31 مايو 2025

عبد الناصر وجمهورية الحنجرة: تشريح نظام نفسي-سياسي حوّل العرب إلى أطفال يبحثون عن صوت أبوي يدوسهم"

 من: "أنا الذي علّمتكم الكرامة" إلى: "حلّوا عنّا": قصة الصنم الصوتي الذي أسّس مدرسة في فن تحويل الهزيمة إلى ملحمة والميكروفون إلى دولة"
‏ثمّة لحظات في التاريخ العربيّ الحديث تشبه المحرّمات الدينيّة، لا يُقترب منها إلاّ بطقوس التقديس، ولا تُمسّ إلاّ بقفّازات الخشوع. وفي رأس هذه المحرّمات يتربّع جمال عبد الناصر، ذلك الصنم الصوتيّ الذي ما زال، بعد نصف قرن على صمته الأبديّ، يمارس رقابته الصارمة على كلّ حرف يُكتب عنه. ذاك أنّ العرب، في وعيهم الجماعيّ المأزوم، حوّلوا الرجل من حاكم فشل فشلاً ذريعاً إلى أيقونة لا تُمسّ، ومن صوت في جهاز راديو إلى وحي مُنزل.
‏بيد أنّ المدقّق في التجربة الناصريّة، متجاوزاً حُجُب التقديس وأوهام النوستالجيا، يكتشف أنّها لم تكن مجرّد حقبة سياسيّة عابرة، بل نظاماً نفسيّاً كاملاً غيّر بنية الوعي العربيّ وشوّهها على نحو لم نتعافَ منه حتّى هذه اللحظة. والحال أنّ عبد الناصر نجح، أكثر من أيّ طاغية عربيّ آخر، في تحويل الهزيمة إلى ملحمة هوميريّة، والفشل إلى بطولة أسطوريّة، والميكروفون إلى عرش. وهذا ما يستدعي تشريحاً لا يرحم لتلك الظاهرة التي لا تزال تحكم علاقتنا بالسلطة وبأنفسنا، كما يحكم الإدمان علاقة المدمن بمخدّره.
‏لنبدأ من تلك العبارة الفاضحة التي لخّصت جوهر المشروع الناصريّ في أبشع تجلّياته: "أنا الذي علّمتكم الكرامة". هنا، وبضربة لسان واحدة، حوّل عبد الناصر الكرامة من حقّ طبيعيّ يولد مع الإنسان إلى منّة سلطانيّة يتفضّل بها الحاكم على رعاياه، ومن ممارسة يوميّة للحرّيّة إلى صدقة يتصدّق بها صاحب الصوت الأعلى. أنيس منصور نقل عن العقّاد، ذلك العقل الحرّ النادر في زمن الخضوع الجماعيّ، تعليقه الصاعق الذي يستحقّ أن يُنقش على جدران كلّ مدرسة عربيّة: "شعب يسمع هذا ولا يشنقه، يستحقّ أن يُداس". لم يكن العقّاد يحرّض على العنف بقدر ما كان يشخّص مرضاً حضاريّاً: قبول الإذلال متى جاء مغلّفاً بورق السيلوفان الأبويّ ومربوطاً بشريط الحماية الكاذبة.
‏والمفارقة التي تنطوي على سخرية كونيّة لاذعة أنّ الرجل الذي ادّعى تعليم العرب الكرامة هو نفسه من أذلّهم في حزيران 1967 أبشع إذلال عرفه تاريخهم منذ سقوط بغداد في يد المغول. كما لو أنّ القدر، بحسّه الساخر العميق، أراد أن يفضح ادّعاءات الزعيم بأقسى طريقة ممكنة: جيوش تتبخّر كالماء في مصهر صمّمه الزعيم، وطائرات تُدمّر على الأرض كالدجاج في المذبح، وأراضٍ تُحتلّ بسرعة تفوق سرعة الصوت الذي كان يصدح بأوهام القوّة.
‏لكن كيف وصل هذا الرجل إلى ما وصل إليه؟ كيف تحوّل ضابط متوسّط الموهبة إلى صنم يُعبد؟ محمّد حسنين هيكل، وزير دعاية ناصر ومُنظّر أساطيره، كشف في كتاباته المتأخّرة - ربّما في لحظة ندم متأخّر - جانباً من الحقيقة المُرّة. بحسب هيكل، توصّلت الاستخبارات الإسرائيليّة، بعد دراسة نفسيّة معمّقة لشخصيّة عبد الناصر، إلى أنّه قد يتّخذ قرارات انفعاليّة كارثيّة إذا مُسّت صورته كزعيم. وهذا بالضبط ما فعلوه: هاجموه إعلاميّاً بأنّه لا يستطيع إغلاق المضائق ولا طرد القوّات الدوليّة من سيناء. فماذا فعل الزعيم "الحكيم"؟ وقع في الفخّ بسذاجة طفل يُستفزّ في ساحة المدرسة. أغلق المضائق، طرد القوّات الدوليّة، وقدّم رأسه وجيوشه على طبق من ذهب للعدوّ.
‏ومايلز كوبلاند، ضابط الـCIA الذي عمل في القاهرة وعرف ناصر عن كثب، لم يترك مجالاً للشكّ حين كتب اعترافاً يهدم الأسطورة من أساسها: "ناصر كان خيارنا المضمون: مناهض للشيوعيّة، حاسم، قابل للتعاون". هكذا، وبجرّة قلم واحدة، ينهار الصرح الأسطوريّ للزعيم "المعادي للإمبرياليّة". الرجل الذي ملأ الدنيا صراخاً ضدّ الاستعمار والرجعيّة بدأ حياته السياسيّة كخيار استخباراتيّ أمريكيّ معتمد.
‏أمّا الخطيئة الأصليّة للنظام الناصريّ، تلك التي حدّدت مساره الدمويّ اللاحق، فكانت الانقلاب على محمّد نجيب، الرئيس الذي انتخبه الضبّاط الأحرار بالإجماع. نجيب، في مذكّراته المؤلمة "كنت رئيساً لمصر"، يكشف الحقيقة العارية بلا رتوش: "ناصر لم ينقلب على فاروق، بل عليّ". الجريمة الكبرى لنجيب؟ أنّه أراد انتخابات حقيقيّة، وحياة برلمانيّة، ورفض تحويل مصر إلى ثكنة عسكريّة يحكمها عريف. فكان الحلّ ناصريّاً بامتياز: بعد حادثة المنشية في أكتوبر 1954، والتي نُسبت إلى جماعة الإخوان المسلمين، تم عزل محمد نجيب من منصبه ووضعه تحت الإقامة الجبرية في فيلا بالمرج لمدة تقارب 17 عامًا، في عزلة شبه تامة عن الحياة العامة.
على المستوى الاقتصاديّ، حوّل ناصر مصر من دولة واعدة تملك بذور نهضة حقيقيّة إلى متسوّلة محترفة تمدّ يدها لكلّ عابر سبيل. التأميمات الناصريّة لم تكن توزيعاً للثروة كما زعم دعاتها، بل تدميراً منهجيّاً محسوباً لآليّات إنتاجها. القطاع الخاصّ الذي بناه روّاد حقيقيّون مثل طلعت حرب تحوّل بين ليلة وضحاها إلى مقبرة بيروقراطيّة تديرها عقول ميّتة. أمّا "التعليم المجانيّ"، تلك الأكذوبة الكبرى، فأنتج أجيالاً من حملة الشهادات الجوفاء الذين ينتظرون وظيفة حكوميّة كما ينتظر المؤمنون الجنّة الموعودة. والأخطر كان نظام الدعم الذي حوّل المواطن المصريّ من منتج كريم إلى متسوّل ذليل يقف في طوابير البطاقات التموينيّة كما تقف البهائم أمام المعالف. النتيجة كانت كارثة بكلّ المقاييس: بحلول 1970، بلغ الدين الخارجيّ 1.7 مليار دولار - مبلغ فلكيّ في ذلك الوقت - فيما فقد الجنيه المصريّ أكثر من 60% من قيمته أمام الدولار، واقتصاد عريق تحوّل إلى شحّاذ يستجدي المعونات.
‏لكنّ الجريمة الكبرى، تلك التي لا تُغتفر، كانت تحويل القضيّة الفلسطينيّة من نضال مقدّس إلى بازار سياسيّ رخيص. قبل 1967، والحقائق هنا تصفع كلّ مُنكر، كانت الضفّة الغربيّة بكاملها (5,800 كيلومتر مربّع) تحت السيادة الأردنيّة، وقطاع غزّة (365 كيلومتراً مربّعاً) تحت الإدارة المصريّة، والقدس الشرقيّة عربيّة خالصة بمساجدها وكنائسها. ماذا فعل "محرّر فلسطين" و"زعيم المقاومة"؟ فقد كلّ شيء في ستّة أيّام كستّ بطّات في بركة صيّاد ماهر.
‏وهنا يأتي الدليل الأكثر فضائحيّة، ذلك التسجيل المسرّب بين ناصر والقذّافي في أغسطس 1970، حيث يسقط القناع نهائيّاً ويظهر الوجه الحقيقيّ. قال ناصر بالحرف الواحد: "بيقولوا يا فلسطين كلها من النهر للبحر يا مفيش، يعني بندي الضفّة والقدس وغزّة لليهود. أنا بقول اللي عايز يحارب يتفضّل... أنا مستعدّ أعطيكم خمسين مليون جنيه، بس حلّوا عنّا. سيبونا في جبهتنا وسيناء. إحنا مش داخلين في معركة تحرير... إحنا بندافع عن موقفنا".
‏تأمّل هذا الاعتراف المُذهل: من "سنرمي إسرائيل في البحر" إلى "حلّوا عنّا". من "تحرير كامل التراب" إلى "بندي الضفّة والقدس وغزّة". هكذا انكمشت القضيّة من تحرير فلسطين التاريخيّة إلى مجرّد محاولة يائسة لاستعادة ما ضاع في 1967. فلسطين، في وعي الزعيم، لم تكن قضيّة مقدّسة بل عبئاً ثقيلاً يريد أن يلقيه عن كاهله المُثقل بالهزائم.
‏أمّا حرب اليمن، فكانت فييتنام ناصر التي أكلت الجيش وهزمت المشروع قبل أن تهزمه إسرائيل. خمس سنوات من الجنون المطلق (1962-1967)، ٣٠ ألف جنديّ مصريّ يُرسلون ليموتوا في جبال لم يسمعوا بها من قبل، مليارات الجنيهات تُحرق في أتون حرب لا معنى لها سوى إزعاج الملك فيصل و"الرجعيّة العربيّة". والأنكى أنّ ناصر، في هوسه الإجراميّ، استخدم الغازات السامّة ضدّ القبائل اليمنيّة العُزّل، وقصف مدينتي نجران وجيزان السعوديّتين، ونظّم عمليّات تفجير داخل المملكة باسم منظّمة وهميّة تُدعى "اتّحاد شعب الجزيرة العربيّة".
‏ثمّ جاءت لحظة الحقيقة القاسية في مؤتمر الخرطوم 1967: الزعيم الذي ملأ الدنيا صياحاً ضدّ "الرجعيّة" و"عملاء الاستعمار" وجد نفسه في موقف أذلّ من موقف شحّاذ على باب مسجد، يتوسّل الملك فيصل - نفس الملك الذي شتمه وقصف بلاده - ليساعده على إخراج فلول جيشه من المستنقع اليمنيّ. وحين نُقل لفيصل أنّ ناصر يريد المساعدة، قال الملك بنُبل الكبار: "مصر تأمر ولا تطلب".
‏وهنا تتجلّى المفارقة الأكثر دلالة على حجم الوهم الناصريّ: فيصل، "الرجعيّ" في قاموس الثورجيّة، دعم مصر بسخاء الكرام بعد النكسة وأعاد بناء جيشها، وقطع النفط عن أمريكا وأوروبا في 1973 دفاعاً عن مصر وسوريا، وحوّل النفط من سلعة إلى سلاح. الملك "المتخلّف" مارس التضامن العربيّ فعلاً لا قولاً، بينما الزعيم "التقدّميّ" مارسه خطابة وصراخاً. فيصل لم يحتج إلى ميكروفون ليثبت عروبته، بينما ناصر لم يملك سوى الميكروفون والميكروفون فقط.
‏وفي عهد ناصر، لم تكن الحنجرة مجرّد أداة من أدوات الدولة، بل كانت الدولة ذاتها. كانت الحنجرة وزارة، والمذيع أقوى من الوزير، والإذاعة أهمّ من البرلمان، والصوت أعلى من القانون. هذا ليس مجازاً شعريّاً بل حقيقة دامغة تجلّت في أبشع صورها يوم 5 يونيو 1967. في ذلك اليوم اللعين، بينما الجيش المصريّ يُباد كقطيع أغنام في المسلخ، والطيران يُدمّر على الأرض كلعب الأطفال، كانت إذاعة "صوت العرب" - يا للسخرية المُرّة من الاسم! - تبثّ ستّ نشرات "نصر" متتالية. أحمد سعيد يزعق كثور مجنون بأنّ الطائرات الإسرائيليّة تتساقط "كالذباب"، وعبد الحليم حافظ يغنّي للنصر الموهوم، وأم كلثوم تحشد الجماهير لمعركة انتهت قبل أن تبدأ. هكذا عاش العرب أسبوعاً في دولة الوهم الصوتيّ قبل أن تصفعهم الحقيقة المُرّة كالسوط على الوجه.
وحين خرج المشير عبد الحكيم عامر من المذبحة حيّاً، كان لا بدّ من إسكاته إلى الأبد. في علم النفس، حين يُواجه الزعيم ظلّه المنكسر، يقتله ليحتفظ بصورته الوهميّة أمام الجمهور. عامر لم يكن مجرّد قائد فاشل، بل كان المرآة التي تعكس حقيقة الكارثة، الشاهد الحيّ على حجم الخديعة. "اغتيال" عامر المشبوه في 14 سبتمبر 1967 كان الفصل الأخير في مسرحيّة القتل: قتل الشاهد كي لا يشهد، إسكات المرآة كي لا تعكس.
‏والعجيب، بل المُرعب، أنّ ناصر أسّس مدرسة كاملة في فنّ الحكم بالصوت، مدرسة لا تزال تخرّج طغاة صغاراً حتّى اليوم. تلامذته انتشروا كالوباء في كلّ مكان: معمّر القذّافي حوّل ليبيا إلى مسرح عبثيّ لهذياناته الصوتيّة، وكتابه الأخضر لم يكن سوى محاولة بائسة لتقليد "الميثاق الوطنيّ" الناصريّ. الأسدان، الأب والابن، اختارا الصمت المُطبق، لكنّه صمت مُدوٍّ كصمت المقابر، صمت ينطق بلغة الموت والبراميل المتفجرة. حسن نصر الله حوّل الخطبة إلى صاروخ والصاروخ إلى خطبة، والميكروفون إلى منبر طائفيّ يُفتّت ما تبقّى من وحدة وهميّة.
‏كلّهم، من القذّافي إلى الأسد إلى نصر الله، ورثة شرعيّون لجمهوريّة الحنجرة الناصريّة. كلّهم تعلّموا الدرس جيّداً: لست بحاجة إلى دولة حقيقيّة ما دمت تملك صوتاً قويّاً. لست بحاجة إلى مؤسّسات ما دام لديك ميكروفون. لست بحاجة إلى شعب ما دام لديك جمهور.
‏ذاك أنّ ناصر لم يؤسّس دولة بالمعنى الحديث للكلمة، بل أقام علاقة مَرَضيّة سادو-مازوخيّة بين حاكم سادّي ومحكومين مازوخيّين. هو لم يحتج إلى برلمان حقيقيّ بل إلى مسرح للتصفيق، لم يحتج إلى مواطنين أحرار بل إلى مستمعين مُخدّرين، لم يحتج إلى شعب واعٍ بل إلى قطيع يتبع الصوت الأعلى. وفي المقابل، الشعب - ويا للمأساة! - لم يُرِد دولة تحميه بل صوتاً يصرخ باسمه، لم يُرِد حقوقاً يمارسها بل أباً يحميه من عبء الحرّيّة، لم يُرِد مسؤوليّة الاختيار بل راحة الطاعة العمياء.
‏واليوم، بعد أكثر من نصف قرن على رحيل الصوت الأكبر، لا تزال صور ناصر تُرفع في كلّ مظاهرة عربيّة من بيروت إلى صنعاء. ليس حنيناً إلى مشروع سياسيّ - فأيّ مشروع غير مشروع الهزيمة؟ - بل هروباً مَرَضيّاً من عبء الحرّيّة ومسؤوليّة الاختيار. إريك فروم شخّص هذا المرض الحضاريّ ببراعة الطبيب النفسيّ: "حين تخاف الشعوب من الحرّيّة، تقدّس قيودها". الناصريّة ليست أيديولوجيا سياسيّة يمكن نقاشها، بل طفولة جماعيّة مزمنة، رفض مَرَضيّ للنضج السياسيّ، إدمان قاتل على حليب الأوهام المُحلّى بالهزائم.
‏المأساة الكبرى أنّ العرب لم يتعلّموا الدرس رغم قسوته. ما زالوا ينتظرون المخلّص، الصوت السحريّ الذي سيصرخ بدلاً عنهم، الزعيم الأسطوريّ الذي سيعلّمهم الكرامة، المهديّ السياسيّ الذي سيحوّل الهزائم إلى انتصارات بضربة ميكروفون. وفي كلّ مرّة يأتي دجّال جديد بصوت جديد ووعود قديمة ليكرّر المأساة ذاتها بحذافيرها: يَعِد بالجنّة ويقود إلى الجحيم المحتوم، يتحدّث عن الكرامة ويمارس الإذلال الممنهج، يصرخ بالتحرير ويكرّس الاستعباد المُطلق. 
 الحقيقة المُرّة، تلك التي تحرق كالحامض، هي أنّ عبد الناصر لم يكن مجرّد حاكم فاشل في زمن صعب، بل كان تجسيداً مثاليّاً لفشل حضاريّ جماعيّ، مرآة صادقة بشكل قاسٍ لشعوب قرّرت، بملء إرادتها المريضة، أن تبقى في مرحلة الطفولة السياسيّة. هو أعطانا بالضبط ما أردنا وما استحققنا: وهم القوّة بدل حقيقتها المُرّة، صوت الكرامة بدل ممارستها الشاقّة، صدى الحرّيّة بدل جوهرها المُخيف.
‏لهذا، تحطيم تمثال ناصر لن يكفي أبداً، وحرق صوره لن يُجدي نفعاً. المطلوب أعمق وأصعب بما لا يُقاس: تحطيم الحاجة المَرَضيّة إلى ناصر، كسر إدمان الصوت الأبويّ، الفطام القاسي من حليب الأوهام الإذاعيّة المُحلّى بدبس الهزائم. المطلوب ثورة حقيقيّة على الطفولة السياسيّة المزمنة، تمرّد جذريّ على راحة العبوديّة المُطمئنة، رفض قاطع لمنطق "أنا أصرخ إذن أنتم موجودون".
‏الدولة الحقيقيّة لا تُبنى بالتصفيق الهستيريّ، بل بالمحاسبة الصارمة. الزعيم الحقيقيّ - إن وُجد - لا يعلّم شعبه الكرامة كمعلّم يلقّن تلاميذاً، بل يخضع هو نفسه لكرامة القانون والدستور. ومتى فهمنا، فهماً عميقاً يتجاوز الشعارات، أنّ الحنجرة مهما علا صوتها ليست دستوراً، وأنّ الميكروفون مهما كان سحريّاً ليس مؤسّسة... عندها فقط يمكننا أن نبدأ.
حين نتوقّف نهائيّاً عن البحث المحموم عن الزعيم المنقذ، حين نكفّ تماماً عن انتظار من يعلّمنا الكرامة كمعلّم رياض أطفال، حين نرفض بحزم أن نكون جوقة تصفيق لأيّ صوت مهما كان عذباً... عندها فقط يمكن أن نقول بثقة إنّنا بدأنا نتعافى من الوباء الناصريّ القاتل. أمّا قبل ذلك، فسنبقى ندور إلى ما لا نهاية في الحلقة الجهنّميّة المفرغة ذاتها: زعيم جديد بصوت قديم، ميكروفون جديد بأكاذيب قديمة، وهم جديد بطعم قديم، هزيمة جديدة بمرارة قديمة.
‏في النهاية، وبعد كلّ هذا التشريح المؤلم، ربّما كان العقّاد محقّاً تماماً وبشكل نهائيّ: شعب يقبل أن يُعلّمه حاكمٌ الكرامة يستحقّ فعلاً أن يُداس. القاسي، بل المأساويّ، في الأمر: أنّ بيننا ما يزال، بعد كلّ هذه العقود الطويلة من الهزائم والإذلال، من يبحث بشغف مازوخيّ عمّن يدوسنا... بشرط واحد لا نتنازل عنه: أن يفعل ذلك وهو يصرخ في الميكروفون.
‏هنا دُفن العقل العربيّ تحت أطنان من الأوهام الصوتيّة... وورث الصوت دولة بأكملها، بل أمّة بأكملها. 

16 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤