أحب روسيا بشكل كبير، وأعشق أدبها، ولي علاقات كثيرة بها، وقررت هذه السنة أن أقضي إجازتي بها بعد خمس سنوات من زيارتي الأخيرة لها. ويوم أمس، في صباح موسكو العذب الذي لا يعرف روعته إلا من زارها، وجدت نفسي جالسًا في مكتب فخم يطل على أسوار الكرملين، أتحدث مع دبلوماسي روسي رفيع المستوى تعرفت عليه حين كان يعمل بالسفارة الروسية بالرياض عام ٢٠٠٧. عيناه الثاقبتان تحملان نظرة واثقة وهو يقول: "نحن نشهد نهاية عصر وبداية آخر. الهيمنة الأمريكية الأحادية تتلاشى، وعالم جديد متعدد الأقطاب يولد من رحم هذه الأزمة."
هذه الكلمات، التي قد تبدو للوهلة الأولى مجرد دعاية روسية، تلخص في الواقع التحول الجيوسياسي العميق الذي نشهده اليوم. فالحرب الروسية الأوكرانية، التي دخلت أواسط عامها الثاني، ليست مجرد صراع إقليمي، بل هي نقطة تحول تاريخية تعيد صياغة قواعد اللعبة الدولية وموازين القوى العالمية، ولعل التاريخ يربطها يومًا بإعلان بوش الأب عن النظام العالمي الجديد، وهو بدون رتوش: نظام القطب الواحد.
لفهم عمق هذا التحول، علينا أن نعود إلى جذور النظام العالمي الحديث. منذ معاهدة وستفاليا عام 1648، مر العالم بتحولات عديدة في توازن القوى: من التعددية القطبية في أوروبا القرن الثامن عشر، إلى الثنائية القطبية خلال الحرب الباردة، وصولًا إلى الأحادية القطبية الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. كل مرحلة كانت نتيجة لصراعات وتحولات جيوسياسية كبرى، تمامًا كما نشهد اليوم.
الحرب في أوكرانيا، بكل تعقيداتها وتداعياتها، تمثل تحديًا صارخًا للنظام العالمي القائم على القواعد الذي قادته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة. فروسيا، بغزوها لأوكرانيا، لم تتحد فقط سيادة دولة مستقلة، بل تحدت أيضًا الأعراف والقوانين الدولية التي شكلت أساس النظام العالمي لعقود.
لكن الأمر لا يقتصر على روسيا وحدها. فالصين، القوة الصاعدة الأخرى، تراقب الوضع عن كثب وتستفيد منه استراتيجيًا. هذا التحالف المتنامي بين الصين وروسيا يشير إلى تشكل محور جديد يسعى لتحدي الهيمنة الغربية. ولا ننسى هنا زيارة الرئيس بوتين إلى كوريا الشمالية ومانتج عنها من اتفاقات تاريخية ليس هنا محل عرضها.
الأرقام تتحدث عن نفسها. البيانات تشير إلى أن التجارة بين البلدين وصلت إلى أكثر من 240 مليار دولار في عام 2023. هذا النمو الهائل في العلاقات الاقتصادية يعكس تحولًا استراتيجيًا في توازن القوى العالمي.
في المقابل، نرى الولايات المتحدة وحلفاءها يكافحون للحفاظ على النظام القائم. العقوبات غير المسبوقة على روسيا والدعم العسكري الهائل لأوكرانيا هي محاولات لردع أي تغيير جذري في الوضع الراهن. لكن هذه الجهود، رغم أهميتها، لم تمنع التحول الجاري في موازين القوى العالمية.
التقدم العسكري الروسي الأخير في شرق أوكرانيا، خاصة السيطرة على مراكز لوجستية هامة، يشير إلى أن موسكو قادرة على تحقيق مكاسب ميدانية رغم الضغوط الغربية. فمثلًا: رغم التوقعات المتفائلة الغربية لأثر العقوبات الاقتصادية البالغ على روسيا، إلا أن الاقتصاد الروسي نما بنسبة 3.6% في عام 2023. هذا الصمود الاقتصادي يدعم فكرة أن العقوبات الغربية لم تحقق أهدافها المرجوة. هذا الصمود الروسي، مقرونًا بالدعم الصيني الضمني، يعزز فكرة أن العالم يتجه نحو نظام متعدد الأقطاب.
لكن ما شكل هذا النظام الجديد؟ وكيف سيؤثر على مستقبل العلاقات الدولية والاقتصاد العالمي؟ لنستكشف بعض السيناريوهات المحتملة:
1عالم البلوكات المتنافسة: في هذا السيناريو، يتشكل النظام العالمي حول محورين رئيسيين: الغرب بقيادة الولايات المتحدة، والشرق بقيادة الصين وروسيا، ويضم دول البريكس ومعهم سلاح ردعهم "هبيل القوم": كوريا الشمالية. وينتج عن ذلك ازدياد حدة المنافسة الاقتصادية والتكنولوجية، مع تقليص التعاون العالمي في القضايا المشتركة.
2التعاون المضطرب: هنا، تدرك القوى العالمية ضرورة التعاون لمواجهة التحديات المشتركة مثل التغير المناخي والأوبئة، رغم استمرار التنافس الجيوسياسي. نشهد تعاونًا متزايدًا في مجالات محددة، مع استمرار التوترات في مناطق أخرى.
3عصر الفوضى الجديد: في هذا السيناريو الأكثر قتامة، يؤدي تصاعد التوترات إلى انهيار النظام الدولي القائم. تزداد النزاعات الإقليمية، وتضعف المؤسسات الدولية، مما يؤدي إلى عالم أكثر فوضوية وخطورة.
لكن أي من هذه السيناريوهات أقرب للواقع؟ الإجابة تكمن جزئيًا في التحولات الجارية في النظام المالي العالمي.
التقيت قبل سفري بمصرفي استثماري كبير قال لي: "النظام المالي العالمي يتغير بسرعة أكبر مما يدرك معظم الناس." وأضاف: "الدولار الأمريكي، الذي كان لعقود العمود الفقري للاقتصاد العالمي، يواجه تحديات غير مسبوقة."
الأرقام تؤكد كلامه. فوفقًا لصندوق النقد الدولي، انخفضت حصة الدولار من احتياطيات العملات العالمية من 71% في عام 1999 إلى 59% في عام 2021، الصين وروسيا تقودان جهودًا حثيثة لتقليص الاعتماد على الدولار. في عام 2022، اشترت الصين وروسيا كميات كبيرة من الذهب. هذه الخطوات ليست مجرد تنويع للاستثمارات، بل استراتيجية مدروسة لتحدي الهيمنة المالية الأمريكية.
لكن الذهب ليس وحده في الميدان. العملات الرقمية، وعلى رأسها البيتكوين، تلوح في الأفق كبديل محتمل للنظام المالي التقليدي. "العملات المشفرة قد تكون السلاح السري في الحرب الاقتصادية القادمة," ويقول خبراء في التكنولوجيا المالية. "إنها توفر وسيلة للتهرب من العقوبات وتقليل الاعتماد على البنوك المركزية."
وكأن هذا لم يكن كافيًا، فإن مجموعة دول البريكس "المؤسسة" : (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب أفريقيا) تسعى لتطوير عملة مشتركة. هذه الخطوة، إن نجحت، قد تعيد تشكيل خريطة القوة الاقتصادية العالمية بشكل جذري.
لكن هذه التحولات لا تخلو من التناقضات. فبينما تسعى الصين لتعزيز مكانة اليوان كعملة عالمية، فإنها تواجه تحديات كبيرة بسبب سياساتها الداخلية المقيدة لحركة رأس المال. وبينما تحاول روسيا الابتعاد عن الدولار، فإنها لا تزال تعتمد بشكل كبير على صادرات الطاقة المسعرة بالدولار.
هذه التناقضات تشبه لعبة الشطرنج المعقدة، حيث كل لاعب يحاول توقع الخطوة التالية لخصمه. وكما في الشطرنج، فإن الخطأ الواحد قد يكلف اللاعب الكثير.
في خضم هذه التحولات الهائلة، يبرز سؤال جوهري: هل نحن على أعتاب نظام مالي عالمي جديد؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي تداعياته على توازن القوى العالمي؟
لفهم الإجابة، علينا أن نتخيل العالم كسفينة ضخمة تبحر في مياه مضطربة. الدولار الأمريكي كان لعقود طويلة بمثابة الشراع الرئيسي لهذه السفينة. لكن اليوم، نرى رياحًا جديدة تهب من الشرق، تحمل معها وعودًا بنظام مالي أكثر تنوعًا وربما أكثر عدلًا.
لكن التحول من نظام إلى آخر نادرًا ما يكون سلسًا. فكما أن تغيير مسار السفينة في خضم العاصفة محفوف بالمخاطر، فإن إعادة تشكيل النظام المالي العالمي قد يؤدي إلى اضطرابات كبيرة. قد نشهد فترة من عدم الاستقرار الاقتصادي، حيث تتصارع العملات المختلفة للهيمنة، وقد تزداد حدة الصراعات التجارية والجيوسياسية وبأسوأ الظروف العسكرية.
ومع ذلك، فإن هذا التحول قد يحمل معه فرصًا كبيرة أيضًا. نظام مالي أكثر تنوعًا قد يكون أكثر مرونة في مواجهة الأزمات، وقد يوفر فرصًا أكبر للدول النامية للمشاركة في الاقتصاد العالمي بشكل أكثر عدلًا.
التكنولوجيا ستلعب دورًا حاسمًا في تشكيل هذا النظام الجديد. الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا العسكرية المتقدمة يغيران قواعد اللعبة. في عام 2024، شهدنا تطورات هائلة في مجال الأسلحة الفرط صوتية والأسلحة السيبرانية واستخدامات الدرونز العسكرية. هذه التطورات تعيد تعريف مفاهيم الردع والأمن القومي.
الانقسام الداخلي في الولايات المتحدة حول كيفية التعامل مع الأزمة الأوكرانية يعكس هذا التحدي. فبينما يدعو دونالد ترامب، المرشح الرئاسي الجمهوري، إلى حل دبلوماسي سريع معتمدًا على علاقاته الشخصية مع القادة العالميين، تؤكد كاميلا هاريس، نائبة الرئيس والمرشحة الرئاسية أيضًا، على ضرورة الحزم في مواجهة روسيا وتعزيز العقوبات. هذا الاختلاف ليس مجرد خلاف سياسي داخلي، بل يعكس تساؤلات أعمق حول دور أمريكا في النظام العالمي الجديد.
التحديات العالمية المشتركة، مثل التغير المناخي، تضيف بعدًا آخر لهذا المشهد المعقد. تشير الإحصائيات الأخيرة إلى أن التغير المناخي قد يؤدي إلى خسائر تصل إلى تريليونات الدولارات بحلول عام 2050. هذا التهديد المشترك قد يدفع القوى العالمية إلى التعاون، حتى في ظل التنافس الجيوسياسي.
في نهاية المطاف، فإن شكل النظام العالمي الجديد سيعتمد على كيفية إدارة هذه التحولات. هل ستتمكن القوى العالمية من التعاون لبناء نظام أكثر استقراراً وعدالة؟ أم أن التنافس سيؤدي إلى مزيد من الانقسام والصراع؟
كما قال لي بالأمس صديقي الدبلوماسي الروسي: "التاريخ لا يتوقف أبداً." ونحن اليوم نقف على مفترق طرق تاريخي، حيث قراراتنا وأفعالنا ستشكل مسار العقود القادمة.
وبينما نبحر في هذه المياه المضطربة، يبقى السؤال الأهم: هل سنتمكن من توجيه سفينتنا العالمية نحو شاطئ السلام والازدهار، أم أننا متجهون نحو عاصفة كاملة من الصراع والفوضى؟
وهنا أتذكر ما قاله لي صديق أمريكي يعمل في أحد مراكز الفكر المرموقة: "الخطر الأكبر ليس في صعود قوى جديدة، بل في فشلنا في إدراك أن العالم قد تغير". هذه الكلمات تلخص التحدي الحقيقي الذي نواجهه اليوم. فالنظام العالمي الجديد لن يتشكل فقط من خلال القوة العسكرية أو الاقتصادية، بل من خلال القدرة على فهم وإدارة التعقيدات المتزايدة لعالمنا المترابط.
وفي النهاية، قد نجد أن الطريق إلى الاستقرار والازدهار في هذا النظام العالمي الجديد لا يكمن في محاولة إعادة إحياء نظام قديم، ولا في السعي وراء هيمنة جديدة. بل قد يكمن في بناء نظام أكثر مرونة وشمولية، قادر على استيعاب التنوع والتغيير، مع الحفاظ على القيم الأساسية للسلام والعدالة.
فكما أن الأزمات السابقة أدت إلى ولادة مؤسسات ونظم جديدة - من الأمم المتحدة إلى اتفاقيات بريتون وودز - فإن الأزمة الحالية قد تكون فرصة لإعادة تصور وإعادة بناء نظام عالمي أكثر عدلاً واستدامة.
الإجابة، كما هو الحال دائماً في عالم السياسة الدولية، تكمن في أيدينا جميعاً. فنحن لسنا مجرد مراقبين للتاريخ، بل صانعون له. وفي هذه اللحظة الحاسمة، يتعين علينا أن نرتقي إلى مستوى التحدي، وأن نعمل معاً لبناء عالم يمكن لأجيال المستقبل أن تفخر به.