من الشماغ السعودي إلى العمامة الصفوية… قطر تدفع ثمن الوهم
انتهكت إيران الشرف السيادي القطري بضربات صاروخية. السعودية أصدرت فورًا بياناً يدين بشدة. إيران التي وصفتها قطر بـ"الشريفة" قبل سنوات. متى صار الشرف طعناً في الظهر؟ أم أنّ في منطقتنا معاجم خاصة للكلمات، تتبدّل معانيها كما تتبدّل التحالفات: سريعاً وبلا خجل؟
ثمّة في هذا المشهد ما يختصر تاريخاً طويلاً من الخيانات المتبادلة والأوهام المتكررة. فقطر التي راهنت على "شرف" النظام الإيراني إبّان الأزمة الخليجية، تكتشف اليوم أنّ هذا الشرف لا يختلف عن شرف العاهرة التي تدّعي العفّة: تبيع نفسها لمن يدفع أكثر، ثم تصفع زبائنها القدامى. والحال أنّ التاريخ العربي الحديث حافل بمثل هذه الصفعات: ألم يغزُ صدام حسين الكويت بعدما موّلته ودعمته؟ ألم تتحوّل سوريا من "الشقيقة" إلى المحتلة في لبنان؟
بيد أنّ المفارقة الأكثر إشراقاً تكمن في الموقف السعودي. فالمملكة -بثقلها الاستراتيجي- التي كانت في قلب الخلاف مع الدوحة قبل سنوات قليلة، كانت أوّل من سارع إلى إصدار بيان شديد اللهجة مساندةً لقطر، فاتحةً الباب أمام موقف خليجي وعربي وعالمي موحّد. وهذه المبادرة السعودية لم تكن مجرّد بيان دبلوماسي، بل موقف واضح وحازم شجّع الآخرين على الإدانة وخلق زخماً سياسياً ضدّ الانتهاك الإيراني. هنا، تحديداً، يكمن الفارق بين سياسة المبادئ وسياسة المصالح العابرة: الرياض تضع الانتماء الخليجيّ فوق الحسابات الضيّقة، فيما طهران – تلك "الشريفة" – لا تتوانى عن طعن من وثق بها، تماماً كما فعلت مع حماس عندما اختلفا حول سوريا.
والحقّ أنّ الموقف السعودي يؤكّد مجدداً أنّ الرياض تضع استقرار المنطقة والتضامن الخليجي فوق الحسابات الثنائية الضيّقة. فالسعودية التي قادت المصالحة الخليجية، تقود اليوم الموقف الموحّد ضدّ الاعتداءات الإيرانية، مُثبتةً أنّ رؤية 2030 ليست مجرّد مشروع تنموي، بل رؤية إقليمية شاملة تضع الاستقرار والتعاون في صدارة أولوياتها.
وإذا كانت السعودية قد اختارت موقف المبادئ والقيادة، فإنّ الإخوان المسلمين اختاروا – كعادتهم – موقف اللامبدأ. فهؤلاء الذين استضافتهم قطر وآوتهم طويلاً، بل وفّرت لهم منابر إعلاميّة ومالية لا تُحصى، يمارسون اليوم هوايتهم المفضّلة: الشماتة. إنّهم كالضباع: ينتظرون جثث الآخرين ليقتاتوا عليها، حتى لو كانت جثث من آواهم. ذاك أنّ الوفاء، في قاموس السياسة الإخوانيّة، بضاعة نادرة، والانتهازيّة هي القاعدة الذهبيّة التي لا تُخرَق.
ولئن كان تاريخ الإخوان منذ 1928 حافلاً بالانقلابات والتقلّبات، من مصر الملكيّة إلى مصر الناصريّة، ومن التحالف مع الأنظمة إلى التآمر عليها، فإنّ انقلابهم اليوم على قطر يؤكد أنّ بعض الطبائع لا تتغيّر؛ هي فقط تتكيّف مع الظروف كالحرباء.
وهذا التناقض بين مواقف الأمس ومصالح اليوم يقودنا إلى السؤال الأعمق: هل آن للدوحة أن تُعيد حساباتها؟ هل حانت لحظة الاعتراف بأنّ الرهان على "شرف" النظام الإيراني كان وهماً، وأنّ الحضن الخليجيّ، رغم كلّ ما شابه من توتّرات، يبقى الأقرب والأصدق؟ بل هل آن الأوان لإدراك أنّ إيران الخمينيّة لم تكن يوماً إلاّ قوّة توسّعية تستخدم الشعارات الدينيّة غطاءً لمشروع "تصدير الثورة"؟ وأن تنظيم الإخوان هو الطابور الخامس الذي تموله قطر لطعنها بمقتل!
لعلّ قطر تعلّمت أخيراً أنّ في سوق السياسة الشرقية، البائع نفسه هو النشّال. المؤكّد أنّ العودة الحقيقية، إن حصلت، يجب أن تكون فعلية لا شكليّة. فالعلاقات بين الدول، خصوصاً في منطقة ملتهبة كمنطقتنا، لا تحتمل المناورات التكتيكيّة.
وربّما كان الدرس الأعمق يتجاوز قطر نفسها: إنّه درس لكلّ من يظنّ أنّ في وسعه اللعب على حبال متعدّدة في منطقة لا تعرف الرحمة بالمتذبذبين. فإيران التي احتضنت "حزب الله"، ثم رمته تحت عجلات الصفقات الدولية، هي ذاتها التي لن تتردّد في التضحية بأيّ "حليف" عندما تقتضي مصالحها ذلك. والإخوان الذين غدروا بالملك فاروق مالذي يمنعهم من "طعن" الشيخ تميم بن حمد؟
بيد أنّ السؤال الأعمق يبقى: هل تملك النُخب السياسيّة الخليجيّة القدرة على تجاوز الأحقاد والنظر إلى المصلحة الاستراتيجيّة البعيدة؟ أم أنّنا محكومون بتكرار الأخطاء ذاتها، في انتظار الصفعة التالية؟
هكذا نكتشف دائماً، ودائماً متأخرين: أنّ "الشرف" الزائف في منطقتنا بضاعة إيرانية مغشوشة، اشترتها قطر بثمن باهظ، بينما كانت السعودية – وستبقى – الضامن الحقيقي للتضامن الخليجي. والفرق بين الضامن والمضمون كالفرق بين من يحمي ومن يحتاج للحماية. ولعلّ المفارقة الأبلغ أنّ السعودية، التي اتُّهمت زوراً بالانغلاق، هي من تقود اليوم الانفتاح الحقيقي: انفتاح على الأشقاء حتى عند الخلاف، وانغلاق في وجه المعتدين مهما كانت الظروف.