09 مايو 2025

لماذا لا ننسى حبّ الطفولة؟ ‏همسات روح عاشقة لمرفأ الصبا الأول

 في سكون الليل، حين تنام الذكريات على وسائد القلب، تستيقظ طفولة الحب الأول. أتسمعه؟ ذلك الصدى البعيد لضحكة خجلى، لنظرة سُرقت في غفلة من الزمن، لهمسة تسللت بين أصابع الخوف. إنه هناك، في أقصى أركان الروح، يقيم كحارس أمين على براءة لم تعد فينا.
‏كيف لنا أن ننساه وهو يسكننا كنبض خفي، كلحن يتردد في أعماقنا كلما اشتد بنا ظلام الحياة؟ ذلك الحب الطفولي الذي لم يطلب شيئاً سوى أن يكون، ولم يعرف من الدنيا غير ابتسامة ترتعش وقلب يخفق بجنون غامض لم نفهمه.
‏أيتها الأرواح المُرهقة من ثقل السنين، تعالوا نعود إلى تلك البقعة المضيئة في تاريخنا. إلى ذلك الفجر الأول حين استيقظت القلوب على معنى جديد للحياة. حين كنا نحمل أحلامنا كما تحمل الفراشات ألوانها، خفيفة، شفافة، لا تعرف من الحياة سوى رحيق الزهور وضوء الشمس.
‏آه كم كانت أعيننا صافية! نرى العالم كقصيدة ملونة، والحب كنبع لا ينضب، والمستقبل كحديقة ننتظر قطف ثمارها. كنا نكتب الرسائل بحبر من الدموع، ونحفظ الأشعار التي لم نفهمها تماماً، لكننا أحسسنا أنها تشبه ما يعتمل في صدورنا الصغيرة. وكم من مرة لفظنا اسماً في صمت الليل، واحتضنا وسادة بحرارة، كأنها ذلك القلب الذي نهفو إليه.
‏أتذكرين تلك اللحظة؟ حين التقت الأيدي عرضاً في ساحة منزلكم، فسرى تيار من نور بين الأصابع المرتعشة؟ أتذكر كيف كنت تفتح كتاباً قديماً لتجد وردة جافة، أو شريطاً أو منديلاً، فتعود بك الذاكرة إلى عينين كانتا عالمك كله؟
‏في أيام الشتاء، كنت تنظر من النافذة إلى قطرات المطر وهي تنساب على الزجاج، وتتخيل أنها دموع شوقك المكتومة. وفي الصيف، كنت تحلم بلقاء يأتي كالمعجزة، فيغير مسار حياتك. كم من النجوم ناجيناها بأسرارنا! وكم من الأشجار شهدت على دموعنا الصامتة! وكم من الطرقات عرفت خطواتنا المترددة، ونحن ندور أملاً في لقاء عابر، أو ابتسامة خاطفة، أو حتى نظرة تقول: "ما زلت أذكر".
‏الآن، وأنت تقرأ هذه الكلمات، ألا تشعر بذلك النداء الخافت، كأنه يأتي من بئر عميقة في روحك؟ ألا تحس بشيء يتحرك في أعماقك، كأنه بذرة ظننتها ماتت، لكنها استيقظت مع نسمة الحنين؟ ضع يدك على قلبك واستمع. هل تسمع ذلك النبض الخافت؟ إنه طفلك الذي كان يحب بلا حدود، يهمس لك: "ما زلت هنا".
‏نحن لا نحن الشخص الأول الذي أحببناه، بل نحن حاجة قلوبنا للبقاء على قيد الإيمان بالحب. والحب الأول ليس سوى المعبد الذي صلينا فيه أول صلواتنا للعشق. معبد ظلت أبوابه مواربة على حلم لم يكتمل، وعلى طريق لم نسلكه حتى نهايته، وعلى فصل من كتاب أغلقته الأيام قبل أن نقرأ خاتمته.
‏ربما كان في ذلك رحمة. فما لم يكتمل يظل كاملاً في خيالنا. ما لم يُختبر، لم يُجرح. ما لم يُعش حتى النهاية، لم يمت. والحياة بقسوتها علمتنا أن الأشياء حين تكتمل، تنكسر. حين تبلغ ذروتها، تبدأ في الأفول. وحين تصل إلى حدودها النهائية، تفقد سحرها.
‏لكن حب الطفولة يظل مُعلقاً كقوس قزح بين سماء الماضي وأرض الحاضر. يحمل ألوان الفرح والحزن والشوق والأمل والخيبة... كلها ممزوجة بلون واحد: البراءة.
‏في صباحات الحياة المزدحمة، في وسط الضجيج والصخب والهموم، في غمرة الحسابات والمواعيد والالتزامات، ألا تشعر أحياناً بتلك اللحظة الخارجة عن الزمن، حين يأتيك صوت أو رائحة أو موسيقى، فتسافر بك الذاكرة إلى ذلك المكان الأول؟ إلى ذلك الركن الدافئ في روحك حيث يسكن حبك الأول؟
‏هناك مقعد خشبي قديم في حديقة ما، يحمل حرفين محفورين عليه. وهناك دفتر مدرسي أصفر تحت ركام من الكتب، فيه كلمات خجلى كتبتها يد مرتعشة. وهناك صورة باهتة لذكرى الطفولة، وفي زاويتها طفلان ينظران بعيداً عن الكاميرا، إلى أفق لا يراه أحد سواهما. كل هذه الأشياء الصغيرة تشهد على أن قلوبنا كانت يوماً بريئة بما يكفي لكي تحب بلا أسباب، وتعطي بلا حسابات، وتحلم بلا حدود.
‏أيها القلب المتعب من دروب الحياة، لا تبك على حب ضاع، ولا تحزن على قصة لم تكتمل. فذلك الحب لم يضع أبداً، بل هو يسكن فيك، ينتظر لحظة ضعف منك، ليذكرك بأنك كنت يوماً طفلاً يؤمن بالحب الأبدي، وبالقلوب الصادقة، وبالوعود التي لا تُخلف.
‏ربما لهذا نُبقي على حب الطفولة في قلوبنا؛ لا كتذكار لشخص أحببناه، بل كشهادة على أننا عرفنا يوماً كيف نحب بنقاء الينابيع وعفوية الطيور وصدق الأطفال.
‏وفي عالم تتكسر فيه القلوب، وتُخان فيه العهود، ما أحوجنا إلى أن نتذكر، وسط غبار الحياة وضجيجها، أن فينا طفلاً ما زال يؤمن بالحب، وأن في قلوبنا بقعة نقية لم تمسسها قسوة الأيام.
‏فدع الحنين يغسل روحك من أدران السنين، واترك لدموعك أن تنساب على ذكرى من أحببت وأنت في ربيع العمر. فتلك الدموع ليست دموع حزن، بل هي قطرات من السماء، تروي ذلك الجزء الطفولي فيك، كي لا يموت، وكي يظل الحب حياً في قلبك، رغم كل شيء. 

5 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤