حين شرّح فوكو جسد السلطة الحديثة، كان يتتبع أوردتها في السجون والمستشفيات والمدارس. لكنّه لم يتخيّل أنّ قلبها سينتقل يوماً إلى جهاز بحجم الكفّ، يحمله المليارات طوعاً كل صباح، ويمنحونه مفاتيح أبواب وعيهم الداخليّة.
لو عاد فوكو إلى عالمنا اليوم، لاكتشف أنّ السلطة التي توقّع تشتّتها في شبكة علاقات لامركزيّة قد تركّزت، على نحو غير مسبوق، في أيدي حفنة من شركات التقنية الأمريكيّة العملاقة. هذه الشركات التي تتحكّم، ليس فقط بما نقرأ ونشاهد، بل بما أصبح ممكناً التفكير فيه والتعبير عنه – أي بما يسمّيه فوكو "الخطاب" نفسه – تعمل تحت عباءة الإدارة الأمريكيّة وأجهزتها الاستخباراتيّة.
ذاك أنّ الهيمنة الرقميّة باتت الوجه الأكثر فاعليّة للاستعمار الأمريكيّ، حيث أصبحت غوغل وميتا وأمازون ومايكروسوفت … أدوات نفوذ أشدّ تأثيراً من الأساطيل العسكريّة. فالخوارزميّات التي تدير معظم حياتنا الرقميّة تُصمّم في وادي السيليكون وتل أبيب وفق رؤى ومصالح غربيّة خالصة، وكما كشفت وثائق إدوارد سنودن وويكيليكس، فإنّها غالباً ما تكون خاضعة لشروط وكالة الأمن القوميّ الأمريكيّة (NSA) والبنتاغون وأجهزة المخابرات الإسرائيليّة.
والحال أنّ ما نشهده اليوم ليس مجرّد مراقبة، بل استعمار للوعي يتغلغل في الفجوات الصغيرة للذات. فالذكاء الاصطناعيّ لا يكتفي بالوقوف وراء النافذة، بل يعيد تأثيث غرف العقل نفسه، ويُصمّم ديكور الرغبات، ويرسم لوحة الاختيارات التي نظنّها حرّة. إنّه تجسيد كامل لما أسماه فوكو "البيوسلطة"، لكنّه تجاوزها إلى ما يمكن تسميته "سلطة الخوارزميّات" التي لا تكتفي بضبط الجسد، بل تبرمج النفس ذاتها.
وقد نجحت شوشانا زوبوف في كتابها المؤثّر "عصر رأسماليّة المراقبة" (2019) في تفكيك هذا النظام الجديد، موضّحة كيف أنّ هذه الشركات "لم تعد تبيع خدمات، بل تتاجر بتنبّؤات عن سلوك البشر". إنّها تنشئ ما أسمته "الأسواق السلوكيّة"، حيث تُستخرج بيانات الشعوب كما تُستخرج المعادن النفيسة من المناجم، ثمّ تُعاد تدويرها لفرض نماذج استهلاكيّة وسلوكيّة تحقّق أرباحاً هائلة وتكرّس الهيمنة في الوقت ذاته.
شركات وادي السيليكون تشبه ذلك المعالج النفسي الذي يقنعك بالتحدث عن أعمق أسرارك، ثم يبيع تسجيلات جلساتك للمعلنين، ويرسل نسخاً منها للأجهزة الاستخباراتية، مع ابتسامة عريضة ونصائح للعيش بسعادة! إنّها تمارس دوراً مزدوجاً بارعاً: من ناحية، تقدّم نفسها للعالم بوصفها حاملة لواء الحرّيّة والديمقراطيّة، ومن ناحية أخرى، تعمل كذراع طويلة للأجندة الأمريكيّة والإسرائيليّة في المنطقة العربيّة. وهنا يصحّ استذكار كلمات جوليان أسانج الشهيرة: "فيسبوك أخطر أداة تجسّس اخترعها الإنسان"، وذلك لأنّ المستخدمين أنفسهم هم من يزوّدونه بمعلوماتهم طواعيةً ويمنحونه السلطة عليهم برضاهم.
ولا يخفى على المتابع الدور المتعاظم لإسرائيل في هذه المنظومة العالميّة، فمن برمجيّات التجسّس كـ"بيغاسوس" التي تنتجها شركة NSO الإسرائيليّة وتبيعها للأنظمة القمعيّة حول العالم، إلى الدور المركزيّ للخبراء الإسرائيليّين في تطوير تقنيات المراقبة والتحليل السلوكيّ، نجد أنّ تل أبيب باتت شريكاً رئيساً في المشروع الاستعماريّ الرقميّ، مستثمرة خبرتها الطويلة في مراقبة الفلسطينيّين وتحليل بياناتهم.
وفي المقابل، تسعى الصين إلى تطوير نظام رقميّ بديل عبر شركات كعملاق التكنولوجيا "هواوي" أو منصّات كـ"تيك توك" و"وي تشات". لكنّ هذا النموذج يواجه حرباً شرسة من الإدارة الأمريكيّة التي توظّف الحجج الأمنيّة لإقصاء المنافسين الصينيّين وضمان استمرار احتكارها للفضاء الرقميّ العالميّ. وحرب أمريكا ضد التكنولوجيا الصينية ليست سوى مشهد من مسرحية قديمة: المستعمِر الذي يخشى أن تُستخدم أدواته ضدّه، فيصرخ "لصّ!" بينما يده لا تزال في جيب ضحيته.
وكما يشير بنجامين براتون في كتابه "الطبقة: عن البرمجيّات والسيادة" (2016)، فإنّ البنية الرقميّة المعاصرة (الذكاء الاصطناعيّ، البيانات، المنصّات) تشكّل الآن طبقة سياديّة جديدة تتجاوز الدولة الوطنيّة، ممّا يعني أنّنا لسنا أمام تطوّر تقنيّ فحسب، بل أمام إعادة تشكيل لمفهوم السيادة نفسه.
ولم تعد مسألة الاستعمار الرقميّ محض تنظير، فقد كشفت دراسات معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) ومركز راند (RAND) للأبحاث كيف يُستخدم الذكاء الاصطناعيّ كأداة جيوسياسيّة في التأثير على الرأي العام وتوجيه الانتخابات والتجسّس الاقتصاديّ. وليس من المبالغة اعتبار هذه المنصّات أدوات استخباراتيّة متقدّمة تستغلّ البيانات الشخصيّة للتحكّم في تدفّق المعلومات داخل المجتمعات المستهدفة.
وقد شهدنا بأنفسنا كيف تمّ استخدام المنصّات الرقميّة كأدوات لزعزعة استقرار الدول العربيّة خلال ما سُمّي بـ"الربيع العربيّ". فقد كشفت الوثائق المسرّبة أنّ وزارة الخارجيّة الأمريكيّة درّبت ما أسمتهم "ناشطين" على استخدام وسائل التواصل الاجتماعيّ لتنظيم الاحتجاجات، في إطار استراتيجيّتها لتغيير الأنظمة التي لا تتماشى مع مصالحها.
أمّا التهديد الأكبر اليوم فيتمثّل في تقنيات الذكاء الاصطناعيّ المتقدّمة، التي يتمّ تطويرها بشكل شبه حصريّ في مختبرات أمريكيّة (وبدرجة أقلّ صينيّة). هذه التقنية التي ستشكّل مستقبل البشريّة تُبرمج وفق القيم والمصالح الغربيّة، ممّا يعني تكريس الهيمنة الثقافيّة والمعرفيّة الأمريكيّة لعقود قادمة.
وما يزيد من خطورة الوضع هو الارتباط العضويّ بين شركات التكنولوجيا الأمريكيّة وأجهزة الأمن القوميّ. فجوجل وأمازون ومايكروسوفت وباليندير… تقدّم خدمات الحوسبة السحابيّة والذكاء الاصطناعيّ للبنتاغون ووكالة المخابرات المركزيّة في عقود بمليارات الدولارات، ممّا يكشف أنّ الحدود بين السلطة الخاصّة والسلطة العامّة قد تلاشت في هذا المجال.
والأخطر من ذلك كلّه هو ما يمكن تسميته، مستعيرين من بيير بورديو، بـ"الهيمنة الرمزيّة" التي تمارسها هذه المنظومة. لقد تسلّلت السلطة الرقمية إلى المعاجم نفسها، فأصبحت "الخصوصية" تعني "الموافقة على الشروط والأحكام دون قراءتها"، و"حرية التعبير" تعني "الحق في الصراخ داخل غرفة عازلة للصوت"، و"المجتمع" يعني "قطيع من المستخدمين المرقّمين في انتظار الحلب الرقمي التالي". إنّنا نواجه نظاماً استعماريّاً يحاول السيطرة على وعينا الجمعيّ بأكمله، عبر فرض منظومة معرفيّة ولغويّة وقيميّة محدّدة.
في هذا السياق، تبرز ضرورة تطوير بدائل وطنيّة وإقليميّة للتقنيات الغربيّة. وقد نجحت روسيا، رغم العقوبات، في بناء منظومة رقميّة مستقلّة نسبيّاً عبر يانديكس وVK، كما استطاعت الصين توفير بدائل كاملة لخدمات غوغل وفيسبوك وتويتر. هذه النماذج، رغم محدوديّتها وإشكاليّاتها، تثبت إمكانيّة مقاومة الاحتكار الرقميّ الأمريكيّ.
بيد أنّ العالم العربيّ يواجه تحدّياً مضاعفاً: فمن جهة، يتعرّض للهيمنة الرقميّة الأمريكيّة، ومن جهة أخرى، تفتقر معظم دوله للقدرات التقنيّة والبشريّة اللازمة لبناء بدائل فعّالة. عالمنا العربي اليوم يشبه تلك القبيلة التي تلتقط صور سيلفي مع سفن الغزاة، غافلة عن أنها ستغادر الشاطئ محمّلة بأثمن ما تملك: بياناتها وهويتها وقدرتها على صياغة مستقبلها بيديها.
ولذلك، فإنّ خارطة طريق للمقاومة الرقميّة العربيّة تستدعي خمسة محاور أساسيّة:
أوّلاً، تطوير سياسات وطنيّة لحوكمة البيانات وحمايتها من الاستغلال الأجنبيّ، عبر تشريعات متقدّمة للخصوصيّة وإنشاء بنى تحتيّة وطنيّة لتخزين البيانات ومعالجتها.
ثانياً، تأسيس مراكز بحثيّة عربيّة للذكاء الاصطناعيّ، تتعاون فيها الدول العربيّة وتدعمها بموارد مستدامة، وتركّز على تطوير حلول تتوافق مع خصوصيّاتنا الثقافيّة واللغويّة.
ثالثاً، بناء تحالفات استراتيجيّة مع القوى التكنولوجيّة الصاعدة في الشرق، خاصّة الصين وروسيا والهند، تقوم على تبادل الخبرات والتقنيات، بما يخلق توازناً في مواجهة الهيمنة الغربيّة.
رابعاً، تطوير سياسات تعليميّة تركّز على المهارات الرقميّة المتقدّمة وثقافة الأمن الرقميّ، وتمكين الشباب العربيّ ليكون منتجاً للتكنولوجيا وليس مجرّد مستهلك لها.
خامساً، تأسيس مرصد رقميّ عربيّ مستقلّ يتولّى تحليل الخطاب الرقميّ العالميّ، ورصد الاختراقات السيبرانيّة، وبناء إطار قانونيّ عربيّ موحّد لحقوق البيانات والخصوصيّة، يحاكي بجرأة النموذج الأوروبيّ (GDPR) ويتجاوزه في مواضع عديدة.
إنّ الاستعمار الرقميّ، كأيّ استعمار سابق، لا يمكن مواجهته إلاّ بإرادة التحرّر والاستقلال. والخطوة الأولى في هذا الطريق هي الوعي بأنّ ما نستخدمه من منصّات وتطبيقات ليس مجرّد أدوات محايدة، بل يحمل في طيّاته مشروع هيمنة شامل. وإذا استعرنا مقولة فوكو الشهيرة عن أنّ "المعرفة سلطة"، فعلينا أن ندرك أنّ السيطرة على البنية التحتيّة للمعرفة في العصر الرقميّ هي أقصى درجات السلطة التي يمكن ممارستها في عالم اليوم.
المعركة الدائرة اليوم ليست بين تقنيات متنافسة، بل بين نموذجين للوجود: أحدهما يراك مستهلكاً وموضوعاً للدراسة والتلاعب، والآخر يراك ذاتاً حرّة تستحق أن ترسم حدود عالمها الرقمي بنفسها. وبين النموذجين يقف العربي اليوم - بهاتفه الأمريكي وتطبيقاته الصينية وبياناته المستباحة - ينتظر فجر السيادة الرقمية التي قد لا تأتي ما لم نغيّر، نحن أولاً، طريقة تفكيرنا في السلطة والمعرفة والهوية.