رؤيا عند قبر النبي ﷺ
أم المؤمنين الطاهرة في محراب الصبر، والذين قذفوها… يجلدون أنفسهم ولا يعلمون لماذا!
أتيت في رمضان إلى ضريح النبي، فوقفت خاشعاً أمام الحجرة الشريفة، وإذا بي أسمع من وراء الأستار نحيباً خافتاً، كأنه تنهدات الليل في أحضان الفجر. التفتُّ فلم أر أحداً، ولكن النحيب استمر، فأدركت أن القلوب المكلومة لها أصوات لا تسمعها الآذان، بل تسمعها الأرواح.
جلست في زاوية من زوايا المسجد، وأغمضت عيني، فرأيت ما لا تراه العيون المفتوحة. رأيت امرأة جالسة في حجرة صغيرة، والظلام من حولها كالبحر، والصمت كالموت. كانت عائشة، أم المؤمنين، في شهر الانتظار، ذلك الشهر الذي كان كدهر، بل كألف دهر.
لم تكن تبكي. لا، فالدموع تخفف الألم، وألمها كان أعظم من أن تخففه الدموع. كانت جالسة كتمثال من المرمر، إلا أن قلبها كان يحترق احتراق الشمعة في ليلة لا ريح فيها ولا نسيم.
وسمعتها تقول، لا بلسانها بل بروحها: "إلهي، أنت تعلم وكفى بك عليماً. الناس يتكلمون، والألسنة تلوك اسمي كما تلوك النار الحطب اليابس. ولكني لا أدافع عن نفسي، فمن كان الله محاميه لا يحتاج إلى محامٍ."
في تلك الأثناء، دخل عليها أبوها الصدّيق، ذلك الرجل الذي ما كذب قط، فرأى ابنته، قطعة من كبده، يُفترى عليها، فجلس إلى جانبها صامتاً. وفي الصمت أحياناً من البلاغة ما ليس في الكلام.
وبعد هنيهة، قال لها بصوت كأنه الندى على أوراق الورد: "يا بنيتي، إن الله مع الصابرين." فأجابته، وفي صوتها رنين الفولاذ المصقول: "يا أبتِ، أليس يوسف قد اتُّهم ثم برّأه الله؟ ومريم قد قيل فيها ما قيل ثم أنطق الله وليدها؟ فالله قادر على أن يُظهر الحق ولو بعد حين."
وطال الانتظار، والوحي محتجب، كأن السماء تختبر صبر الأرض. والنبي ﷺ، ذلك القلب الرحيم، يحمل همّين: همّ الوحي المحتجب، وهمّ الحبيبة المتّهمة. كان يدخل عليها فيراها صامدة كالجبل، صابرة كالأرض، فيزداد لها حباً وإكباراً.
ثم جاء الفرج. نزل جبريل بآيات كأنها الشمس تشرق بعد ليل طويل. "إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم..." وتلا النبي الآيات، وعائشة تسمع، ووجهها يتلألأ كالقمر ليلة البدر، شكراً لله الذي لا يضيع أولياءه.
ولكن القصة لم تنته هنا. فقد رأيت في رؤياي كيف أن الله، جلّ في علاه، كتب على كل من يتطاول على الطاهرة عبر الأجيال عقوبة عجيبة غريبة، لم يُكتب مثلها على أحد من العالمين.
في كل عام، في يوم لا يعلمون سره، يستيقظ هؤلاء القوم وقد تملّكتهم قوة لا يفهمونها. يخرجون من بيوتهم كالسائرين في النوم، يحملون أدوات لم يعرفوا كيف وصلت إلى أيديهم. ثم يبدأون... يبدأون في معاقبة أنفسهم عقاباً لا يدركون سببه.
رأيت رجلاً منهم، كان في ليلته يقول في أم المؤمنين قولاً لا يليق، فإذا به في الصباح يمسك لسانه ويصرخ: "ما هذا الذي يحدث لي؟ لساني يحترق! لساني يريد أن يخرج من فمي!" ثم يبدأ في جلد ظهرة ضرباً مبرحاً، ويضرب رأسه بالسكين، والدماء تسيل، وهو لا يعلم لماذا يفعل ما يفعل.
وامرأة أخرى، كانت تغتاب الطاهرة في مجلسها، فإذا بها تستيقظ لتجد في يدها سوطاً، وفي قلبها ناراً، فتبدأ في جلد نفسها، وهي تصرخ: "النار! النار في صدري! من أشعل هذه النار؟"
والعجيب أنهم لا يربطون بين ما يقولون وما يفعلون. لا يدركون أن اللسان الذي ينطق بالإفك في الليل، يُعاقب في النهار. لا يفهمون أن القلب الذي يحمل البغضاء طوال العام، يحترق بنارها في يوم القصاص.
عقوبة إلهية فريدة: أن يكون الإنسان جلاّد نفسه دون أن يعرف جريمته. أن يعذّب ذاته دون أن يدرك ذنبه. كأن الله أراد أن يقول: من تطاول على أوليائي، جعلته عبرة، ولكن عبرة لا يفهمها حتى هو نفسه.
دورة أبدية من الخطيئة والعقاب: يسبّون فيُضربون، يقذفون فيُعذّبون، ثم ينسون فيعودون. كالذي يضع يده في النار فتحترق، ثم ينسى فيعيدها، ثم تحترق، ثم ينسى فيعيدها، إلى ما لا نهاية.
وفي وسط هذا كله، رأيت روح عائشة، تلك الروح الطاهرة، تحوم فوق المعذَّبين، لا شماتة ولا انتقاماً، بل حزناً وأسى. تقول بصوت لا يسمعه إلا من فتح الله أذن قلبه: "يا ليتهم يعلمون! يا ليتهم يتوبون! فإن رحمة الله أوسع من ذنوبهم، وعفوه أعظم من خطاياهم."
هذه هي قصة المنام كما رأيتها في ليلتي تلك، بعد أن وقفت عند الحجرة النبوية. قصة البراءة التي نزلت من السماء، والعقوبة التي كُتبت على الأرض. قصة اللسان الذي يجني على صاحبه، والقلب الذي يحرق حامله.
وأنتِ يا أم المؤمنين، فداكِ نفسي وأبي وأمي؛ يا أماه، يا من طهّرك الله في كتابه، نحن نشهد أنك الطاهرة المطهّرة، وأن حبك من الإيمان، وبغضك من النفاق، وأن من آذاك فقد آذى رسول الله، ومن آذى رسول الله فقد آذى الله.
سلام عليك يوم وُلدتِ، ويوم تزوجتِ خير البرية، ويوم افتُري عليك فصبرتِ، ويوم نزلت براءتك من السماء، ويوم متِّ، ويوم تُبعثين حية.