09 أغسطس 2025

سامح عسكر والدفاع عن المستحيل ‏البدائل كثيرة لكنهم اختاروا إسرائيل

كتب الأستاذ سامح عسكر مؤخراً “تبريراً” لاستيراد مصر الغاز الإسرائيلي، مستعيناً بالعبارة الذهبية: “مُجبَر أخاك لا بطل”. ثمّة في هذا التبرير ما يوحي بالجدية العلمية؛ لكنّ التبريرات الكبيرة، كالوعود الكبيرة، غالباً ما تخفي فراغاً كبيراً.
‏منذ سنوات ونحن نسمع هذا المبرر الذهبي لكل صفقة غاز مع إسرائيل. عبارة وُلدت لتصف وضعاً استثنائياً، فإذا بها تتحول في القاهرة – وفي مقال الأستاذ عسكر – إلى نظرية حكم، وغطاء دائم لارتباط طويل الأمد مع من كان – على الورق – عدو الأمس.
‏يسرد الأستاذ عسكر تسع نقاط “مزعومة” لتبرير هذا الارتباط: قطع السعودية النفط عام 2016، وقطع قطر الغاز عام 2017، وزيادة الاستهلاك المحلي… إلخ. حسنًا، لنعد قليلاً إلى الوراء ونتفحص هذه “الأسباب” كما تسربت بالصحف. في 2016، السعودية أوقفت شحنات النفط “المجانية أو الميسرة بشروط تفضيلية للغاية” بسبب خلافات سياسية، ولا توجد اتفاقيات ملزمة أساسًا. وفي 2017، قطر لم تمدهم بالغاز أيضًا لعدم وجود اتفاقية ملزمة، ولم تكن تزوّد مصر مباشرة منذ 2013، بل كان الرفض لشحنات إضافية عبر وسطاء، وفي قلب الأزمة السياسية. بينما حتى في ذروة المقاطعة الخليجية، أكدت قطر حرصها على استمرار تدفق الغاز للإمارات وفقًا لالتزاماتها.
‏الحقائق هنا تنطق: لا توجد اتفاقيات ملزمة كالتي فعلوها مع إسرائيل. ومع ذلك، يكررون الحجة: “مضطرون”. فلنفترض جدلاً أن هذا كان صحيحاً آنذاك… لكن الآن؟ المصالحة مع قطر تمت، العلاقات مع الإمارات ممتازة، والأسواق العالمية مفتوحة؛ ومع ذلك… الصفقة الإسرائيلية مستمرة، بل وتتجدد، وكأنها زواج كاثوليكي لا طلاق فيه.
‏ثمّة مفارقة تستحق التأمل: قطر، أكبر مصدر للغاز في العالم، تبرم عقودًا لعشرين سنة مع الصين وألمانيا. ألم يكن بالإمكان توقيع عقد ملزم معها يضمن أمن الطاقة لعقدين ويغلق هذا الباب نهائيًا؟ أم أن اتفاق الغاز الملزم يصبح “مباركًا” فقط إذا مر عبر عسقلان؟
‏والحال أنّ الإمارات، حليف سياسي واقتصادي وثيق، لديها فائض تصدير، وعلاقتها بمصر أكثر من ممتازة، وها هي تشتري الأصول المصرية صباح مساء؛ وبسخاء. الجزائر، تملأ أنابيبها أوروبا بالغاز العربي. روسيا، تعرض خصومات منذ الحرب الأوكرانية. أستراليا، نيجيريا، ماليزيا، موزمبيق… تسع عشرة دولة تصدر الغاز المسال في العالم، لكنك إذا سألت في القاهرة عن البدائل، ستجد خريطة العالم تنكمش لتصبح “إسرائيل أو الظلام”
‏بيد أنّ المشهد الكوميدي يصل ذروته حين يطرح الأستاذ عسكر – بجدية مدهشة – فكرة أن شراء الغاز من إسرائيل “ورقة ضغط” على تل أبيب. والحال أنّ هذا تفسير يُذكرنا بمن يقول إن إطعام اللص يجعله يكف عن السرقة! أي ضغط يا أستاذ وأنتم الطرف الذي يحول المليارات كل عام إلى خزينة الاحتلال؟ الضغط الوحيد الذي رأيناه كان في خريف 2023، حين أغلقت إسرائيل الصمام أثناء حرب غزة، فانطفأت الكهرباء في مصر وتوقفت المصانع. ورقة الضغط الوحيدة هنا كانت في يد نتنياهو… على رقبة القاهرة، وليس العكس كما يتوهم كاتبنا المحترم.
‏لعلّ أكثر ما يُثير السخرية في “غرائب” الأستاذ عسكر هو زعمه أن مصر “هي المسؤول الأول لتقديم نتنياهو مجرماً أمام المحكمة الجنائية الدولية”، بينما هي في الوقت نفسه تدفع له المليارات! والحقيقة أن مصر ليست عضواً في المحكمة أصلاً، ومن قدّموا الطلب دول أخرى معروفة. لكنها لقطة إعلامية جميلة، يبدو أن كاتبنا يحاول تمريرها وكأنه يكتب منشورًا على فيسبوك، تجعل المواطن – والكاتب المحترم – يتخيل أن نفس اليد التي توقع شيك الغاز بالدولار، هي اليد التي تطرق باب لاهاي مطالبة بمحاكمة من قبض الشيك. مشهد يصلح لفيلم من نوع “كوميديا سوداء – إنتاج مشترك”.
‏ذاك أنّ الأستاذ عسكر ينهي مقاله بجملة دالة: “شخصياً أنا غير راضٍ عن القرار، وأبرأ إلى الله من أي جنيه أو دولار ندفعه للخزينة الصهيونية الملعونة، لكني في ذات الوقت كأي مصري نقدر قرار الدولة”. هنا نرى المثقف المتلون في أبهى تجلياته: يكتب تسع نقاط “بظاهرها علمية” لتبرير القرار، ثم يختتم بـ”براءة ذمة” شخصية منه! كأنما يقول: أنا مقتنع عقلياً، لكنني غير راضٍ قلبياً. فن إخوانجي أصيل، صُقل على مدار عشرين عامًا من عضوية التنظيم، ثم أعيد تغليفه بطلاء “البراغماتية” بعد تغيير التموضع السياسي.
‏ولا يجوز أن نتجاهل توقيع الاتفاقية عام 2018 الذي شهد احتفالاً إسرائيلياً علنياً. نتنياهو وقف أمام الكاميرات مبتسماً وقال: “اليوم عيد”، وشرح بفخر كيف ستجني إسرائيل مليارات من الصفقة مع مصر. نحن هنا أمام حالة نادرة: الطرف الآخر لا يكتفي بقبض الأموال، بل يحتفل علناً بأنك تدفع له، وأنت في المقابل تبيع لشعبك قصة “استقلال وسيادة”.
ولعلّ أطرف ما في تبرير الأستاذ عسكر هو حديثه عن “حفظ الكرامة” و”عدم طلب العون من الأشقاء مرة أخرى”. كلام جميل يُذكرنا بأغنية “أخاصمك آه أسيبك لا”! فبينما يتحدث الرجل عن الكرامة والاستغناء عن مساعدات الأشقاء، نجد أن مصر استقبلت مساعدات وودائع سعودية وإماراتية بمليارات الدولارات منذ 2013 وحتى اليوم – بما في ذلك 2016 وما بعدها التي يتحجج بها – ووقعت صفقة رأس الحكمة الإماراتية. أي كرامة هذه؟ “حبكت في موضوع غاز إسرائيل يعني قصة الكرامة”؟
‏راهناً، يلوح لنا أن مرحلة “المُجبَر” – التي يصر عليها الأستاذ عسكر – انتهت منذ أن توفرت البدائل. فقطر تجاوزت خلافاتها مع القاهرة منذ سنوات، والإمارات وثّقت علاقاتها الاقتصادية معها، وموسكو تعرض غازها بأسعار مخفضة منذ بدء الحرب الأوكرانية. بل إن الجزائر المجاورة، والعراق الشقيق، وإيران المتربصة للتقارب – إن وجدت النية السياسية – كلها تملك فوائض طاقة لا تحتاج لـ”وساطة” عسقلان. ومعهم 19 دولة أخرى على الأقل.
‏لكن يبدو أن العقل الرسمي المصري – ومن يؤازره من الكتّاب المحترمين – استراح إلى هذا الخيار تحديداً. ليس لأنه الوحيد المتاح، بل لأن وراءه مصالح لا نعلمها. وعبارة: “نحن مضطرون، ولا خيار أمامنا” تُغني عن ألف خطاب في شرح الدوافع الحقيقية وراء الاختيار.
‏وهكذا، من عبارة “مُجبَر أخاك” التي بدأ بها مقال الأستاذ عسكر، تنتهي الحكاية إلى هوية مختارة، لا اضطرار مفروض. سموها باسمها الحقيقي، وكفوا عن تمثيل دور الضحية وأنتم  من يوقّع العقد!

7 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving اينشتاين السعودي Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة 2025 | اينشتاين السعودي