سعد الصويان ليس مجرد عالِم أنثروبولوجي يدرس الثقافة الشعبية، بل هو شاهد على حضارة تحتضر، وحارس لذاكرة تتلاشى، ومقاوم ثقافي في معركة ضد النسيان. هذا الرجل الذي حمل آلة التسجيل كما يحمل المحارب سلاحه، وجاب الصحراء كما يجوب الباحث عن الكنوز، يرقد اليوم على فراش المرض بعد أن أفنى عمره في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من تراث شفهي يتبخر مع أنفاس الرواة الأخيرة.
الصويان لم يكن يجمع المأثورات الشفهية، بل كان ينقذ أرواحاً من الموت الثاني: موت النسيان. كل راوٍ مسن كان مكتبة تمشي على قدمين، وكل قصيدة نبطية كان يسجلها، كانت صرخة ضد العدم. هذا الوعي بهشاشة الذاكرة الشفهية حوّله من باحث أكاديمي إلى مناضل ثقافي يسابق الزمن في معركة يعرف أنه لن يربحها كاملة.
منذ مطلع الثمانينيات، حين بدأ مشروعه لتوثيق التراث الشفهي، عاش حالة استنفار دائم. كان يعرف أن كل يوم بلا تسجيل ضائع لا يُعوّض، وأن موت راوٍ قبل أن تُحفظ ذاكرته كارثة ثقافية. هذا الإحساس بالمسؤولية التاريخية حوّل حياته إلى رحلة سيزيفية، يدفع فيها صخرة المعرفة إلى أعلى الجبل.
في رحلاته الميدانية لم يكن الصويان مجرد جامع للنصوص، بل عالِم آثار يحفر في طبقات الذاكرة الجماعية، وباحثًا يفتش عن المعنى في الكلمات المنسية. كان يصغي إلى الرواة كما يصغي الباحث إلى شهادة ثمينة.
هذا الغوص في عالم البداوة والشعر النبطي لم يكن نزهة رومانسية، بل مواجهة لهوية وتاريخ وذاكرة. الصويان اكتشف أن الصحراء ليست فراغاً كما يتوهم بعض الحداثيين، بل فضاء مكتظ بالرموز والأساطير. وأن الشعر النبطي ليس للتسلية فقط، بل سجل وجودي لشعب يقاوم الفناء بالكلمة.
في كتابه المرجعي “الصحراء العربية: ثقافتها وشعرها عبر العصور”، قدّم أكثر من دراسة أنثروبولوجية: قدّم ملحمة لهوية تشكلت في مواجهة قسوة الطبيعة والتاريخ. هذا العمل يقف شاهداً على أن الثقافة الشعبية ليست فولكلورًا للاستهلاك، بل الحامض النووي للأمة.
لم يكتف بالتوثيق، بل تجرأ على الأسئلة الكبرى. في “ملحمة التطور البشري”، الفائز بجائزة الشيخ زايد، تجاوز حدود التخصص ليخوض في قضايا الإنسان والتطور والمعنى. أثار جدلاً واسعاً وأكد أنه مفكر يبحث عن الثقافة في سياقها الكوني.
المشروع الأضخم الذي قاده – توثيق سيرة الملك عبدالعزيز في عشرين مجلداً احتوت خمسين ألف وثيقة – لم يكن عملاً أرشيفياً فقط، بل محاولة لإعادة كتابة التاريخ بدقة وأمانة. إنه يذكرنا أن التاريخ ليس ما كتبه المنتصرون وحدهم، بل ما حفظته الوثائق والأصوات المنسية.
اليوم، وقد أقعده المرض، نقف أمام مفارقة: الرجل الذي قضى حياته يحارب النسيان يواجه خطر أن يُنسى هو نفسه. الرجل الذي كرّم الرواة المجهولين يستحق أن يُكرَّم وهو بيننا.
المؤسسات الثقافية السعودية مدينة له بأكثر من جائزة رمزية. مدينة له بمركز بحثي يحمل اسمه، وكرسي أكاديمي يواصل مشروعه، ومؤسسة تحفظ أرشيفه الصوتي الثمين – 585 تسجيلاً – كنز قومي يحتاج إلى رقمنة ونشر.
الأجيال الجديدة، المنبهرة بالتكنولوجيا، تحتاج إلى أن تعرف قصة رجل اختار الصحراء على المكاتب المكيفة، والرواة الأميين على الأكاديميين المتعالمين. لتدرك أن الثقافة الأصيلة لا تُستورد من الخارج، بل تُستخرج من الداخل.
هذا الرجل، الذي يصارع المرض اليوم في صمت وكبرياء، علّمنا أن الحضارة ليست ناطحات السحاب والتكنولوجيا، بل الذاكرة الجماعية والهوية. علّمنا أن التراث ليس متحفاً للماضي، بل خزاناً للمستقبل.
المجتمع السعودي، الذي يتباهى برؤيته للمستقبل، عليه أن يدرك أن لا مستقبل بلا ماضٍ، ولا حداثة بلا جذور. سعد الصويان هو جسرنا بين هذين العالمين، وتكريمه تكريم لهذا الجسر الذي بناه بعرقه وسنواته.
المطلوب اليوم ليس فقط الدعاء بالشفاء – رغم أن قلوبنا معلقة به – بل عمل حقيقي لحفظ إرثه وتخليد مشروعه. فليكن سعد الصويان جرس إنذار لنا جميعاً: إن نُسي اليوم، فلن يذكرنا الغد.