25 يونيو 2025

عرس في مقبرة الملالي

 عرس في مقبرة الملالي
‏كيف غسلت طهران هزيمتها بمساحيق النصر… ورقصت على أنقاضها كأنها تزفّ نفسها؟
‏ثمّة في المشاهد الثلاثة ما يكشف الحكاية كاملة: في طهران، رايات تُرفع؛ في بيروت، صمت يعلو؛ وفي عمق إيران، أهداف تُضرب بدقّة مَن يجلس داخل مكتب في طهران ذاتها. ثمّ خرجت إيران تقول: لقد انتصرنا. والحال أنّ الرايات الكبيرة، كالوعود الكبيرة، كثيراً ما تخفي فراغاً كبيراً. فهل هذه بقايا نصر؟ أم أنّ الهزيمة، حين تبلغ أقصاها، لا تجد دواءً إلاّ في الخطابة؟
‏والحال أنّ المشهد كان أقرب إلى عرسٍ في مقبرة: مواكب تهتف، وجنائز تخرج، وكلمات النصر تُلقى فوق قبور العجز. هذا المقال لا يقدّم اتّهاماً، بل يعيد تركيب ما حدث: كيف خاضت إيران حرب اثني عشر يوماً، كيف سُحقت قدرتها العسكريّة، وكيف بقي نظامها... فقط ليُعلن الانتصار من تحت الركام.
‏ذاك أنّ في السابع والعشرين من سبتمبر 2024، اغتالت إسرائيل حسن نصر الله في الضاحية الجنوبيّة، ومعه نائبه وقيادة الصفّ الأوّل. قبلها بأيّام، فجّرت عمليّة "البيجر" آلاف أجهزة الاتّصال لدى كوادر الحزب، ممّا شلّ قدرته الميدانيّة. ثلاثة آلاف بين مُصاب وصريع. بنية القيادة سُحقت. الجبهة الشماليّة صمتت.
‏وماذا بعد؟ لم تطلق إيران صاروخاً. لم يردّ الحزب. فقط خرجت شاشات قناة المنار بمرثيّات. "المقاومة" التي أرادت تحرير القدس، صارت تقيم عزاءً لا معركة؛ كأنّها تبحث عن الشمس في منتصف الليل؛ قد تجد ضوءاً، لكن ليس الضوء الذي تدّعي البحث عنه.
‏بيد أنّ حزب الله، مثل كلّ تنظيم أيديولوجيّ عميق، لا ينهار بمقتل قيادته فقط. بل ربّما يستعيد تماسكه بأشكال غير متوقّعة، كما فعل بعد مقتل مغنية والموسوي سابقاً. الفارق هذه المرّة، أنّ البيئة الإقليميّة التي كان يستند إليها تتهاوى: فسوريا الأسد سقطت، وانقطع طريق طهران-بيروت الذي كان شريان الحياة للمحور. فبأيّ خرائط سيعيد الحزب انتشاره؟ وعلى أيّ ظهر سيستند؟
‏وإذ نستحضر يونيو 2025، يلوح أنّ إسرائيل وأمريكا شنّتا حملة تدمير ممنهجة على المنشآت النوويّة: نطنز، أصفهان، فوردو. سبع قاذفات B-2 أمريكيّة من قاعدة ميزوري، محمّلة بقنابل خارقة للتحصينات من نوع GBU-57، ومعها أكثر من ثلاثين صاروخ توماهوك، مزّقت البنية التحتيّة لمشروع نوويّ عمره عقود.
‏مات ما لا يقلّ عن أربعة عشر عالماً نوويّاً من الصفّ الأوّل. وخبراء هندسة الطرد المتقدّم في فوردو، ومهندسو مفاعل أراك. كأنّ الهدف لم يكن فقط تفكيك المنشآت، بل ضرب الذاكرة الهندسيّة ذاتها. والضربة الأكثر قسوة لم تكن في اليورانيوم، بل في رؤوس القرار العسكريّ: في الثالث عشر من يونيو، قُتل الجنرال محمّد باقري (رئيس الأركان)، والجنرال حسين سلامي (قائد الحرس الثوريّ)، والجنرال غلام علي رشيد، ومهدي رباني، وغلامرضا محرابي، وحسن محقّق. أسماؤهم اختفت من المشهد كما اختفت من غرفة العمليّات. أُطلق على تلك الليلة "Operation Guillotine" - المقصلة- إعدام القيادات في مشهد يُشبه شلل الدماغ العسكريّ.
‏فُكّكت منظومة القاذفات بعيدة المدى بنسبة تُقارب الثلث. القدرة الصاروخيّة الفاعلة، بشهادات موثقة، تراجعت -على الأقل- بنسبة 55%، ليس فقط بتدمير القاذفات، بل عبر إصابة مراكز التحكّم والإمداد ووقود الدفع الصلب. وفي ذروة هذا السقوط، خرج خامنئي يهنّئ الشعب بـ"الصمود"؛ صمود ماذا بالضبط؟
‏وفي الذاكرة، قبلها، في بيروت وطهران، قُطعت رؤوس الحلفاء: نصر الله، إسماعيل هنية، قادة فيلق القدس، كبار مهندسي السلاح. لم يكن الردّ إلاّ نداءات الحزن... وتغريدات تهديد لا تجرؤ على التنفيذ. لكنْ حتّى في هذه اللحظة، يدرك المراقبون أنّ ما سقط هو البنية، لا المعرفة. فالبرنامج النوويّ الإيرانيّ يمتدّ لعقود، والمعرفة تبقى. إسرائيل تعلم ذلك، ولذلك قصفَت الوقت، لا فقط المواقع. كسبت سنوات، لكنّها لم تُنهِ المسألة.
‏أغلب الظنّ أنّ الصاروخ الذي صمت قبل أن يُطلَق يحكي قصّة أخرى. بعد نصر الله، توقّع الجميع الردّ. لم يأتِ. رغم امتلاك الحزب ما يقرب من مائة وخمسين ألف صاروخ، لم يُطلَق منها صاروخ واحد. لا طلقة رمزيّة. لا مناورة رمزيّة. لا حتّى صاروخ بلاستيكيّ. الردّ كان قد وُئد قبل أن يولد. لماذا؟ لأنّ إيران لم يكن في وسعها حمايته، لا سياسيّاً ولا عسكريّاً، فقدمته قربانًا حينها؛ ""فهلوة" و "تذاكي" بطعم الزعفران
‏هكذا سُحبت "المقاومة" من الميدان إلى المذابح؛ من ساحات القتال إلى منابر العزاء؛ من تهديد الوجود الإسرائيليّ إلى البكاء على الشهداء. و كان الردّ المسرحيّ؛  أربعة عشر صاروخاً على قاعدة العديد الأمريكيّة في قطر، اعتُرضت كلّها، لم تُصِب هدفاً، لم تجرح جنديّاً، لم تخرق جداراً، مع ذلك؛ فإنّ طهران صرّحت: لقد ردَدْنا. 
 كان هذا هو الردّ. لا أكثر. لا أقلّ. ردّ مصمَّم للكاميرا. لا دماء، لا هيبة، لا تأثير. فقط عرض محسوب لتبرير الكرامة أمام الداخل. وحتّى هذا الردّ لم يكن تعبيراً عن القوّة، بل عن الخوف من التورّط في ردّ أمريكيّ يهدّد النظام. لذا اختارت طهران استعراض العضلات دون عضّ. والحال أنّ الفارق كان أعمق من الصمت أو الضجيج: بينما كانت إسرائيل تقصف المنشآت النوويّة ومقار القيادة ومواقع إطلاق الصواريخ، كانت إيران تقصف الشوارع. لم تستطع حتى العثور على هدف عسكري حقيقي تضربه. لا قاعدة جوية، لا ثكنة، لا مركز قيادة. إسرائيل ضربت لتغيّر ميزان القوى؛ أمّا إيران، فضربت لتملأ الفراغ في نشرة العاشرة. أرادت إسرائيل إرجاع البرنامج النووي الإيراني سنوات إلى الوراء؛ وأرادت إيران فقط إرباك نشرة الأخبار.
‏لعلّ السؤال الأكثر إلحاحاً: متى تحوّلت إيران من ثورة إلى تمثيل؟ في 1980، كانت تصدّر الفوضى. في 2025، صارت تصدّر الشعارات. ما بين البداية والنهاية، سقطت القدرة، وبقي الخطاب. من دعم الحركات المسلّحة، إلى دعم مواكب القتلى. من تهديد السفارات، إلى تهديدات تويتريّة لا تجد من يردّ عليها. من الصواريخ إلى الصمت. إيران لم تعد ثورة -كما تزعم- بل أصبحت ديكوراً ثوريّاً... فارغاً من الداخل.
‏وثمّة في تجرّع خامنئي لهذا السُمّ ما يذكّر بسلفه الخميني حين تجرّع، على مضض، وقف إطلاق النار مع العراق في 1988. لكنّ الفارق أنّ الخميني شرب كأساً واحدة مُرّة، فيما خامنئي يحتسي الكؤوس تباعاً: كأس سقوط نصر الله، كأس تدمير المنشآت النووية، كأس اغتيال القادة العسكريين… وكأس الصمت المُذلّ أمام كلّ ذلك. والحال أنّ الخميني، رغم مرارة كأسه، احتفظ بهيبة "الإمام" وبقدرة على التعبئة؛ أمّا خامنئي فيشرب سمومه وهو يردّد تعاويذ النصر، كمَن يُخدّر نفسه قبل أن يُخدّر الآخرين. هكذا تحوّل "الموت لأمريكا" من صرخة تعبوية إلى همهمة طقوسية، ومن شعار يُرعب إلى لازمة تُضحك.
‏وإذ نستذكر العراق، يلوح الفارق جليّاً: حين ضربت إسرائيل مفاعل أوزيراك في 1981، انتظرت أمريكا اثنين وعشرين عاماً لتُسقط النظام بأكمله في 2003، رغم أنّها كانت تستطيع فعل ذلك في 1991 حين حرّرت الكويت وجيوشها على أبواب بغداد. لماذا؟ لأنّ صدّام، بكلّ جنونه، لم يكن مفيداً بما يكفي ليُبقى عليه 2003. أمّا نظام الملالي، فبين النضال والنذالة يختار الثانية دوماً؛ بين المقاومة والمقايضة لا يتردّد في بيع حلفائه بثمن بخس؛ وبين الثورة والثروة صار جليّاً أيّهما يؤثر.
‏والسؤال الذي لم يُسأل في مؤتمرات النصر: لماذا لم تُسقِط أمريكا وإسرائيل النظام الإيرانيّ؟ لماذا تمّ ضرب الرأس... لكن لم تُقطع العنق؟ والحال أنّ النظام الإيرانيّ – بهذا الشكل الضعيف والمربك – مفيد. إيران تُرعب بعض دول الخليج... فتُبرّر القواعد. إيران تُخيف الغرب... فتُبرّر العقوبات. إيران تُشوّش على الداخل العربيّ... فتُبرّر احتواءه. إنّها الفزّاعة التي تخيف الجميع، لكنّها لا تُسقط أحداً. الوحش الذي يُطلق زئيره كي لا يفكّر القطيع بالخروج من الحضيرة. نظام يهدّد دون أن يتحرّك، يبتزّ دون أن يُطلق، يصرخ دون أن يعضّ.
‏بيد أنّ هذا لا يعني أنّها انتهت. بل ربّما تعيد التموضع، وتبني خطاباً جديداً بردعٍ تقليديّ أشدّ... على حساب حلفائها الذين ستتركهم دائماً في خطّ النار. وهذا يقودنا إلى مَن يحتفل بين الأنقاض. عندما انتهت الحرب، توقّفت الصواريخ، توقّفت الغارات، وبدأت الاحتفالات. كانت المقابر تُجهّز... والخطب تُلقى. إيران احتفلت. لكن ليس بالنصر. بل بأنّها لم تسقط. وهذا بحدّ ذاته اعتراف ضمنيّ بالخسارة: حين يكون البقاء مجرّد عدم الموت. تعريف جديد للهزيمة.
‏لقد كانت حرباً قصيرة، لكنّها لم تكن ضدّ إيران... بل ضدّ ما تدّعيه إيران عن نفسها. فإذا كانت دولة تُقصف من السماء، وتُختَرق على الأرض، وتُهان في قلب عاصمتها... ثمّ تعود لتقول: "لقد انتصرنا"، فهذا لا يُثبت القوّة. بل يُثبت شيئاً آخر: أنّها لم تعد تملك ما تخسره، إلاّ خطابها. وحين يصير الخطاب هو الملكية الوحيدة، تغدو الهزيمة نصراً، والانكسار انتصاراً، والموت حياة. هكذا، ببساطة، تُكتب نهايات الأوهام الكبرى: لا بانفجار مدوٍّ، بل بهمس يدّعي الزئير. 

10 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤