ثمّة في الحملة المصرية الهستيرية ضد السعودية والخليج خلال حرب الـ12 يوماً ما يكشف عُري وعي عربي مشوّه؛ وعي يرى في من أنقذه عدواً، وفي من دمّره حليفاً. والحال أنّ ما شهدناه من تغريدات ومقاطع حاقدة مصرية لم يكن مجرد "ذباب إلكتروني" كما يحلو للبعض أن يبرّر، بل كان تعبيراً صادقاً عن مرض نفسي جماعي اسمه: عقدة النقص المُتنكّرة في ثوب الكبرياء الزائف.
فبينما كانت الصواريخ الامريكية تتساقط على مفاعلات إيران النووية ثم انتهت بوقف إطلاق نار أمريكي؛ انشغل قطاع عريض من المصريين بما هو أهم: الشماتة في قطر! "الخليج بلا حماية لولا مصر"، زعم أحدهم. و"سترونهم لاجئين عندنا حفاة كما كانوا"، غرّد آخر. و"نترقّب قصف آبار النفط، فالحرب لن تنتهي حتى يعود الخليج إلى حجمه الطبيعي"، كتب ثالث. "عقبال الكويت والرياض وابوظبي ومسقط"، كتب رابع. وكأنّ "الحجم الطبيعي" للخليج في مخيّلتهم المريضة هو العوز والتسوّل، لا التنمية والازدهار.
بيد أنّ الأمر الأكثر فضائحية هو هذا الانقلاب في بوصلة العداء. حين تقصف طهران تل أبيب، يصفّقون. وحين تقصف الدوحة، يضحكون ويدعون بخشوع أن يتكرر ذلك على باقي عواصم الخليج. حين تُضرب منشآت نووية إيرانية تهدّد كل عربي، يغضبون... لا حبّاً بفلسطين، بل حقداً على الخليج. كأنّ إيران التي ذبحت نصف مليون سوري، وشرّدت ملايين اليمنيين، ودمّرت لبنان والعراق، صارت البطل المُحتفى به! فيما السعودية ودول الخليج لم ترسل مليشيا واحدة لتدمير عاصمة عربية، ولا موّلت حزباً لاغتيال رئيس حكومة، أصبحنا العدو المستحق للدمار! هذه ليست غلطة وعي، بل وعي مقلوب تماماً.
والحال أنّ هذا المشهد ليس جديداً في التاريخ. ألم يصفّق المصريون أنفسهم للعثمانيين ضد المماليك، ثم اكتشفوا أنّهم استبدلوا طغياناً محلياً بآخر أجنبي؟ ألم يحتفل الفرنسيون بالأمريكيين محرّرين في 1944، ليعودوا ويشتموهم "إمبرياليين" في الستينات؟ التاريخ يعلّمنا أنّ الشعوب المأزومة تبحث دائماً عن أبطال وهميين في الخارج، بدلاً من مواجهة فشلها في الداخل. وهكذا، يصبح العدو البعيد صديقاً محتملاً، والصديق القريب عدواً مؤكداً.
ذاك أنّ هذا الخطاب المأزوم يستند إلى أكاذيب تأسيسية بات تكرارها بمثابة عقيدة مقدّسة. أولها خرافة "نحن علّمناكم وبنيناكم". والحقيقة؟ حين يتفاخرون بأنّهم من بنونا، فليعيدوا قراءة دفتر الحضور في ورشات الخليج الأولى. الكوري الجنوبي -عمالة ماهرة- كان هناك، قبلهم. أكثر كفاءة، وأقل تكلفة. لكنّه لم يدّعِ يوماً أنّه بنى الخليج. لم يحوّل فأسه إلى منّة، ولا تعبه إلى امتياز. نحن من اخترنا المصريين في السبعينات، لا لأنّهم الأفضل، أبدًا أبدًا، بل لأسباب سياسية وأخوية ودينية، رغم تصنيفهم ب "العمالة غير الماهرة". أردنا أن نرفع من سقط، لا أن نختار من يربح. البناء كان قراراً سيادياً... لا استعباداً للخليج.
والحال أنّ الخليج لم يكن مشروع مقاولات مصري، بل كان مشروعاً سيادياً هندسياً دولياً. بأموالنا: أمريكي صمّم، كوري نفّذ، باكستاني عمل، هندي صبر، لبناني تاجر، ومصري ساهم. جميعهم شاركوا، لكن أحداً لم يدّعِ الأبوّة سوى من لم يكن له من الأمر إلا الريال والدرهم والدينار. الفضل لا يُسرق، ولا يُحتكر... خصوصاً حين تكون الأرض أرضنا، والمال مالنا، والخطة خطتنا، والقرار قرارنا.
والأنكى من هذا كلّه هو نسيانهم المُتعمّد لحقائق موثّقة في أرشيف البنوك المركزية. مَن لا يذكر فضل الخليج على الجنيه، فليقرأ الأرقام: في 1973 حوّلنا المليارات لإنقاذ الجبهة بعد حرب أكتوبر وقطعنا البترول. في 1991 أسقطنا 6.7 مليار دولار من الديون المصرية هدية للمشاركة جيشهم الرمزية. في 2013 ضخّت السعودية والإمارات والكويت أكثر من 20 مليار دولار بعد سقوط الإخوان - نقداً وودائع ونفطاً- وفي 2022-2023، أنقذنا الجنيه من الغرق مجدداً بودائع بـ13 مليار دولار واستثمارات بـ35 مليار، هذا بعض مانعلم وماخفي أعظم. نحن لم نكن حلفاء فقط... كنّا شرايين بقاء. فمن كان سيدفع الفاتورة؟ إيران؟ "محور المقاومة"؟
لعلّ ما يفسّر هذا الحقد المَرَضي هو ما أسمّيه "عقدة المُعلّم المُفلس". تماماً كالمدرّس الذي يرى طلابه السابقين يملكون الشركات والقصور بينما هو لا يزال يشكو من الراتب الهزيل. فبدلاً من مراجعة الذات والبحث عن أسباب التخلّف، يلجأ إلى السخرية والتحقير. لكنّ الأعمق من هذا هو البُنية النفسية للمجتمعات المهزومة: فهي تعيش حالة من "النرجسية الجريحة" التي تجعلها تتأرجح بين وهم العظمة ("نحن علّمناهم") وواقع الهزيمة (التسوّل المستمر). وكلّما اتّسعت الفجوة بين الوهم والواقع، ازداد الحقد عمقاً والعدوانية حدّة.
"كنّا نلبس البدل وأنتم حفاة"، يكررون ذلك. نعم، ربما. لكنّ بدلكم كانت للصور بينما البندقية كانت بيد الإنجليز، والمدارس الإنجليزية بنت لكم المباني ونخبة تتحدث عن الثورة لكنها لم تصنعها. أما نحن، فكنّا نعيش في بيوت طين، نعم، لكننا لم نعرف حاكماً أجنبياً يقرّر لنا ما نُدرّس وما نُعلّم. كنّا فقراء... أحراراً. وأنتم كنتم متحضرين -بمفهومكم-لكن مستعبدين!
وإذ يصرخون "نحن من نحميكم"، تفضحهم الأرقام والوقائع. من لا يستطيع تحريك سرية مشاة في سيناء دون توقيع إسرائيلي - بموجب اتفاقية كامب ديفيد - لا يحمي حتى ظلّه. من لا يملك قرار التعبئة في أراضيه، لا يملك مفاتيح الدفاع عن غيره. ومن يتفاوض مع واشنطن على جدول تسليح خاضع للموافقة والرقابة، لا يصنع استراتيجية لأحد. ولا أريد فتح موضوع معبر رفح! بينما ميزانية الدفاع السعودية وحدها - 75 مليار دولار - تُعادل 17 ضعف نظيرتها المصرية. قطر رفعت إنفاقها العسكري بنسبة 434% خلال عقد. الإمارات تملك مقاتلات F-16 Block 60 الأحدث في العالم، وقيادة سيبرانية متقدّمة، وتخترق التصنيفات العالمية. الكويت تنفق على جنديها الواحد 20 ضعف ما تنفقه مصر. فمَن يحمي من؟ ألم يرو بأم أعينهم كيف حيدت الطائرات الإسرائيلية خردة الطيران الصفوي بساعتين؟ فعلام يزعجونا بخردتهم الجوية الأشد بالسوء والمليئة بالفساد!
والحال أنّ الخليج لم يكن محظوظاً بالنفط فقط، بل ذكياً في إدارة الوفرة. استثمر في التعليم، في البنية، في التقنية، في الاستقرار السياسي. دول نفطية كثيرة بقيت فقيرة - فنزويلا بنفطها الغزير مفلسة، نيجيريا بثرواتها الهائلة تتسوّل، ليبيا غرقت في الفوضى، العراق حديقة إيرانية خلفية محترقة - لكننا عرفنا كيف نحوّل البرميل إلى طموح، والمورد إلى مشروع. لم يكن النفط هو النجاح... بل العقل الذي وظّفه والرؤية التي قادته.
لكنّ الأخطر من كل هذا هو ما كشفته تلك الحملة من أربع سرديات حاقدة متجذّرة في الوعي الجمعي المصري: "الاستعمار المعكوس" (نحن علّمنا الخليج وبنينا دوله)، و"السيف الخشبي" (نحن نحميهم وهم بلا قوة)، و"الشماتة العقابية" (يستحقون الضرب وستُقصف آبارهم وسيعودون لاجئين)، و"الاستعلاء الحضاري" (نحن الفراعنة وهم بدو حفاة). وهذه السرديات ليست وليدة اللحظة، بل هي امتداد لبُنى نفسية عميقة تشكّلت عبر عقود من الهزائم والإحباطات. فالمجتمع الذي يفشل في بناء حاضره، يلجأ إلى تضخيم ماضيه. والذي يعجز عن صناعة مستقبله، يحتقر من ينجح في ذلك.
والحال أنّ ثمّة ما هو أخطر من الحقد العفوي: التوظيف المُمنهج له. فهذه الحملات الرقمية المُنسّقة، التي تنطلق كالعاصفة في توقيتات حرجة، تحمل بصمات الصناعة أكثر منها بصمات الغضب. وإذ يصمت النظام المصري صمتاً مريباً عن هذا السيل من الشتائم الذي يهدّد شراكات بعشرات المليارات، يحقّ لنا أن نتساءل: أليس في هذا الصمت نوع من التواطؤ؟ هل هناك صناعة للتيار العام، أم أنّ تصدير الأزمات الداخلية عبر شيطنة الخليج بات سياسة رسمية غير معلنة؟
ذاك أنّ اللجان الإلكترونية - تلك الأدوات البائسة للأنظمة الفاشلة - وجدت في الخليج كبش فداء مثالياً. فبدلاً من مواجهة الفشل الاقتصادي المُزمن، وبدلاً من الإجابة على أسئلة المواطن المصري عن سبب انهيار عملته وتآكل قوته الشرائية، يُطلق العنان لجيوش الذباب الإلكتروني لتحويل الغضب نحو من أنقذ هذه العملة مراراً! إنّها لعبة قديمة بثوب رقمي جديد: حين تعجز عن حلّ مشاكلك، اخترع عدواً خارجياً.
بيد أنّ هذه اللعبة الخطرة قد تكلّف أكثر بكثير مما يتصوّر أصحابها. فالسعودية الجديدة، والخليج الواثق، لم يعودا يقبلان أن يكونا أكياسًا للأنظمة الفاشلة. والاستثمارات التي أنقذت الجنيه أمس قد تجد طريقها إلى عواصم أخرى غداً. والثقة، تلك العملة النادرة في عالم السياسة، لا تُبنى بالصمت المتواطئ عن حملات التشويه، بل بالمواقف الواضحة والأفعال الحاسمة.
والحال أنّ هذا المنطق الانتحاري يغفل حقائق صارخة: السعودية اليوم ليست مجرد آبار نفط كما يتوهّمون، بل رؤية 2030 التي حوّلت المملكة إلى ورشة عمل عملاقة. نيوم بـ500 مليار دولار، والقدّية، والبحر الأحمر، وسكة الحديد الخليجية، وصندوق الاستثمارات العامة بأصول تقارب الترليون دولار. وبينما هم غارقون في ديون تقارب ٢٠٠% من الناتج المحلي وينتظرون المعونة التالية، يبني الأمير محمد بن سلمان مستقبل المملكة بثقة وطموح يتجاوز عقولهم المحنّطة في أوهام "أم الدنيا". وكذلك اخوانه في دول الخليج.
أغلب الظنّ أنّ هذا الحقد ليس سوى الوجه الآخر للفشل المزمن. فحين تعجز عن بناء دولة حديثة، وحين تفشل في تحقيق أبسط مقومات الكرامة الوطنية، يصبح الحقد على الناجحين ملاذك الأخير. وحين تتحوّل من "أم الدنيا" إلى متسوّل محترف على أبواب صندوق النقد، تصبح الشماتة في من أطعمك رياضتك المفضّلة.
بيد أنّ الدرس الأهم الذي يجب أن نستخلصه من هذه الحملة المسعورة هو أنّ زمن الإحسان غير المشروط قد ولّى إلى غير رجعة؛ فالسعودية ودول الخليج الجديدة لن تكون كالأخ الثري الذي يُستنزف أبد الدهر من قِبل شقيقه المدمن على الفشل والحقد، ذلك الشقيق الذي يشتمه صباحاً ويمدّ يده مساءً، يلعنه علناً ويستجديه سرّاً، يتمنى دماره في تغريداته ومقاطعه ويتوسّل دعمه في اجتماعاته. من يشتمك اليوم ويتمنى أن تصلك صواريخ إيران، لا يستحق أن تنقذ عملته غداً. ومن يرى في نجاحك إهانة تاريخية له، لا يستحق أن تشاركه ثمار هذا النجاح.
ليتذكّر من يشمت اليوم، أنّ التاريخ موثّق. ليست خطابات عاطفية، بل أرقام رسمية في البنوك المركزية وصناديق النقد. من موّل حروبهم. من سدّد ديونهم. من أودع المليارات حين كانت بنوكهم تئنّ. من استقبل -ولازال- عمّالهم بالملايين ويعطيهم الأفضلية على الجنسيات الأخرى رغم تصنيفهم الواضح بعمالة "الفهلوة" و "الغير ماهرة"؛ فمن يريد أن يُنكر الفضل، فليبحث أولاً عن وطن ما زال يملك قراره.
نحن بنينا أوطاننا بعرقنا وعقولنا، ودعمنا أوطانهم بأموالنا وقراراتنا. لم نخجل من بداوتنا، أبدًا، بل هم من يجب أن يخجلوا من حداثتهم المصنوعة في أقبية الاستعمار ومن فشلهم المتواصل في بناء دولة محترمة.
والأمر الأكثر مأساوية؟ أنّهم سيعودون غداً - بعد أن تهدأ نوبة الحقد وتنفد خزائنهم - ليمدّوا أيديهم طلباً للمساعدة. وحين يفعلون، سنتذكّر تغريداتهم الحاقدة، وشماتتهم المقيتة، ورغبتهم المَرَضية في رؤيتنا لاجئين حفاة على أبوابهم. عندها، وعندها فقط، سيدركون أنّ من يبصق في البئر التي يشرب منها، يستحق أن يموت عطشاً.
لقد آن الأوان لنقولها بوضوح كالشمس: الدعم من الآن فصاعداً مشروط بالاحترام، والاحترام ليس مطلباً ترفياً... بل حدّاً أدنى لأي علاقة إنسانية. من أراد أن يبني معنا مستقبلاً مشتركاً، فأهلاً به شريكاً، ولكن لايوجد دعم غير مشروط، بل دعم مدروس ومراقب لكي لا تتكرر قصة الشحاذة التي لا تنتهي. ومن أراد أن يعيش على أمجاد وهمية وحقد دفين، فليجد من يموّل أوهامه في مكان آخر.
فإذا صار الحقد على من يُطعمك فضيلة وطنية... فالجوع هو العقاب العادل والحتمي. والتاريخ، ذاك الحَكَم الذي لا يرحم، سيسجّل: كنّا بدواً بكل فخر وزهو، نعم، وكنّا نملك قرارنا. واليوم، نملك المال، والسيادة، والمستقبل. أما هم... فبين التغريدة والمقاطع الحاقدة والكفّ الممدودة، لم يعودوا يملكون حتى كرامة التناقض.