان سقوط المدينة قد فتح باباً لمجد عثمانيّ، فإنّه ذات الباب الذي أفضى، عبر الغفلة وإدمان النصر، إلى تفوّق غربيّ صار يُملي على العالم أجمع ما يفعلوه حتّى في خلوة بيوتهم.
وإذا كان الحنين إلى ذلك النصر البعيد لا يزال يدغدغ أخيلة بعض أبناء مجتمعاتنا - كالعجوز يغفو على صور شبابه - فربّما آن الأوان لقراءة الحكاية كاملة: ليس فقط لحظة صعود المنتصر على أسوار القسطنطينيّة، بل أيضاً لحظة سقوطه عن كرسيّ السلطة في إسطنبول.
ذاك هو قانون التاريخ في سخريته القاسية: لا انتصار نهائيّ، ولا هزيمة أبديّة. والقسطنطينيّة نفسها، بعد أن كانت ساحة المفارقة الأولى، لا تزال تقف اليوم كشاهدة على دائرة التاريخ الكبرى، تُعلّمنا، بين أقواس أبنيتها ودهاليز قصورها، أنّ المجد ليس في فتح المدن، بل في فتح العقول. وأنّ القوّة ليست في احتلال أراضي الآخرين، بل في استنبات قدرتنا على التكيّف والتجدّد المستمرّ.
هذا هو درس القسطنطينيّة الحي: المنتصر قد ينام مطمئنّاً على حرير إنجازاته، فإذا بالخاسر، الذي تعلّم من هزيمته، يخرج من تحت الركام كالفينيق، مؤسّساً لمستقبل يقلب موازين الأمس. فهل نتعلّم الدرس أم نبقى في غفلتنا كالعثمانيّين حتّى يباغتنا صباح يقول فيه التاريخ كلمته الأخيرة؟