27 أكتوبر 2024

كيف يأكل الغرب نفسه؟ قراءة في تشريح تود لانحدار القيم والتماسك الاجتماعي الغربي

استوقفتني تغريدة للدكتور أحمد الفراج يعرض فيها كتاباً كنت قد قرأته حين صدوره. ذاك أن إيمانويل تود، المفكر والديموغرافي الفرنسي الذي سبق له التنبؤ بسقوط الاتحاد السوفييتي قبل 15 عاماً من وقوعه، يقدم في كتابه "هزيمة الغرب" تشريحاً لما يراه انتحاراً حضارياً غربياً.

والحال أن ما يقدمه تود ليس مجرد توقع لنهاية الهيمنة الغربية، بل تحليل عميق لعملية تفكك ذاتي تؤكدها الأرقام: تراجع معدلات المواليد إلى ما دون مستوى استمرار المجتمع (2.1 طفل لكل امرأة)، وارتفاع نسب المسنين، وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي إلى ما دون 1.5% سنوياً، وتضخم الديون لتتجاوز 130% من الناتج المحلي الإجمالي.

بيد أن جوهر هذا الانهيار يكمن في تحول ثقافي عميق بدأ منذ الستينيات. يرصد تود تآكلاً تدريجياً للقيم البروتستانتية التي شكلت أساس النهضة الغربية. وفي تحليله، لم يكن هذا التحول مجرد تغير ثقافي عابر، بل انقلاباً في أسس المجتمع الغربي. فحين بدأت قيم الانضباط والعمل الجاد والالتزام الاجتماعي بالتراجع لصالح نزعة فردية متطرفة، تحولت المؤسسات الغربية من منظومة متماسكة إلى ما يسميه تود "ديناً بلا إيمان".

ذاك أن هذا الانهيار الروحي، يتجلى بأوضح صوره في الهوس المتزايد بقضايا النوع الاجتماعي والهوية. فما بدأ كمطالب حقوقية تحول تدريجياً إلى أيديولوجيا تقوض أسس المجتمع نفسه. فانتشار ثقافة التحول الجندري والمثلية، في رؤية تود، لا يعكس مجرد تغيراً في القيم، بل يمثل "نكراناً للواقع" البيولوجي والاجتماعي. هذا النكران يعبر عن عدمية ثقافية عميقة تتجاوز مسألة الحقوق إلى تفكيك منهجي للهوية المجتمعية.

ولعل النخب الغربية، في تشريح تود، تتحمل المسؤولية الكبرى عن هذا الانحدار. فخلال العقود الماضية، تحولت هذه النخب من قيادة التطور إلى رعاية التفكك، مستبدلة الإنتاج الحقيقي بالمضاربات المالية، والتماسك الاجتماعي بالفردية المتطرفة. بل إن هذه النخب عملت على تقويض المؤسسات الديمقراطية نفسها، مستخدمة سيطرتها على المؤسسات المالية والإعلامية لفرض أجندتها على المجتمع.

أما العولمة، في رؤية تود، فقد مثلت الضربة القاضية. فبدلاً من أن تكون أداة لتعزيز الهيمنة الغربية، تحولت إلى آلية لتفكيك المجتمعات الغربية من الداخل. تراجعت حصة الغرب من الإنتاج العالمي من 50% في عام 2000 إلى أقل من 37% اليوم، وتحول 70% من أرباحه إلى القطاع المالي. الأخطر من ذلك تآكل القدرة على الابتكار والتجديد، مع تفوق صيني متزايد في براءات الاختراع وتطبيقات الذكاء الاصطناعي.

ولعل تجربة العقوبات على روسيا تقدم المثال الأوضح على هذا العجز الغربي. فالحملة التي كان يُفترض أن تقصم ظهر الاقتصاد الروسي تحولت إلى درس في حدود القوة الغربية. بدلاً من الانهيار المتوقع، استطاعت موسكو تطوير بدائل صناعية محلية، وتعزيز تحالفاتها مع الصين والهند، وبناء شبكة علاقات اقتصادية جديدة مع دول الجنوب العالمي.

بل إن روسيا نجحت في تحويل العقوبات إلى فرصة لإعادة هيكلة اقتصادها. فبينما غرقت أوروبا في أزمة طاقة كشفت هشاشة نموذجها الاقتصادي، حقق الاقتصاد الروسي نمواً بنسبة 3.6% في 2023، مع تطور لافت في قطاعات التكنولوجيا والزراعة والصناعات العسكرية.

في المقابل، تقف الصين نموذجاً مضاداً للانحلال الغربي. فبينما يغرق الغرب في المضاربات المالية وأزمات الهوية، تنتج الصين اليوم 31% من القيمة المضافة الصناعية العالمية، مقارنة بـ 16.5% للولايات المتحدة و5.3% لألمانيا. الأهم من ذلك أن الصين نجحت في تحقيق هذا التقدم مع الحفاظ على تماسكها الاجتماعي وقيمها التقليدية.

وأقول: في خضم هذه التحولات، تبرز المملكة العربية السعودية كنموذج يستحق التأمل. ذاك أن رؤية 2030 ليست مجرد خطة اقتصادية، بل محاولة واعية لتجنب المطب الذي سقط فيه الغرب: "التحديث المنفصل عن الجذور". فالمشاريع العملاقة كنيوم والدرعية والبخر الأحمر والقدية تجسد فلسفة تنموية تجمع بين التقدم المادي والحفاظ على الهوية.

يختم تود كتابه برؤية تفصيلية للنظام العالمي القادم: عالم متعدد الأقطاب تتراجع فيه الهيمنة الغربية لصالح توازن جديد. في هذا العالم، كما يرى، ستلعب تحالفات الشرق والجنوب دوراً متزايد الأهمية، مع احتمالات لتقارب روسي-ألماني، وتعاون بين دول الجنوب، وصعود قوى إقليمية جديدة كالسعودية والهند.

والحال أن الدرس الأعمق من كتاب تود هو أن القوة الحقيقية لا تكمن في التخلي عن الهوية لصالح نموذج غربي متآكل، بل في القدرة على التطور مع الحفاظ على الجوهر الثقافي والاجتماعي. وهو درس يبدو أن دولاً كالسعودية والصين قد استوعبته جيداً، فيما يواصل الغرب انزلاقه نحو "الهزيمة الذاتية"، في مشهد يذكرنا بإمبراطوريات قديمة انتحرت بيدها.

5 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤