حين صار اللايك شهادة وجود، والمثقف ترسًا في ماكينة التفاهة
ثمّة 274 مليون عربي يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي. ربع مليار! لو وقفوا في طابور لأخذ سيلفي جماعي، لالتفّ الطابور حول الأرض سبع مرات؛ وما زال نصفهم يجادل حول الفلتر المناسب. والحال أنّ كل واحد منهم تقريباً يظنّ نفسه “مثقفاً” أو “صانع محتوى” أو “مؤثراً”، ثلاث كلمات لمعنى واحد: شخص يلوّث الفضاء الرقمي بآرائه غير المطلوبة.
يلوح في هذا المشهد ما يُذكّر بأسواق الخضار الشعبية: الكل يصرخ، لا أحد يسمع، والبضاعة في معظمها فاسدة. بيد أنّ بائع الخضار على الأقل يبيع شيئاً يمكن أكله؛ أما “المحتوى” الرقمي فلا يصلح حتى كسماد.
ذاك أنّ تحوّل المثقف من كائن نادر يسكن المكتبات ويتغذى على الكتب، إلى مخلوق رقمي يتغذى على اللايكات ويفرز التغريدات؛ هذا التحول يشبه انقراض الديناصورات وظهور الصراصير. نعم، كلاهما كائن حي، لكن أحدهما كان مهيباً، والآخر… حسناً، صرصور.
دعوني أصدمكم بحقيقة: المثقف الحقيقي في الخمسينيات كان يقرأ - على الأقل- كتاباً في الأسبوع. “المثقف” اليوم يقرأ عناوين المقالات فقط، وأحياناً لا يكمل حتى العنوان إن كان طويلاً. ينشر المقال مع تعليق عميق من قبيل “مقال مهم” أو “يستحق القراءة”، وهو لم يتجاوز السطر الأول؛ هذا إن لم يكتفِ بقراءة الصورة المرفقة.
وإذ نتأمل الأرقام السعودية، نجد ما يُثير الدهشة والغثيان: 94.3% على وسائل التواصل. تقريباً الجميع! كأنّ من لا يملك حساباً على تويتر ليس مواطناً كامل الأهلية. والأروع أنّ المواطن الواحد يملك 10.4 حسابات في المتوسط. عشرة فاصلة أربعة! كيف يكون لإنسان 0.4 من حساب؟ أهو حساب مشترك مع الببغاء؟ أم أنه حساب يُستخدم فقط أيام الخميس الزوجية؟
لكن – وهذه “لكن” صغيرة بحجم رأس دبوس، لا تقلقوا – لعلّنا نعترف أنّ ثمة فوائد. أغلب الظنّ أنك تستطيع الآن الوصول لمكتبة الكونجرس من مرحاضك؛ يمكنك حضور محاضرة في هارفارد وأنت ترتدي البيجاما؛ يمكنك النقاش مع عالِم في اليابان وأنت تأكل الكشري أو الحمص أو الكبسة. لكن ماذا نفعل بدلاً من ذلك؟ نشاهد شخصاً يأكل "النودلز” ويبثّ ذلك مباشرة لمائة ألف متابع!
راهناً، يتجلى التناقض الصارخ في مصر: 27% مدمنون على وسائل التواصل. في بلد الأزهر ودار العلوم، ربع الشعب يقضي وقته في مشاهدة مراهقين يقلّدون رقصات كورية. مقاهي القاهرة التي شهدت نقاشات توفيق الحكيم صارت صامتة كالمقابر، مع فارق أنّ الموتى في المقابر على الأقل لا يحدّقون في شاشات مضيئة.
وإذا تساءلنا عن السبب، فالجواب بسيط ومرعب: الخوارزميات. تلك المعادلات الشيطانية التي تعرف عنك أكثر مما تعرف عن نفسك؛ تعرف أنك ستتوقف عند فيديو القطة التي تعزف البيانو، وأنك ستقضي 47 دقيقة تشاهد فيديوهات “مقالب مضحكة” رغم أنها ليست مضحكة، وأنك ستشارك خبراً كاذباً لأن عنوانه يدغدغ تحيزاتك.
لقد حوّلتنا الخوارزمية إلى فئران تجارب في مختبر سكينر العملاق. نضغط الزر (السكرول) فنحصل على الجائزة (دفقة دوبامين)؛ نضغط ونضغط ونضغط حتى ننسى لماذا بدأنا بالضغط أصلاً. حتى ننسى أنّ هناك عالماً خارج الصندوق.
والمضحك المبكي أنّ الجميع صار “خبيراً”. الطبيب يغرّد عن السياسة، والسياسي يحاضر في الطب، ومدرّب الرياضة يفتي في الدين، ورجل الدين يحلل المباريات؛ وكلهم – كلهم بلا استثناء – خبراء في الاقتصاد! خاصة بعد منتصف الليل، حين تنشط هرمونات الحكمة الزائفة.
أتذكر زمناً – وأعلم أنني أبدو كعجوز يتحسر على أيام الأبيض والأسود – حين كان للكلمة وزن؛ حين كان المثقف يخجل أن يتحدث فيما لا يعلم. اليوم؟ الجهل صار شجاعة، والصمت صار جبناً، والاعتراف بعدم المعرفة صار عيباً اجتماعياً.
لعلّ أطرف ما في الأمر – وأستخدم “أطرف” هنا بمعنى “أكثر إثارة للقيء” – هو ظهور مهنة “صانع المحتوى”. مهنة! كأن نشر صور الإفطار وفيديوهات الرقص عمل يستحق التقدير المهني. “ماذا تعمل؟” “أنا صانع محتوى.” “وماذا تصنع بالضبط؟” “محتوى.” حوار عبثي يليق بمسرحية لبيكيت.
والأدهى أنّ الجامعات صارت تدرّس “التسويق الرقمي” و”إدارة وسائل التواصل الاجتماعي”. دكتوراه في الهاشتاغ! ماجستير في فن السيلفي! بكالوريوس في علوم الستوري! ما التالي؟ جائزة نوبل لأفضل تيك توك؟
بيد أنّ المأساة الحقيقية – والآن أتوقف عن السخرية لثانية واحدة فقط – هي ما نخسره. نخسر القدرة على التركيز العميق؛ نخسر متعة القراءة البطيئة؛ نخسر فن المحادثة؛ نخسر القدرة على الملل – نعم، الملل الخلاق الذي تولد منه الأفكار العظيمة.
إذ نربي جيلاً لا يعرف طعم الانتظار، لا يحتمل الصمت، لا يطيق الوحدة مع أفكاره؛ جيلاً يقيس قيمته بعدد المتابعين، وجودة حياته بعدد اللايكات؛ جيلاً لا يعرف التريّث، كأنه يركض خلف الجزرة المعلقة أمام أنفه، كلما اقترب منها سُحبت خطوة للأمام.
الحل؟ لا أملك حلاً سحرياً؛ فلست صانع محتوى تحفيزي! لكن ربما يبدأ الأمر بأن نعترف بالمشكلة؛ أن نعترف أننا مدمنون؛ أن نعترف أنّ الإمبراطور الرقمي عارٍ، وأنّ معظم “المحتوى” مجرد ضجيج، وأنّ معظم “المؤثرين” مجرد بائعي وهم
لئن احتجنا لشيء، فربما نحتاج لحركة مقاومة ثقافية. ليس ضد التكنولوجيا؛ بل ضد الاستخدام الأبله لها؛ مقاومة تعيد الاعتبار للقراءة العميقة، للنقاش الحقيقي، للصمت المثمر؛ مقاومة تقول: لا، لست مضطراً لإبداء رأيك في كل شيء. لا، ليس كل فكرة تستحق التغريد. لا، قيمتك ليست في عدد متابعيك.
لكنني أعلم أنّ هذا لن يحدث؛ أعلم أنّ القطار انطلق ولا يمكن إيقافه؛ أعلم أننا سنستمر في الانحدار، تغريدة بعد تغريدة، ستوري بعد ستوري، حتى نصل إلى القاع، ثم نكتشف أنّ هناك قاعاً آخر تحته.
وأنا؟ أنا جزء من المشكلة. أكتب هذا المقال الذي سيُنشر رقمياً، سيُقرأ (جزئياً) على الشاشات، سيُشارك مع تعليقات من قبيل “صح لسانك” و”الله يعطيك العافية”، ثم سيُنسى خلال ساعة حين يظهر فيديو جديد لراقصة برازيلية أو قط يلعب الشطرنج.
المفارقة الأخيرة؟ أنني رغم كل هذا النقد اللاذع، سأفرح حين أرى الأرقام تتصاعد تحت المقال؛ سأبتسم مع كل إشارة وتعليق؛ سأتحول للحظات إلى ذات الوحش الذي أنتقده. ذاك أنّ الخوارزمية، يا سادة، لا تُهزم. إنها تحوّل حتى أعداءها إلى عبيد.
فلنستسلم إذن. لكن على الأقل، لنستسلم ونحن نضحك على أنفسنا. فالكوميديا التراجيدية أفضل من التراجيديا الصرفة. ولنتذكر، في لحظات الصفاء القليلة بين إشعار وآخر، أنّه كان لنا زمن آخر؛ زمن كانت فيه الأفكار تُطبخ على نار هادئة، لا تُقلى في زيت التريند الحار.
زمن كان فيه المثقف مثقفاً، والجاهل يعرف أنه جاهل، والصمت ذهباً لا جُبناً.
لكن ذلك الزمن، كما يقولون في التعليقات، “راح وما يرجعش”.
والله أعلم بالغيب، وبالخوارزميات.
