05 يوليو 2025

‏رحلة مصر من الاعتذار إلى الوقاحة: عندما يُصبح المثقف كلباً والكلب مثقفاً

 المثقف والبلطجي: توزيع أدوار في مسرح المخابرات
‏ثمة في إصرار سامح عسكر على ترديد أكاذيب 2012 ما يُذكر بالمقامر المُفلس الذي يُراهن بآخر قرش على نفس الرقم الخاسر؛ يظن أن الحظ سيبتسم له هذه المرة، ناسياً أن الكازينو تغير، والإدارة لم تعد تقبل الديون، والطاولة نفسها صارت في مكان آخر.
‏والحال أن عسكر، في مقاله الأخير، قدم نموذجاً فاضحاً لما يحدث عندما يتحول المثقف إلى ممسحة أحذية. يبدأ بـ"أحمل في قلبي حباً للشعب السعودي"، ثم يقضي ألف كلمة في البصق على هذا الشعب وقيادته؛ كالعاهرة التي تقول "أحبك" وهي تعد النقود. كل من يبدأ حديثه بـ"أنا أحب السعودية ولكن"... لا يحب، بل يُخفي سُمه في ظرف أخوي.
‏كذبة "النخبة الصامتة": عندما يصير الصمت شتيمة
‏ذاك أن عسكر يدعي أن "النخبة المصرية لم تشارك بعد" احتراماً للأخوة. يا للبراءة! وكأن "ليس من حق الحفاة العراة ومحدثي النعمة أن يتطاولوا على أسيادهم" كتبها شبح، وليس " رئيس تحرير صحيفة الجمهورية الرسمية" الناطقة باسم المخابرات. وكأن "لو مش هتقول كلام طيب عن الأشقاء.. اسكت" لم يقلها الرئيس المصري نفسه بعد أن فضحت الصحيفة الرسمية حقيقة الدولة العميقة الممثلة في مخابراتها.
‏والأطرف أنه يُبرر هذا "الصمت" المزعوم بأنه ليس للمصلحة المادية! أي عقل يقبل هذا؟ النخبة المصرية الحقيقية - من بقي منها - إما في السجون كعلاء عبد الفتاح، أو في حيث لانعلم كوائل عباس، أو صامتة رعباً كالباقين. أما من يتكلم، فهم أبواق المخابرات الذين يأكلون من بقايا موائدها؛ وعسكر نفسه خير مثال.
‏بيد أن الأمر الأكثر فضيحة هو أن هذا النمط ليس جديداً؛ بل هو إعادة إنتاج مُحدثة لمسرحية قديمة. ففي 2012، عندما أُوقف أحمد الجيزاوي بتهمة تهريب 21 ألف قرص مخدر، تحول الإعلام المصري إلى ماكينة هستيريا؛ اقتحام رمزي للسفارة، تحريض مُنظم، شتائم بالجملة. النتيجة؟ زحف سعد الكتاتني ووفده إلى الرياض مُعتذرين، والمفارقة أن بعض المحرضين كانوا ضمن الوفد نفسه!
‏الملك عبدالله - رحمه الله - غفر، وتفهم الظرف التي كانت تمر به مصر، بل وأرسل مليار دولار كمساعدة قبل إنهيار الدولة كاملة، كالأب الذي يُسامح زلات الأبناء الأعقاء الأغبياء. لكن السعودية 2025 ليست سعودية 2012؛ والأمير محمد بن سلمان قالها بوضوح كامل: "لن نضخ أموالاً في ثقب أسود... ولن نستمر في تقديم منح دون مقابل" (بلومبرغ، 2018). ووزير المالية محمد الجدعان أكدها في دافوس 2023: "لن نقدم منحاً مباشرة بعد الآن، بل سنربطها بإصلاحات هيكلية واقتصادية." تصريحان أديا لحالة من الجنون اللامتناهي.
‏من دولة المنح إلى دولة الاستثمار: عندما يُغلق الكازينو المُتخيل أبوابه
‏لعل ما لم يستوعبه عسكر وأمثاله هو أن السعودية لم تتغير في التفاصيل فحسب، بل في العقيدة السياسية ذاتها. فمنذ إطلاق رؤية 2030، لم تعد السعودية تُمول إلا ما يخدم مصالحها... لا عواطف الآخرين. تحولت من دولة تُعطي المنح للجميع إلى دولة تستثمر في الناجحين فقط؛ من يريد شراكة حقيقية فأهلاً به، من يريد صدقة فليبحث عن محسن آخر.
‏هذا التحول ليس مزاجاً عابراً، بل استراتيجية دولة تعلمت من دروس الماضي. عقود من المساعدات لمصر - منذ عبد الناصر إلى السيسي - لم تُنتج إلا مزيداً من الفشل؛ فالمساعدات بلا إصلاح تُنتج تبعية مُقنعة بالعداء.
‏الشركة المتحدة: من عباس كامل إلى حسن رشاد، ومن الدعاية إلى البذاءة
‏أغلب الظن أن التوزيع المسرحي بين عسكر وعرايس ليس صدفة؛ إنه تكتيك الشركة المتحدة نفسه، تلك الأخطبوط المخابراتي الذي شرحناه سابقاً. في عهد عباس كامل، كانت اللجان الإلكترونية تعمل بـ"احترافية" نسبية؛ دعاية ذكية، وتضليل مُحكم، وهجوم محسوب. لكن حسن رشاد، في محاولته اليائسة لإثبات ولائه، حول الشركة من أداة دعاية إلى ماكينة تردد "كس أمك" وأخواتها.
‏تحت إدارة رشاد، لم تعد الشركة المتحدة تُنتج دراما بل تُنتج عداءً، وتُوظف الشتائم كأداة أمنية رسمية. في مصر، حتى الشتائم تُوزع بأمر إداري... كأن كل "كس أمك" يمر عبر إدارة التحرير، ويحتاج توقيع مسؤول!
‏637 مليون جنيه خسائر مالية، ومليارات من رصيد الكراهية العربية؛ هذه حصيلة تحويل الإعلام من قوة ناعمة إلى قبضة خشنة. عسكر يُنظر بأدب مُصطنع عن "الخلافات السياسية"، فيُترجم عرايس: "الحجاز أرض مصرية". عسكر يُلمح لـ"ملف المساعدات"، فيصرخ عرايس: "تدبير انقلاب داخل أسرة آل سعود".
‏هذا ليس خلافاً عاطفياً، بل جزء من سياسة قديمة: حرض ثم تراجع، اشتم ثم ساوِم، واطلب المليار في النهاية كجائزة على إساءتك. لكن الكازينو المُتخيل أو "التكية السعودية" أغلقت، والإدارة تغيرت، والمقامرون "الشحاذون" القدامى ما زالوا عند الباب يحلمون بفتحه. 
 صمت النُخب وعزلة مصر: عندما تهاجم الجميع وتريد الصدارة
‏راهناً، وبينما يُمارس عرايس بذاءته المفضوحة، لم نسمع بياناً من نقابة، ولا استنكاراً من مثقف، بل صمت يُشبه التواطؤ؛ وكأن الكراهية تجاه الخليج صارت سياسة شبه رسمية. لم يعد إعلام مصر يُنتج رأياً... بل ينسخ تعليقات فيسبوك، ويُنزلها تحت شعار الجمهورية. وحدها مصر من تهاجم الجميع... وتُطالِب بأن تبقى في مركز كل شيء.
‏يلوح أن النظام المصري يعيش في 2012، بينما العالم في 2025. لا يقرأ المتغيرات، لا يفهم التحولات، لا يستوعب أن زمن التسول انتهى. كالمقامر الذي يُصر على اللعب في كازينو مُغلق، يقف عند الباب ويصرخ: "افتحوا! أنا زبون قديم!"
‏تشريح الأكاذيب: ثماني أوهام في ثوب التحليل
‏وإذ نُفكك مقال عسكر، نجد أن ما يسوقه كتحليل ليس سوى قائمة أمنيات مكسوة بالتذاكي؛ ثماني كذبات مُغلفة بورق السوليفان:
‏يتحدث عن "النظام القاعدي" في سوريا، مُعيداً تعريف "الإرهاب" حسب المصلحة السياسية. الجولاني "إرهابي" لأنه لا يخدم النظام، بينما الأسد الذي قتل مليوناً بالبراميل "شرعي" لأنه حليف مشترك بفرض"حكم العسكر"؟ أي نفاق هذا؟ السلطة هنا تُنتج "حقيقتها" الخاصة، تُحدد من هو الإرهابي ومن هو الشرعي، ليس بناءً على الأفعال بل على المصالح. مصر التي احتضنت قاتل الأطفال بالكيماوي لا يحق لها الوعظ الأخلاقي عن "الاعتدال".
‏يُحذر من "التحالف الإبراهيمي" وكأن مصر لم تكن رائدة التطبيع! من وقع كامب ديفيد يتحدث عن خطر التطبيع؟ الخطاب هنا يُمارس لعبة مكشوفة: يمحو تاريخ مصر التطبيعي ليُقدمها كحامية للعروبة، لكن السفارة الإسرائيلية في قلب القاهرة، والتعاون الأمني اليومي في سيناء ونقص السيادة العسكرية فيها، يفضحان هذا الادعاء. والأنكى من هذا كله أن الجندي الإسرائيلي الذي يُطلق النار في غزة صباحاً، يقضي إجازته الشهرية مساءً في كورنيش القاهرة! أو يتجول بين شرم الشيخ وأسوان، ويستريح في الحسين، ويشتري التذكارات من خان الخليلي. مصر التي تستقبل قتلة الفلسطينيين كسياح تتحدث عن "خطر التطبيع"؟ من اختار سلام العسكر لا يملك الحق في تخوين سلام الشجعان القائم على حق الدولتين.
‏يُعيد إثارة تيران وصنافير رغم أن الملف حُسم قانونياً وسيادياً؛ القضية أُغلقت، لكن عسكر يُصر على إبقائها حية. لماذا؟ لأنها ليست قضية جُزر بل ورقة ابتزاز دائمة. والدليل؟ أن كل ضجة حولها تبدأ بتقرير في صحيفة رسمية وتنتهي بمفاوضات خلف الستار. من يلوح بتيران اليوم لا يريد استعادة أرض، بل يريد سردية للمزايدة والابتزاز. يبدو أنهم لم يخبروا هؤلاء الحمقى أن الموضوع حسم للأبد.  
‏يتفاخر بـ"هامش الحرية" في مصر - البلد 168 من 180 في حرية الصحافة- أي حرية تسمح بشتم السعودية وتحبس من ينتقد سعر الخبز؟ "الحرية" عندهم مشروطة بالاتجاه: حُر في الشتيمة الخارجية، مقيد في النقد الداخلي. حرية بنكهة الزنازين وطعم الخوف.
‏لعل الأمر الأكثر وقاحة هو شكواه من أن "السعوديين يُكثرون من ملف المساعدات". المُتسول يشتكي من تذكيره بكرم المُحسن؛ عشرات المليارات ضُخت في ثقب أسود اسمه مصر، ذهبت لمشاريع وهمية وجيوب نهمة. عسكر يريد المال دون ذكره، المساعدة دون الامتنان، الدعم دون المساءلة. في العلاقات الدولية، لا يُحاسَب المُحسن على العطاء... بل يُسأل المتلقي عن الإنجاز.
‏أما قوله إن "السعوديين لا ينتقدون وزراءهم"، فيكشف عن سوء فهم عميق لمعنى النقد؛ هل النقد أن تشتم الرئيس في الميكروباص ثم تُعتقل؟ أم أن تُمارس المساءلة عبر قنوات مؤسسية فعالة؟ في السعودية، النقد يمر عبر مؤسسات تستمع وتستجيب؛ في مصر، الصراخ في الشارع ينتهي في الزنزانة. النقد في السعودية وسيلة تصحيح، وفي مصر وسيلة إدانة؛ الأولى تُراكم شرعية، والثانية تُراكم ملفات أمنية.
‏بيد أن أكثر ما يُثير الشفقة هو ترديد عرايس لمقولة "نحن علمناكم"؛ من علم من؟ الدولة التي تستورد قمحها من روسيا والهند وغازها من إسرائيل؟ الإعلام الذي لا يُنتج سوى دراما مُكررة ومثقفين مأجورين؟ "نحن علمناكم" صارت تعويذة يُرددها الفاشلون ليُواسوا أنفسهم. فأي عقل يستحق الدعم؟ عقل يُنتج علماً، أم عقل يبيع كرامته ويُطالب بالتصفيق؟
‏يتحدث عسكر عن "الجيش المصري خط أحمر"، وكأن النقد خيانة؛ الجيش ليس دينًا ولا حتى وطناً، ولا معصوماً من الخطأ. من يضع "خطوطاً حمراء" حول المؤسسات يمنع إصلاحها، يُحولها إلى أدوات قمع بدلاً من أدوات حماية. في مصر اليوم، كل شيء "خط أحمر": الجيش، الرئيس، الوزراء، حتى رغيف الخبز! دولة مرسومة بالطباشير الأحمر لا تترك مساحة للحياة.
‏ما يُقدمه عسكر ليس تحليلاً بل تقنية هدفها تبرير الفشل وشيطنة النجاح. هذا الخطاب ليس رأياً، بل امتدادٌ لوثيقة استجداء مكررة: امنحونا دون أن نسألكم، واصمتوا إن فشلنا. ما يطلبه عسكر ليس نقاشاً، بل تميمة إعفاء من المحاسبة. 
 عرايس: عندما تُصبح الوقاحة وظيفة رسمية
‏والأنكى أن عرايس يفعل كل هذا من قلب القاهرة دون خوف؛ يدعو صراحة لانقلاب في السعودية، يدعي أن الحجاز "أرض مصرية"، يُشكك في شرعية خدمة الحرمين، يتحدث عن "نصف الهدايا والأضاحي" كأنها صفقة تجارية!
‏والدليل على أنه موظف يُنفذ تعليمات؟ أنه يفعل هذا منذ سنوات دون محاسبة، في بلد يُحاسب من ينتقد شكل رغيف الخبز. هذا التناقض وحده يكشف أن البذاءة صارت سياسة، والشتيمة صارت استراتيجية.
‏التكلفة الباهظة: من السياحة المنهارة إلى العمالة المُهددة
‏لئن كان ثمة ثمن لهذه السياسات الحمقاء، فهو يُدفع يومياً من جيوب المصريين؛ السياحة التي كانت عماد الاقتصاد تنهار، فمن يريد زيارة بلد إعلامه يشتم الجميع؟ الاستثمارات العربية تتجه شرقاً وغرباً، بعيداً عن مستنقع البذاءة. حتى العمالة المصرية في الخليج - التي تُحول مليارات الدولارات - صارت تواجه نظرات الريبة بسبب حماقات النظام.
‏تحذير أخير: الصبر نفد، والمملكة لم تعد تكية يُؤكل فيها دون شكر، ولا كازينو تُقامر فيه على حُسن الظن
‏للقاهرة نقول: السعودية تغيرت، والخليج تغير، والصبر نفد؛ لن يكون هناك كتاتني جديد يُستقبل بالأحضان، ولن تكون هناك مليارات تُكافئ البذاءة. من يريد شراكة فبالاحترام المتبادل؛ من يريد عداوة فليتحمل العواقب.
‏للجالية المصرية في السعودية: أنتم محل التقدير، فلا تجعلوا أنفسكم دروعاً بشرية لحماقة نظام استهلك حلفاءه. من يعمل بإخلاص له الاحترام؛ من يتآمر فليحزم حقائبه قبل أن تُحزم له.
‏وللنُخب المصرية المأجورة: التاريخ لا يرحم الأبواق؛ أين منظرو القذافي؟ أين شعراء صدام؟ في مزبلة التاريخ أو دائرة النسيان. نفس المصير ينتظر عسكر وعرايس في مزبلة تاريخ دولة المخابرات العميقة.
‏عندما يُصر المقامر على اللعب والكازينو مُغلق
‏هكذا تُصر مصر على حفر قبرها؛ من الجيزاوي إلى عسكر، ومن كتاتني الزاحف إلى عرايس الوقح.
‏من أم الدنيا إلى أم المسبات: رحلة اكتملت.
‏والسعودية تمضي؛ بناة المستقبل لا ينتظرون المقامرين عند أبواب الماضي. 

12 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤