08 يناير 2025

عندما يصبح التنظير مهنة المتعالمين

أتابع منذ فترة، ببعض من المتعة المشوبة بالأسى، كتابات مثقّفينا عن السياسة والثورة والتغيير. ذاك أنّ في متابعتهم ما يشبه مشاهدة مسرحية كوميدية: الممثّلون يأخذون أدوارهم بجدّية بالغة، فيما يدرك المشاهدون أنّهم يشهدون عرضاً هزليّاً من غير قصد.
وقد لفت انتباهي، في النقطة الثامنة من المقال المرفق بالمغالطات، تنظير الكاتب للثورة والطبقة العاملة والإخوان المسلمين. فالرجل يتحدّث عن هذه القضايا المعقّدة كما لو أنّه يشرح وصفة طعام: شيء من البروليتاريا، وقليل من النخبة، مع رشّة من الأيديولوجيا. وكأنّ الثورات، في تاريخ البشرية كلّه، لم تكن سوى خلطة بسيطة من مكوّنات محدّدة.
والحال أنّ الثورات تشبه النسيج المعقّد الذي تتداخل فيه خيوط كثيرة: عمّال وفلاحون ومثقفون وطلبة وجنود منهكون وطبقة وسطى محبطة. ولعلّ التجربة البلشفية نفسها خير مثال على هذا التعقيد، إذ جمعت بين المثقفين الثوريين والعمّال والفلاحين في مزيج متفجّر غيّر وجه روسيا والعالم. لكنّ كاتبنا المتعالي يختزل هذا كلّه في معادلة بسيطة تليق بتلاميذ المدارس الابتدائيّة.
أمّا حين يتناول موضوع الإخوان المسلمين، فإنّ تحليله يغدو أشبه بمحاولة قياس عمق البحر بمسطرة مدرسية. فهو يقرّر، بجرّة قلم واحدة، أنّ علاقة الإخوان بالطبقة العاملة "انقطعت تماماً". وكأنّ العلاقات الاجتماعية والسياسية مجرّد أسلاك كهربائية يمكن قطعها بقرار إداري. والحال أنّ الحركات السياسية - الدينية تنسج شبكات معقّدة من العلاقات تمتدّ من المساجد إلى الجمعيات الخيرية، ومن المدارس إلى المستشفيات. هذه الشبكات لا تتبخّر بمجرّد حظر نشاط الجماعة.
ولا أريد هنا أن أتّخذ موقفاً مؤيّداً أو معارضاً للإخوان أو لغيرهم. ما يعنيني هو ذاك التعالي المعرفيّ الذي يتجلّى في ربطه بين الفشل المزعوم ل "الشعار الدينيّ" في سوريا ومستقبل الإخوان في مصر. وهذا يشبه من يقرّر أنّ الطقس سيكون حارّاً في بيروت لأنّه حارّ في بغداد. فلكلّ بلد عربي خصوصيته وسياقه وتعقيداته، والصراع في سوريا ليس هو الصراع في مصر.
وما يثير الاستغراب حقّاً وصفه للشعارات الثورية بـ "المراهقات والطفوليات". ذاك أنّ هذا التوصيف نفسه يكشف عن نظرة متعالية وسطحية لديناميكيات الثورات. فالشعارات الثورية، في واقع الأمر، ليست مجرّد هتافات عابرة أو نزوات شبابية، بل هي تعبير عن تطلّعات جماعية وآمال مكبوتة وغضب متراكم. والحال أنّ وصف هذه التعبيرات بالمراهقة والطفولية يشبه من يصف المريض بأنّه يتصنّع الألم لمجرّد أنّه يصرخ من وجعه.
والأدهى أنّ كاتبنا يتجاهل تماماً علم النفس الاجتماعي وآليات التعبئة السياسية. فهو يفترض أنّ الناس يقرّرون الانخراط في الحركات السياسية بناءً على حسابات بسيطة: هل نجحت في الحكم أم فشلت؟ هذا التبسيط المخلّ يتجاهل دور الهوية الجماعية والمشاعر الدينية والإحباط الاجتماعي والظلم السياسي في تشكيل الوعي والسلوك السياسيين.
على أنّ الأخطر في النصّ هو تجاهله التطوّر الكبير في نظريات الحركات الاجتماعية الجديدة. فهو لا يزال أسير النظرة الماركسية التقليدية التي تختزل كلّ شيء في الصراع الطبقي. والحال أنّ الثورات المعاصرة قد تنطلق من قضايا ثقافية أو هُوياتية أو حقوقية، وقد تجمع بين مطالب اقتصادية وسياسية واجتماعية في آن معاً.
في النهاية، لا يسعني إلاّ أن أشكر الكاتب على هذه الجرعة من "التنوير" التي قدّمها لنا. فهو، من حيث لا يدري, قد قدّم لنا درساً مهمّاً: أنّ التعالي الفكريّ، حين يقترن بالجهل، ينتج مهزلة فكريّة تستحقّ المشاهدة. ولعلّ هذا ما يجعلني أتابع هذا النوع من الكتابات باستمتاع: إنّها تذكّرنا دائماً بأنّ التواضع المعرفيّ هو أوّل درجات الحكمة.

4 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤