في المراجعات النقدية للذات التي نشهدها أحياناً، تبرز حالات تستحق التوقف عندها طويلاً. ذاك أنّ الابن ماجد (ابو دانتي) يقدم نموذجاً نادراً للشجاعة الفكرية في مواجهة الذات، وهو ما يستحق الإشادة والتقدير.
والحال أنّ ما يميز هذه المراجعة عن غيرها أنها تنبع من قناعة عميقة وإدراك واعٍ لقيمة الانتماء الوطني. فالكاتب لم يكتفِ بالاعتذار السطحي، بل قدم تحليلاً عميقاً لمسار تحوله الفكري، مدركاً أن الوطنية ليست مجرد شعارات، بل ممارسة يومية وموقف مسؤول.
لقد أدرك المهندس ابو دانتي، وهو المقيم في الخارج، أن "الإنسان بلا انتماء وبلا هوية كالمشرد حتى لو سكن أفخم القصور". وهذه حقيقة عميقة تستحق التأمل، خصوصاً من جيل الشباب الذي قد تغريه مظاهر الحياة في الخارج.
والأهم من ذلك كله أنه يقدم نموذجاً يحتذى به في الشجاعة الأدبية، إذ يعترف بأخطائه ويسعى لتصحيحها. هذا النضج الفكري هو ما تحتاجه مجتمعاتنا اليوم أكثر من أي وقت مضى.
أمّا ما يلفت في هذه المراجعة هو ذاك المستوى الرفيع من التعبير والتحليل الذي يكشف عن شخصية مثقفة واعية. فالكاتب، وهو مهندس متخصص في مجال الرقاقات الإلكترونية، يمثل نموذجاً للكفاءات الوطنية التي تحتاجها المملكة في مسيرتها التنموية الطموحة. والحال أنّ خبرته في هذا المجال الحيوي، مقرونة بقدراته التحليلية والفكرية، تجعل منه إضافة نوعية ينتظرها الوطن. ومَن يشكك في وطنيته بعد هذه المراجعة النقدية الشجاعة، فكأنما يزايد على الوطن نفسه.
وثمة نقطة جوهرية تستحق التوقف عندها: إنّ التجارب الفكرية التي يمر بها الشباب المثقف القارئ ليست استثناءً في تاريخ المجتمعات. ذاك أنّ القراءة المكثفة والاطلاع الواسع قد يضعان المرء أمام تساؤلات وجودية عميقة، وقد تتملكه قناعات متباينة في مراحل مختلفة من حياته. بيد أنّ العبرة ليست في المرور بهذه التجارب، بل في الوصول إلى الحقيقة بوعي وإدراك، وهو ما حققه كاتبنا بجدارة.
والحال أنّ من يواصلون نبش أرشيف تغريداته القديمة، متجاهلين مراجعته النقدية الكاشفة، إنما يكشفون عن أزمتهم هم: أزمة عدم القدرة على استيعاب التحول الإيجابي في وعي الآخرين. وكأنهم يريدون تجميد الزمن عند لحظة ماضية، غير مدركين أن التطور الفكري والنضج الوجداني هما من سنن الحياة. أليس هؤلاء هم من يحتاجون إلى مراجعة مواقفهم وتصوراتهم؟
إنّ مثل هذه المراجعات النقدية للذات تستحق التشجيع والدعم، لأنها تؤسس لثقافة جديدة قوامها الحوار المفتوح والنقد البنّاء، في إطار الولاء للوطن والحفاظ على مصالحه العليا.
هل يمكن لهذه التجربة أن تكون نموذجاً يحتذى به لآخرين؟ أغلب الظن أن الإجابة إيجابية، خصوصاً في ظل التحولات الكبرى التي تشهدها المملكة والتي تفتح آفاقاً واعدة لكل أبنائها.