27 يوليو 2025

غزة:تلك التي أدارتها مصر... ثم باعتها في كامب ديفيد

‏ثمّة في قصة غزة ما يُشبه الأحاجي السيادية:
‏كيف تُمحى مدينة من ذاكرة دولة كانت تُديرها؟ كيف تُباع أرض بصمت المُوقّعين، لا بصخب المفاوضين؟
‏في كامب ديفيد، لم تُحتل غزة… بل أُسقِطت.
‏لم تُدرج في خريطة السادات، كأنها سطرٌ شُطِب من كتاب الجغرافيا السياسية، أو هامش يمكن الترفّع عنه.
‏لا بند يذكرها، لا شرط يربطها بمصير سيناء، لا جملة تقول “هذه منّا” أو حتى “كانت لنا”.
‏منذ عام 1948، عاشت غزة في برزخ سياسي. تحت إدارة مصرية… لا تعترف بها كجمهورية، ولا تمنحها استقلالًا.
‏وثائق رمادية بدل الجوازات. عزل بدل دمج. تسعة عشر عامًا مرّت كأنها يوم طويل من اللاقرار.
‏وفي تناقض صارخ مع الذاكرة الأقدم: غزة لم تكن غريبة عن المدار المصري.
‏من صلاح الدين إلى المماليك، كانت تُدار من القاهرة وتُحمى بقرارها.
‏حتى في العهد العثماني، كانت ترتبط اقتصاديًا ودينيًا بمصر أكثر من دمشق.
‏لم تكن ملحقًا… بل ضلعًا في مثلث السيادة المصرية.
‏ثم جاء يونيو 1967، لتنكشف الفجوة بين الإدارة والحماية.
‏أغلقت مصر مضائق تيران، وأُعلنت الحرب، لكنها لم تُجهّز جبهة غزة. تُرك القطاع عاريًا: لا دفاع، لا تنسيق، لا وعد بالنجدة.
‏لم تكن تلك لحظة الهزيمة فقط… بل لحظة افتضاح العلاقة بين من يُدير، ومن يُفترض أن يحمي.
‏وفي كامب ديفيد، جلس السادات -بعد أن أهان الكرامة في الكنيست- يرسم خريطة السلام… بلا غزة.
‏لم يطالب بها، لم يُدرجها، لم يشترط انسحابًا.
‏تركت في ورقة ملحقة عن “حكم ذاتي” مؤجل، بلا ضمانات، بلا سيادة، بلا مواعيد.
‏حتى وزير خارجيته، محمد إبراهيم كامل، استقال وكتب:
‏“ما رأيته لم يكن سلامًا… بل استسلامٌ صامت يُمرّر باسم المصلحة.”
‏ولم يكن ما جرى خطأً في الصياغة… بل قرارًا استراتيجيًا.
‏غزة لم تُسقطها إسرائيل من المعاهدة… بل خرجت منها بتوافقٍ صامتٍ بين القاهرة وواشنطن. فقد كانت إسرائيل تفضل تركها ضمن إطار ‘الحكم الذاتي’ لا السيادة، فيما لم تُصِرّ مصر على إدراجها، رغم أنها كانت تحت إدارتها العسكرية النباشرة قبل هزيمة 1967.
‏أما الولايات المتحدة، فقد ضغطت لتثبيت اتفاق سلام ثنائي بأي ثمن، حتى لو كان الثمن هو فلسطين كلها.
‏وكارتر، الذي بدأ عهده متحدثًا عن حقوق الفلسطينيين، انتهى إلى دعم صيغة “الحكم الذاتي الإداري”، مؤكدًا لاحقًا – في كتاباته – أن ما طُرح في كامب ديفيد لم يكن دولة، ولا وعدًا بها.
‏والسادات قبِل… مقابل سيناء, بسيادة مشروطة.   
‏في تلك اللحظة، لم تكن غزة تخرج فقط من المعاهدة… بل من خريطة السيادة.
‏وغزة لم تنتقل بعدها إلى أحد… بل سقطت في فراغ:
‏احتلال لا يعترف بها.
‏سلطة لم تستلمها.
‏دولة تدّعي الحياد.
‏تأرجحت غزة بين ثلاثة لاءات: لا إدارة، لا سيادة، لا وصاية.
‏تلك لم تكن خسارة مدينة… بل طردًا من التاريخ.
‏ولم تكن مصر الدولة الوحيدة التي أدارت أرضًا دون سيادة.
‏بريطانيا حكمت هونغ كونغ 156 عامًا ثم أعادتها باتفاق مشروط.
‏إسبانيا تخلّت عن الصحراء الغربية في صفقة مشينة، لكنها على الأقل سلّمتها معلنًا.
‏أميركا غادرت قناة بنما بعد اتفاق مدته 20 عامًا.
‏حتى الأردن، فكّ ارتباطه بالضفة عبر بيان رسمي.
‏أما مصر… فتخلّت عن غزة دون بيان، دون تعهّد، دون حتى جملة في الصفحة الأخيرة.
‏ثم جاء العقد التالي، وكأنّ شيئًا لم يكن.
‏مصر لم تقطع علاقاتها، حتى لم تسحب سفيرها من تل أبيب أبدًا، لا في 2008، ولا في 2014، ولا في 2023 وحتى اللحظة.
‏وفي ذروة المجازر، ظلّت سفارتها مفتوحة.
‏أما الغاز، فكان يتدفق من عسقلان إلى إدكو… بلا مقاومة.
‏رفح تُغلق باسم السيادة، وخط الأنابيب يُفتح باسم الشراكة.
‏المعبر يُنسّق لمرور الشاحنات… للأسمنت، لا للدواء.
‏ولمن لا يعلم:
‏ربع ما استخدمته إسرائيل من إسمنت في إعادة بناء المستوطنات، جاء من مصر.
‏وحدها مصر سجّلت أرقامًا قياسية في تصدير الأسمنت أثناء الحرب.
‏تغضب مصر في الإعلام… وتتاجر في الميدان.
‏وفي الطرف الآخر، حين جاء “طوفان الأقصى”، تصدّرت حماس المسرح.
‏رفعت شعار المقاومة، ثم طلبت هدنة.
‏قالت إن طهران في ظهرها… ثم بكت لأن المرشد أنكرها.
‏وفي الداخل، خرج الغزيون يهتفون ضد الاحتلال… ثم ضد حماس.
‏قادة القسام في الأنفاق… وأهالي رفح تحت الركام
‏ولم تكن حماس نتيجة معجزة… بل نتيجة فراغ.
‏ولولا أن مصر تخلّت، لما نشأت سلطةٌ على هيئة أداة.
‏سلطة تتكلم باسم الإسلام… وتُقاتل بأمر المرشد.
‏لكن الحقيقة الأشد مرارة؟
‏أن من أخرج غزة من السيادة… لم يكن الاحتلال، ولا حماس.
‏بل من كان يملك أن يقول: “هذه مسؤوليتنا”… ثم قرر أن يصمت.
‏الصين استعادت هونغ كونغ.
‏بريطانيا فاوضت على جبل طارق.
‏أميركا سلّمت قناة بنما.
‏أما مصر، فباعت غزة… ثم طلبت أن تتوسط.
وغزة اليوم ليست قضية إنسانية فقط، بل قضية سيادة مسلوبة،
‏من دولةٍ قالت: “ليست لي”، ثم قالت بعدها: “أنا وسيط.”
‏ربما لم تعد رفح معبرًا مغلقًا… بل استعارة لحالة فشل كاملة:
‏الكل أغلق بابه، الكل تذرّع بالظرف… والكل ينتظر من يفتح القبر.
‏لكن الحجر الأول؟
‏لا يحقّ أن يرميه إلا من لم يبع غزة يومًا.
‏و ⁧‫#فتح_المعبر‬⁩ – بعد كل هذا – لم يعد منّة، بل استحقاقٌ تاريخي وأخلاقي على مصر.
‏لعلّها تُكفّر عن شيء من الخطيئة… بدل أن تُراكم فوقها جبلاً من الخذلان.

6 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤