المؤتمر الصحفي لتوماس براك لم يكن جلسة أسئلة وأجوبة، بل حظيرة فُتح بابها فجأة. الرجل الأميركي يصرخ: “كفى فوضى، أنتم حيوانات!” فيما الصحافيون يتدافعون على الميكروفونات كما تتدافع الدجاجات على حفنة حبوب. مشهد صغير اختصر دولة كاملة: جمهورية بلا قفص، وضوضاء بلا صاحب.
والحال أنّ لبنان أتقن فن الجمع بين العار والتبجح. دولة تضع ربطة عنق وتتحدث بلهجة السفراء، لكن ممارساتها لا تختلف عن عراك ركاب في باص مهترئ ساعة الذروة. بيد أنّ اللبناني يصر على تسمية هذا “توازن رعب”. توازن يشبه كرسياً مكسوراً في مقهى قديم: كل من يجلس عليه يسقط، ثم يضحك كأنه في مسرحية هزلية.
أما الأجمل فهو أن كل فريق يفسر زيارة براك على هواه: فريق يستقبله كأنه المنقذ، فريق يراه استعماراً، وفريق ثالث يتأمل أصوله اللبنانية كما لو أن الجينات ستغيّر السياسة. كلهم يصرخون ضد التدخل الأميركي، ثم يركضون وراء الأميركي طالبين ضمانات. ازدواجية تشبه ممثلاً يلعن المسرح من فوق الخشبة ثم يعود في اليوم التالي ليؤدي الدور ذاته. إنها قافلة تسير في صحراء بلا وجهة، يقودها سائق أعمى ويتبعها جمهور يصفق للغبار.
التاريخ هنا ليس درساً بل نكتة مكررة. الأردن أنهى ازدواجية الفصائل بأيلول الأسود بالنار والحديد، أما لبنان فيمدد الفوضى كما يمدّد سائق الباص المهترئ رحلته ليجمع مزيداً من الركاب. وبات اللبناني يعيش على المولدات الخاصة وسط تيار مركزي لا يتجاوز ثلاث ساعات يومياً، بينما أموال مودعيه المجمدة تتراوح بين 86 و93 مليار دولار. الأرقام هنا طعنات قاتلة. هناك بلا كهرباء، وهناك بلا أفق.
جسد الدولة يتأرجح بين غيبوبة وصحو، كأن الموت نفسه ملّ من الانتظار.
أما صرخة براك “كونوا متحضرين” فبدت كأنها نكتة سيئة في بلد صار “التحضر” فيه مرادفاً لشتم على الهواء. لبنان لا يحتاج لمبعوث أميركي، بل لعامل بلدية يلمّ الحظيرة ويعيد الطيور إلى أقفاصها. والسؤال الأخير يظل معلقاً: بلد لا يضبط قاعة صحافة، كيف يضبط مصيره؟ في الحقيقة، لا يضبط شيئاً. لم يعد دولة تنهار، بل حظيرة مفتوحة؛ دجاجاتها تهرول في كل اتجاه، فيما الثعلب ينتظر عند الباب.