حين تصبح صفقة الـ35 مليار مع إسرائيل "ضرورة" ومسرحية في الرياض "خيانة"
خمسة وثلاثون مليار دولار ثمن الكرامة المصرية المُباعة بالتقسيط. رقم دقيق، محسوب بعناية إسرائيلية، يكفي لشراء صمت "قلب العروبة النابض" حتى عام 2040. ففي السابع من أغسطس (يوم أمس)، أعلنت رويترز عن توقيع مصر وإسرائيل اتفاقية لتوريد 130 مليار متر مكعب من الغاز الصهيوني. وبينما يطبخ المصريون فولهم "الوطني" على لهب عدوهم، تنطلق صرخاتهم المُجلجلة ضد حفلة غنائية في الرياض. ثمّة في هذا المشهد ما يتجاوز السخرية إلى تراجيديا، لكنّ أصحابها يصرّون على تمثيل دور الكوميديّين.
والحال أنّ هذا الغاز الإسرائيلي سيدخل كل بيت مصري، من قصور الزمالك إلى عشوائيات إمبابة؛ سيطبخ به المصريون فولهم "المقاوم"، وستُخبز به أرغفة عيشهم، وسيضيء شوارع القاهرة التي تردد "تحيا مصر". مفارقة تستحقّ تصفيقاً حاراً: يطبخون بغاز العدو ويهتفون ضده، يستوردون الطاقة من إسرائيل ويصدّرون الشتائم للسعودية. منطق يليق بمسرحية عبثية، لكن ممثليه يأخذون أدوارهم بجدية مطلقة.
بيد أن فئات من الشعب المصري طوّرت آلية دفاع نفسية عبقرية: الغاز الإسرائيلي "ضرورة اقتصادية"، والحفل السعودي "خيانة استراتيجية". هكذا ينام المواطن هناك قرير العين، مطمئناً أنه "مقاوم" طالما لم يحضر حفلة لمحمد عبده في موسم الرياض. منطق ساحر: يقاومون بأفواه مواقدهم الإسرائيلية، ويخونون بآذانهم إذا استمعوا لأغنية خليجية!
أغلب الظن أن الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية - تلك الآلة البروباغندية العتيقة - لن تتطرق لهذه الحقيقة المُرّة. فهي مشغولة بحملاتها الموسمية ضدّ أيّ نجاح سعودي. ستنطلق جيوشها الإلكترونية، وستمتلئ شاشاتها بالعويل المعتاد: "إلهاء عن القضية"، "رقص على جثث الشهداء"، "تطبيع ثقافي". كلّ هذا بينما مذيعوها يتدفّؤون بالغاز الإسرائيلي ويضيئون استوديوهاتهم بكهرباء قادمة من تل أبيب.
وأين "مثقفو" الشركة المتحدة الأشاوس؟ منهمكون في صياغة المقالات النارية ضدّ "التطبيع المزعوم" السعودي، بينما يكتبونها على ضوء كهرباء إسرائيلية. لعل الغاز الصهيوني يُلهب قرائحهم الوطنية! يجلسون في مقاهي القاهرة المكيّفة بغاز العدو، يحتسون قهوتهم المغلية على نار إسرائيلية، ويتفنّنون في شتم الرياض. عجيب أمر هؤلاء: يأكلون بفم المقاومة ويلعنون بلسان الممانعة!
ذاك أن التناقض وصل مرحلة الكوميديا السوداء. فالإخوة في وادي النيل يستوردون الطاقة من "العدو الصهيوني" ويعتبرونها "ضرورة وطنية"، بينما حفلة غنائية في الرياض تصبح "خيانة عظمى". المنطق المصري المقلوب يقول: الغاز الإسرائيلي مقبول ومبرر، لكنّ حفلة لمحمد عبده في بوليفارد رياض سيتي خيانة لا تُغتفر!
وإذ نتأمل هذا المشهد السريالي، تلوح حقيقة مُرة: النخب المصرية التي تملك مولّدات كهربائية خاصة هي من تقود حملات التشهير بالسعودية. فيما الفقراء الذين ينتظرون الغاز ليطبخوا عشاءهم لا يملكون ترف الغضب الانتقائي. الازدواجية، كالكهرباء، حكر على من يستطيع دفع فاتورته.
يلوح سؤال مشروع: ماذا لو كانت السعودية هي من وقّعت عقد الغاز؟ كم هاشتاغ كان سينطلق؟ كم مذيع كان سيصرخ حتى تنفجر أوداجه؟ كم "مفكر" كان سيكتب عن "نهاية العروبة"؟ الجواب واضح. لكنّ القاهرة تفعلها فتصبح "ضرورة اقتصادية"، والرياض تنظّم حفلة فتصير "خنجراً في خاصرة الأمة"!
راهناً، أغلب الظنّ أنّ الشركة المتحدة ستجد تبريراً عبقرياً لهذه الازدواجية. ربما نشاهد برنامجاً عن "الخطة المصرية الماكرة لاستنزاف الغاز الصهيوني"، أو تقريراً عن "كيف نحوّل الغاز الإسرائيلي إلى فخّ استراتيجي ضدّ مصدره". وقد نسمع عن "تقنية سرّية" تحوّل الغاز المستورد إلى "طاقة مقاومة". الخيال الإعلامي لا حدود له عند تبرير المواقف المخزية.
لئن كان هناك درس نتعلّمه من هذه المهزلة، فهو أنّ الشعارات الكبيرة تخفي المصالح الصغيرة. "المقاومة" و"الممانعة" كلمات جميلة على المنابر، لكنّها تتبخّر عند أوّل فاتورة غاز. والذين يتاجرون بدماء الفلسطينيّين في خطاباتهم هم أنفسهم من يوقعون الصفقات المليارية مع قاتليهم. والأنكى أنهم يفعلون ذلك بوقاحة منقطعة النظير، ثمّ يهاجمون من يحاول بناء اقتصاد حقيقي بعيداً عن تجارة الشعارات.
على أنّ الأمر الأكثر إثارة للسخرية هو موقف "المقاومين الاستراتيجيّين" الذين يبرّرون هذه الصفقة بحجج واهية. يقولون إنّها "مناورة تكتيكية" أو "ضرورة مرحلية"، وكأنّ عقداً لعشرين عاماً مناورة عابرة! إنّما هي تجارة صريحة: نبيعكم كرامتنا بالتقسيط، وندفع بالدولار، ونصرخ في وجه الرياض لنُسكت ضمائرنا الميتة.
والحال أن هذا المشهد يذكرنا برجل يطبخ طعامه بنار عدوه ثمّ يشتم أخاه لأنه يسمع الموسيقى! هكذا الحال في مصر: استيراد الطاقة من إسرائيل وتصدير الشتائم للسعودية. والأطرف أنّ بعض المصريين يصدقون هذا المنطق ويعتبرونه "استراتيجية مقاومة متطوّرة"!
وفي المشهد الأخير، بينما يحترق آخر عود كبريت في القاهرة لانقطاع الغاز، سيصرخ المذيع الأخير في الشركة المتحدة - بصوت يختنق من الدخان - محذراً من "التطبيع الترفيهي" في الرياض. وسيموت مختنقاً بغازه الوطني جداً... الإسرائيلي المنشأ.
فمن العدوّ حقاً؟
ثمّة في هذا كله درس قاس: النخب التي تُطعم من يد وتعض الأخرى تستحق إذلالها المُضاعف. والقادة الذين يوقعون الصفقات مع إسرائيل ويهاجمون الرياض لا يستحقون احتراماً. هكذا تعيش مصر زمن اللامعقول، حيث تصبح إسرائيل شريكاً اقتصادياً والسعودية عدواً ثقافياً. زمن مُذهل يصبح فيه "العدوّ الصهيوني" شريك إفطار في كل بيت مصري، و"الأشقاء السعوديون" أعداء لكل أذن مصرية. فليضحك الشيطان فخرًا بأعوانه في "الشركة المتحدة"... فحتى هو لم يبلغ هذا المستوى من الإبداع في الشر.