10 يوليو 2025

متى صار الصراخ دبلوماسية والعجز استراتيجية؟ في المأزق المصري وأوهام المقاومة

ثمة في الصراخ المصري ما يذكرنا بتلك المشاهد المسرحية الكلاسيكية؛ حيث الممثل المأزوم يلجأ إلى رفع صوته حين تخونه الحجج. والحال أن القاهرة، منذ أن بدأت السعودية تحولها من "المنح المباشرة بلا شروط إلى الاستثمار المشروط" - كما عبر عنه المسؤولون السعوديون في أكثر من محفل- دخلت في حالة هستيرية غير مسبوقة. كأن المبدأ الاقتصادي البديهي صار إعلان حرب على "أم الدنيا" وكرامتها الفرعونية.
لكن لماذا غضبت مصر؟ الجواب أبسط مما يبدو: لأن السعودية تغيرت. توقفت عن الدفع لمن لا يحترم ما تدفع، وتوقفت عن الصمت أمام من يشتمها ثم يطلب مساعدتها. كسرت "العهد غير المكتوب" الذي ساد عقوداً: "نحن ندفع وأنتم تُمثلون"، "نحن نمول وأنتم تزعقون في الجامعة العربية".
بيد أن الغضب المصري يُخفي مأزقاً وجودياً أعمق. فالنظام الذي بنى شرعيته على أوهام "الزعامة الإقليمية" و"دور مصر التاريخي"، وجد نفسه فجأة عارياً من كل أدوات هذا الدور. لا مال للمناورة، لا نفوذ للمساومة، لا حتى قوة ناعمة للإقناع. وهنا بالضبط تكمن وظيفة "الشركة المتحدة" وقائدها حسن رشاد: تحويل العجز إلى بطولة، والفشل إلى مقاومة، والإفلاس إلى كرامة وطنية.
ذاك أن زمن الشيكات البيضاء انتهى، كما أعلن وزير المالية السعودي محمد الجدعان في دافوس 2023: "اعتدنا إعطاء منح مباشرة وودائع بلا شروط، ونحن نغير ذلك". كلمات نقلتها رويترز وفهمها العالم، إلا القاهرة التي رأت فيها "خيانة". والنخبة المصرية التي تعودت القبض بلا حساب رأت في أي شرط إذلالاً.
حين يُصبح النقد الاقتصادي "خيانة قومية"
يلوح أن أكثر ما أغضب القاهرة لم يكن وقف المساعدات، بل كشف الوقف للحقيقة المُرة: أن السعودية وحدها قدمت 32.49 مليار دولار منذ 2013، وإذا أضفنا دعم الإمارات والكويت فالرقم يتجاوز 100 مليار دولار! مئة مليار ذهبت في مشاريع "الهيبة" لا مشاريع التنمية. عاصمة إدارية بـ58 مليار دولار في الصحراء - مدينة أشباح صُممت لـ6.5 مليون نسمة لكن أسعار شققها (50 ألف دولار) تتجاوز قدرة المصري العادي الذي لا يتجاوز دخله السنوي 3000 دولار. قناة سويس "جديدة" بـ8.2 مليار وعدت بزيادة الإيرادات 259% وخلق مليون وظيفة، فإذا بها تخسر 23% من إيراداتها بسبب الحوثيين. مرافق حكومية في العاصمة الجديدة تتجاوز تكلفة نقلها 100 مليون دولار، بينما 58.5% من الشعب يعيش بأقل من 5.5 دولار يومياً - وهذا بحسب البنك الدولي الذي لا يُتهم بمعاداة مصر- أما الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء المصري، ذلك الساحر الذي يُحول الفقر إلى رخاء بجرة قلم، فيصر على أن النسبة "لا تتجاوز 30%"! كأن الفارق بين 30% و58.5% مجرد خطأ حسابي بسيط، وليس 30 مليون إنسان يختفون من الإحصاءات الرسمية كما اختفى غيرهم في ظروف أخرى. لكن لعل في هذا التلاعب بالأرقام ما يُفسر "المعجزة الاقتصادية" المصرية: إذا لم تستطع حل الفقر، فاحذفه من الإحصاءات!
وإذ تُواجه القاهرة بهذه الأرقام الصادمة، تلجأ إلى سلاحها الأخير: تحويل النقد الاقتصادي إلى "خيانة قومية". هنا يبرز دور سامح أبو عرايس وسامح عسكر وعسلية وابراهيم عيسى والهواري  وقنديل وأمثالهم من منتجات "الشركة المتحدة" - كما فصلتُ في مقالي "الشركة المتحدة: من هندسة الوعي إلى تدمير صورة مصر"-  كل من يسأل "أين ذهبت المليارات؟" يُصبح عميلاً. كل من يُطالب بالشفافية يُتهم بالعمالة. وهكذا يُحول الفشل الاقتصادي إلى معركة وطنية، والفساد إلى مقاومة، والإفلاس إلى صمود أسطوري!
مئة مليار دولار: قصة أكبر هدر مالي في التاريخ العربي المعاصر
لنتوقف قليلاً عند هذا الرقم المذهل: 100 مليار دولار خليجية في 12 عاماً! هذا يعني أكثر من 8 مليارات دولار سنوياً، أو 22 مليون دولار يومياً، أو مليون دولار كل ساعة على مدار 12 سنة! ماذا حققت مصر بهذا الكنز؟ هل أصبحت سنغافورة الشرق الأوسط؟ هل قضت على الأمية؟ هل طورت صناعات تنافسية؟ هل بنت جامعات عالمية؟
الجواب في الأرقام: الدين الخارجي قفز من 43 مليار دولار في 2013 إلى 168 مليار في 2024. الجنيه انهار من 7 جنيهات للدولار إلى 50 جنيهاً. الفقر ارتفع ليشمل 58.5% من السكان. أما "الإنجازات" فعاصمة في الصحراء لا يسكنها إلا الأشباح، وقناة سويس خسرت ربع إيراداتها، وقصور للنخبة بينما الشعب يبحث عن الخبز.
والأنكى أن النظام المصري - بدلاً من مراجعة سياساته - اختار البحث عن كبش فداء: السعودية التي "تخلت" عنه. وراح إعلامه يصرخ: "أنتم تمولون أمريكا وتبخلون علينا!" متجاهلاً أن السعودية استثمرت في طائرات F35 وليس أرصفة فارغة، في رقائق NVIDIA وتقنيات الذكاء الاصطناعي وليس فنادق مهجورة، في صناديق عالمية تدر أرباحاً وليس في بيروقراطيات متضخمة تبتلع الأموال. الفارق بين استثمار سيادي ذكي ومساعدات ودعم لنظام تختفي فيه الأموال في ثقب أسود مجهول.
سوريا: الجنرالات يرتعدون من ظل رجل بلا نجوم
لعل موقف القاهرة من أحمد الشرع يكشف المأزق الأعمق للعسكرتاريا العربية. فالرجل الذي أسقط نظام الأسد - دون دبابات مصرية أو "خبراء استراتيجيين" - يُمثل كابوسهم الأسوأ: التغيير من خارج الثكنات. سُني معتدل، أعلن براءته من القاعدة، قطع صلته بالإخوان، تحالف مع السعودية، وفتح الحوار مع واشنطن. كل ما يفتقده ويخشاه جنرالات العرب.
وثمة في رعب القاهرة من الشرع ما يفضح طبيعة المأزق الوجودي. فالنظام الذي يُروج لنفسه كـ"حامي الاستقرار" و"قاهر الإرهاب"، يرتعد من نجاح مدني في ما فشل فيه العسكر. والأخطر أن هذا النجاح جاء بدعم سعودي واضح، ما يُثبت أن الرياض لم تعد تراهن على الأنظمة الفاشلة، بل على القوى القادرة على التغيير الحقيقي. هنا يُصبح التحريض ضد السعودية ضرورة وجودية: إما تشويه النموذج الجديد، أو الاعتراف بالفشل التاريخي.
المفارقة السورية الكبرى: من يدعم الطائفية ومن يدعم الاعتدال؟
والحال أن المفارقة الأخلاقية هنا صارخة. مصر التي تدعي "قيادة العالم السُني" دعمت لسنوات نظاماً طائفياً عسكريًا علوياً قتل مئات الآلاف من السُنة. بينما السعودية - القائدة الفعلية للعالم السُني - دعمت الثورة ضد الطائفية ورحبت بقائد سُني معتدل. من يدعي الاعتدال دعم التطرف الطائفي، ومن يُتهم بالتشدد دعم الانتصار السُني!
راهناً، تحاول القاهرة تصوير دعم الرياض للشرع كـ"مؤامرة إخوانية"، متجاهلة أن السعودية نفسها حاربت الإخوان. لكن المشكلة الحقيقية ليست في ماضي الشرع، بل في حاضره: مدني ناجح يُهدد شرعية العسكر الفاشلين. والسعودية رأت في سقوط حكم الأقلية الطائفية المدعومة من طهران فرصة تاريخية لإعادة سوريا إلى محيطها الطبيعي.
والمفارقة المُرة أن مايو 2025 شهد قمة غير مسبوقة في الرياض جمعت محمد بن سلمان وترامب وأحمد الشرع، وشارك فيها أردوغان عبر الفيديو. وأين السيسي؟ خارج الكاميرا، خارج الغرفة، خارج التقدير. لم يُدعَ، لم يُخطر، لم يُؤخذ رأيه. ليس صدفة بل نتيجة طبيعية: من لا يُبادر لا يُستشار، ومن لا يملك رؤية لا يُصنع معه تحالف.
السودان: دروس في الجُبن الانتقائي
ثمة في الموقف المصري من أزمة السودان ما يفضح طبيعة النظام وحساباته. القاهرة تدعم البرهان علناً، وأبوظبي تدعم حميدتي بالسلاح والمال والدرونز والمرتزقة - دعم عسكري مباشر موثق- لكن من تهاجم القاهرة إعلامياً؟ الرياض! التي لم تفعل شيئاً سوى الدعوة للحوار والوساطة في جدة.
هذا الصمت المطبق عن دور الإمارات ليس دبلوماسية، بل جُبن محسوب. القاهرة تعرف أن أبوظبي تملك أوراق ضغط حاسمة، من الاستثمارات إلى الودائع المصرفية التي يعتمد عليها الاقتصاد المصري للبقاء. أما الرياض، فيُراهن النظام المصري على صبرها التاريخي وحلمها الذي قد يُفسر ضعفاً. خطأ استراتيجي قاتل.
والمثير للسخرية أن هذا الجُبن الانتقائي يُقدم كـ"حكمة سياسية"! حسن رشاد وماكينته الإعلامية يُصورون الصمت عن الإمارات كـ"براغماتية"، والهجوم على السعودية كـ"دفاع عن المصالح القومية". لكن الحقيقة أبسط: النظام يهاجم من يأمن جانبه، ويصمت عمن يخشى عقابه. إنها سياسة البلطجي الذي يتنمر على الكريم ويتذلل للقوي. ولكن غاب عنه أن يفكر بمآلات الحليم إذا غضب!
غزة والحوثيون: النفاق في أبهى تجلياته
بيد أن أكثر ما يكشف ازدواجية النظام المصري موقفه من غزة والحوثيين معاً. في غزة، أغلقت القاهرة معبر رفح وتركت الجرحى ينزفون حتى الموت على حدودها، ولم تسحب سفيرها من تل أبيب، ولم توقف السياح الإسرائيليين في شرم الشيخ، ولم تُجرم التنسيق الأمني. بينما خطباؤها يملأون الفضائيات صراخاً عن "منع التهجير" و"حماية الشعب الفلسطيني".
في المقابل، السعودية - الدولة الوحيدة التي أعلنت تجميد التطبيع رسمياً وربطت أي اتفاق مستقبلي بإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية - قدمت موقفاً لم تلتزم به لا الإمارات ولا البحرين ولا حتى مصر "حامية القضية". أرسلت آلاف الأطنان من المساعدات، عقدت ثلاث قمم طارئة، طالبت بوقف العدوان علناً وسراً.
وفوق هذا كله، العمال المصريون في السعودية يُحولون أكثر من 8.4 مليار دولار سنوياً لعائلاتهم - ثاني أكبر مصدر دخل لمصر بعد قناة السويس المنكوبة- أي أن السعودية تدعم الشعب المصري مباشرة بأكثر من 23 مليون دولار يومياً من جيوب العمالة المصرية، التي نحبها عاطفيًا، ولكن يمكن استبدالها بخطة قلم، ردًا على نظام يشتم الرياض صباح مساء! وفوق ذلك يُزايد الإعلام المصري الموجه: "نحن الحماة وأنتم الطاعنون". كأن الحماية تكون بإغلاق المعابر أمام المحتضرين!
أما الحوثيون، فحكايتهم أكثر فضائحية. منذ بدأوا ضرب السفن في البحر الأحمر، انخفضت الإيرادات السنوية لقناة السويس بنسبة تتراوح بين 23% و40% خلال عام 2024، بحسب بيانات هيئة القناة وشركات الشحن الدولية التي هجرت الممر المائي خوفاً من الصواريخ الحوثية. ومع ذلك، صمت مطبق من القاهرة. لا بيان إدانة، لا موقف واضح، لا مشاركة في التحالف البحري. لماذا؟ لأن الحوثي يرفع شعار "نصرة غزة"، والنظام يخاف من شارعه أكثر مما يخاف من انهيار اقتصاده. نتيجة طبيعية حين تخالف الأقوال الأفعال في البداية فتضطر إلى الصمت النهائي.
وهنا يتجلى دور "الشركة المتحدة" في أبشع صوره. فبينما الاقتصاد المصري ينزف مليارات بسبب الحوثيين، تعمل ماكينة حسن رشاد على تحويل الأنظار إلى "الخطر السعودي". الحوثي الذي يُدمر قناة السويس "مقاوم شريف"، والسعودية التي تُحول 8.4 مليار دولار سنوياً "عدو يتآمر"! إنها قمة الانحطاط: تبرئة من يُدمرك وتجريم من يُطعمك. وكل هذا لإشغال الشعب عن السؤال الحقيقي: لماذا نصمت عمن يضربنا في مقتل؟
الشركة المتحدة وسامح أبو عرايس: حين يتحول الإعلام إلى ميليشيا
ذاك أن دعوة سامح أبو عرايس - نجم "الشركة المتحدة" ووجهها البارز - المخابرات المصرية للتعاون مع "أمراء سعوديين لإحداث انقلاب" ليست زلة لسان عابرة. التغريدة موثقة في صفحته على تويتر، والصمت الرسمي المصري عنها أبلغ من أي تعليق.
بيد أن ما قاله أبو عرايس يتجاوز كونه تحريضاً إعلامياً. إنه تجاوزٌ غير مسبوق لخطوط الاشتباك غير المُعلنة، وكسرٌ صريح لقواعد الأعراف الدبلوماسية، يرقى - في ميزان الدول الجادة - إلى مستوى إعلان العداء من جهاز سيادي ضد قيادة دولة من المفترض أنها حليفة. في عالم الدول التي تحترم نفسها، تصريح كهذا كفيل بقطع العلاقات. لكن يبدو أن القاهرة تراهن على أن السعودية ستواصل ابتلاع الإهانات كما ابتلعت الشتائم.
والأخطر من التصريح ذاته هو السياق الذي جاء فيه. فأبو عرايس لا يتحدث من فراغ، بل من قلب منظومة "الشركة المتحدة" التي تحولت - كما شرحتُ في مقالي السابق - من أداة دعاية إلى ماكينة حرب نفسية. حسن رشاد يُريد أن يُقدم نفسه كـ"البطل" الذي يتحدى السعودية، و"المقاوم" الذي لا يخضع حتى للرئيس المصري! إنها محاولة يائسة لبناء شرعية من العدم، وخلق بطولة من الوهم، وتحويل التحريض على دولة شقيقة إلى "نضال وطني"!
لكن لنتذكر جيداً: السعودية التي أطاحت بالإخوان في 2013، وقادت عاصفة الحزم في 2015، وواجهت إيران في أربع جبهات، وفككت خلايا إرهابية لا تُحصى، ليست دولة هواة. ومن يظن أنه يستطيع تكرار سيناريو 1952 في الرياض، عليه أن يُراجع دروس التاريخ جيداً، ويتذكر أن الذي ثبت أساسات ملكه قادر على العكس، متى شاء!
الكمايتة: حين تهرب من الحاضر إلى وهم الماضي
أما الكمايتة - تلك الظاهرة النفسية المَرَضية - فتعكس أزمة هوية مزمنة. حين تفشل في الحاضر، تهرب إلى ماضٍ متخيل. "نحن الفراعنة وأنتم البدو"، يصرخون. وينسون أن الحضارة الحقيقية تُقاس بمؤشرات اليوم لا أهرامات الأمس: جودة التعليم (السعودية تتفوق)، مستوى الصحة (السعودية تتقدم)، البنية التحتية (نيوم مقابل العشوائيات)، الإنتاج الثقافي، التقنية والابتكار (السعودية تستثمر المليارات بينما مصر تتسول القروض).
ولعل الأدهى أن خطاب "الكمايتة" - الذي حللته بالتفصيل في مقالي "الكمايتة: عندما يُصبح الماضي مقبرة للحاضر" - يُوظف اليوم كأداة لتبرير الفشل وإلهاء الشعب. فبينما يُحشد المصريون للدفاع عن "هويتهم الفرعونية" ضد "الغزاة العرب"، ينهار جنيههم، ويتضخم دينهم، ويهاجر شبابهم. إنها لعبة الإلهاء الكبرى التي يُتقنها النظام: اشغلهم بمعارك وهمية عن هويات ميتة، كي لا يسألوا عن حقوقهم الحية!
أغلب الظن أن من يصرخ "نحن أصل الحضارة" يعترف ضمناً بأنه صار على هامشها. ففي زمن كانت فيه مصر تُنتج نجيب محفوظ وأم كلثوم، كانت الرياض تستمع. اليوم، MBC تُنتج وتبث وتكسر الأرقام، والسعوديون يكتبون ويُبدعون بلغتهم دون عُقد. التاريخ يتحرك، والحضارات تتبدل، ومن يعيش في الماضي يموت فيه.
إيران: ورقة المناكفة الأخيرة والأكثر بؤساً
وإذ تفتح القاهرة أبوابها لوزير خارجية إيران - قبل أيام من تدمير إسرائيل وأمريكا لمفاعلاتها النووية ومنشآتها العسكرية - فإنها تكشف عن إفلاس كامل في التفكير الاستراتيجي. ما الذي تأمله مصر من نظام محاصر دولياً، منهار اقتصادياً، مهزوم عسكرياً؟ استثمارات؟ (إيران تتسول رفع العقوبات). دعم مالي؟ (إيران عملتها في الحضيض). موقف دولي؟ (إيران منبوذة حتى من حلفائها).
الجواب واضح: لا شيء سوى محاولة يائسة لإزعاج الرياض. كأن المناكفة صارت سياسة خارجية، والمكايدة صارت استراتيجية وطنية. نسوا أن من يلعب بالنار الإيرانية يحترق بها، وأن طهران لا تُعطي مجاناً حتى الابتسامات.
وفي هذا السياق بالذات يتكشف المأزق الوجودي بأوضح صوره. فالنظام الذي فشل في بناء علاقات متوازنة مع محيطه العربي، وخسر ثقة حلفائه التقليديين، لا يجد سوى التحالف مع قوى الفوضى والتخريب. إيران التي تُدمر أربع عواصم عربية، والحوثيون الذين يُدمرون قناة السويس، هؤلاء هم "الحلفاء الجدد" لمصر! ألم يفكروا مثلًا عاقبة أن ترد السعودية التحية بأحسن منها وتستقبل رئيس وزراء أثيوبيا ؟ إنه انتحار استراتيجي بامتياز، يُغلف بشعارات "المقاومة" و"التصدي للهيمنة". لكن الشعارات لا تُطعم خبزاً، ولا تبني اقتصاداً، ولا تحمي أمناً قومياً.
الذباب الإلكتروني المصري: من حفظ قصائد جرير والمتنبي إلى "يا ابن الوسخة"
لئن كان للمصريين تاريخ في فنون البلاغة - من بردة البوصيري إلى شعر شوقي، ومن نثر طه حسين إلى سخرية نجيب محفوظ؛ فإن لجانهم الإلكترونية اليوم يُمثل قاع الانحطاط اللغوي والأخلاقي. "يا أقرع يا بدوي يا بتاع الجمال" صارت ذروة الحجة، و"يا وهابي يا داعشي" صارت قمة التحليل السياسي.
وهذا الانحطاط ليس عفوياً، بل مُمنهج ومدروس. كما بينتُ في "قنابل موقوتة تمشي على قدمين"، المخابرات المصرية بتوجيهات حسن رشاد حول اللجان الإلكترونية إلى جيوش من السبابين المأجورين. كل "كس أمك" تمر عبر موافقة مسؤول، وكل شتيمة لها ميزانية من ضرائب شعب لا يجد الخبز! والهدف واضح: تحويل كل نقاش عقلاني إلى معركة شتائم، وكل حوار بناء إلى حرب طائفية. هكذا يُدمر النظام آخر ما تبقى من رأسمال مصر الحضاري.
من دراسة قصائد الهجاء العربي الكلاسيكي - حيث كان جرير والفرزدق يتبارزان في نجد بسيوف البلاغة - إلى تغريدات الشتائم البذيئة والصور المفبركة بالفوتوشوب. أي سقوط حضاري هذا يا رشاد ويا "الشركة المتحدة" ؟ لديكم بمصر شباب واعي ومثقف لماذا لم تستعينوا بهم لكي يقدمون خطابًا مقنعًا بدلاً من خطاب "السرسجية"  الحالي؟ أم أنكم لا تفهمون لغة الشاب المصري المثقف إذا أنضم إلى هذه اللجان وأعاد تشكيل خطابها؟ وكل هذا بميزانيات من ضرائب شعب لا يجد الخبز ولا الدواء. النظام الذي يعجز عن صياغة رؤية يلجأ للسباب، والنخبة التي تفتقد الحجج تستعيض عنها بالصراخ.
أسئلة لا يجرؤون على طرحها
راهناً، وسط هذا الضجيج كله، ثمة أسئلة محورية لا يجرؤ النظام المصري على طرحها:
- لماذا لا نُصلح اقتصادنا بدلاً من لوم من توقف عن تمويل فشلنا؟
- لماذا ننتظر من السعودية أن تدفع فواتير مشاريعنا الفاشلة إلى الأبد؟
- هل يُعقل أن نبني قصوراً في الصحراء بينما شعبنا يغرق في الفقر ثم نغضب ممن يسأل: أين ذهبت الأموال؟
- كيف نُطالب بـ"الكرامة" ونحن نمد أيدينا للجميع: السعودية، الإمارات، الكويت، قطر، الصين، صندوق النقد؟
- هل من المنطقي أن نُعادي من ساعدنا لعقود لمجرد أنه طلب منا خطة عمل واضحة؟
الأسئلة كثيرة، لكن الإجابات تتطلب شجاعة لمواجهة الذات، وهي بضاعة نادرة في قصور السلطة.
والسؤال الأهم الذي يتجنبه الجميع: ما الهدف من كل هذا التصعيد؟ هل يُعقل أن يكون الهدف مجرد إشغال الشعب المصري عن أزمته الخانقة؟ أم أن هناك من يُريد تحويل مصر إلى ورقة في لعبة إقليمية أكبر، كما حدث في العراق وسوريا ولبنان واليمن؟ النظام الذي يُحول بلده إلى ساحة للصراعات الإقليمية، ويُحول شعبه إلى وقود لحروب الآخرين، هل يستحق البقاء؟
كلفة الصبر: هل تدفع السعودية ثمن ضبط النفس؟
وإذ نصل إلى جوهر المسألة، يبرز السؤال الذي لا مفر من طرحه: هل يُعقل أن تستمر السعودية في دعم نظام يسمح لإعلامييه بالدعوة العلنية للانقلاب عليها؟ هل يُطعم المرء من يُخطط لاغتياله؟ هل يُمول من يتآمر على استقراره؟
أغلب الظن أن الصبر السعودي - ذلك الصبر الذي يُفسره البعض نُبلاً والبعض الآخر حكمة - بدأ يُقرأ في القاهرة ضعفاً وعداوة. وهذه قراءة خطيرة. فالصبر ليس مجانياً في عالم السياسة، وكلما طالت المهادنة ازداد تطاول الطرف الآخر. حين تصمت على شتيمة تأتيك شتيمتان، وحين تتجاهل تحريضاً يأتيك انقلاب.
والحال أن استمرار هذا الصبر لا يُهدد السعودية وحدها، بل يُهدد مفهوم السيادة ذاته في المنطقة. فإذا كان بإمكان إعلامي مأجور أن يدعو علناً لانقلاب في دولة مجاورة دون عواقب، فما الذي يمنع غداً دعوات مماثلة في كل عاصمة عربية؟ السكوت عن التجاوز الأول يفتح الباب للتجاوز الثاني والثالث، حتى تصبح الفوضى هي القاعدة والاحترام هو الاستثناء.
التاريخ يُعلمنا أن الصبر فضيلة، لكنه يُعلمنا أيضاً أن للصبر حدوداً. وحين يتحول الصبر إلى ضعف في عيون المتآمرين، يُصبح التحرك ضرورة لا ترف. السعودية التي صبرت على الإساءات المصرية لسنوات، وتجاهلت الحملات الإعلامية، وواصلت الدعم رغم كل شيء، وصلت اليوم إلى مفترق طرق.
البيان الأخير قبل إسدال الستار
وإذ نقف على عتبة مرحلة جديدة، لا بد من وضوح تام: السعودية اليوم ليست سعودية الأمس. نحن في زمن رؤية 2030، لا في زمن الشيكات المفتوحة. نحن دولة تستثمر في المستقبل، لا خزينة مفتوحة للأنظمة الفاشلة. نحن شريك يحترم نفسه ويطلب الاحترام، لا ممول صامت يُشتم صباحاً ويُستجدى مساءً.
لقد حان الوقت لسياسة واضحة وحازمة. وإن لم يتوقف التحريض والإساءات، فلتكن البداية:
1. محاكمة المحرضين: كل إعلامي مصري يُسيء للسعودية، يحاكم غيابيا بالسعودية وله فرصة الحضور وتوكيل محامي، وإذا تمت إدانته؛ فيكون من ضمن العقوبة أن يُدرج في قائمة سوداء تمنع دخوله دول الخليج كافة.
2. تجميد الاستثمارات وسحب الودائع أو عدم تجديدها: ووقف كل استثمار سعودي جديد في مصر حتى يتغير الخطاب الرسمي مع ضمانات محددة وواضحة ومعاقبة المسيئين.
3. مراجعة أمنية شاملة: إعادة تقييم وجود العمالة المصرية في السعودية، رغم حبنا الفطري للشعب المصري، ولكن الأمن الوطني خط أحمر، وإيقاف أي تجديد للفيز أو طلبات استقدام جديدة من مصر، واستبدالهم بعمالة ماهرة ورخيصة من دول مثل: الفلبين والهند وسيرلانكا وإندونيسيا وباكستان وتايلاند ونيبال وغيرهم.. عمالة تذكرنا بتجربتنا مع سفراء الوفاء في كوريا الجنوبية.
4. الخيارات الإقليمية: فتح قنوات حوار مع كل الأطراف المعنية بالشأن المصري، بما فيها إثيوبيا.
5. التوثيق والمتابعة: إنشاء مرصد رسمي لتوثيق الإساءات الإعلامية وملاحقتها قانونياً.
ليس انتقاماً ولا عدواناً، بل رسالة واضحة: زمن الابتزاز انتهى، وعصر الاحترام المتبادل يجب أن يبدأ. من كان يظن أن السعودية ستظل تدفع صامتة بينما يُخطط للانقلاب عليها، فليُراجع حساباته سريعاً.
أما الشعب المصري العظيم، شعب طه حسين ونجيب محفوظ وأم كلثوم؛ فهو أكبر من نخبة فاشلة تُقامر بمستقبله في معارك خاسرة. يستحق قيادة تبحث عن حلول بدلاً من أكباش فداء، تبني جسور التعاون بدلاً من جدران العداء، تستثمر في شعبها بدلاً من القصور الفارغة.
السعودية مدت يدها بالخير لعقود، وستظل مستعدة لمدها لكل من يحترم نفسه ويحترم شراكة المستقبل. لكنها لن تقبل بعد اليوم أن تكون ضحية لابتزاز عاطفي أو مؤامرات انقلابية. نحن نسير لعالم  2030، والعالم تغير، ومن لم يستوعب التغيير سيجد نفسه خارج التاريخ.
فليقرأ من يريد أن يقرأ، وليفهم من يريد أن يفهم. هذا ليس مقالاً عابراً، بل صفحة جديدة في تاريخ المنطقة. والبقاء لمن يحترم التغيير ويتكيف معه، لا لمن يشتمه صباحاً ويستجديه مساءً.
أليست هذه هي السياسة حين تتحرر من الأوهام والعواطف: واضحة في رسالتها، حازمة في موقفها، عادلة في مطالبها؟
والتاريخ، ذلك المعلم الذي لا يرحم، سيحكم على الجميع. على من بنى وأنتج واحترم، وعلى من هدم وأفسد وأساء. وحين تُكتب فصول هذه المرحلة، سيتساءل الأحفاد: كيف سمحت نخبة لنفسها بالمقامرة بمستقبل شعب عريق من أجل كبرياء زائف ومكاسب وهمية؟
والأهم من هذا كله: كيف سمح شعب عظيم لحفنة من المتآمرين أن يُحولوه إلى وقود لمعارك وهمية، وأن يُشغلوه بأعداء متخيلين، بينما العدو الحقيقي - الفقر والجهل والفساد - ينخر في عظامه يوماً بعد يوم؟
لقد نجح حسن رشاد و"الشركة المتحدة" في مهمتهم المؤقتة: حولوا الغضب الشعبي من الداخل إلى الخارج، من الفشل الذاتي إلى "المؤامرة السعودية". لكن التاريخ يُعلمنا أن الشعوب لا تُخدع إلى الأبد، وأن الأقنعة مهما أُتقنت صناعتها، تسقط في النهاية.
والسؤال الأخير، الذي نتركه معلقاً في فضاء التاريخ: هل ستستيقظ مصر قبل فوات الأوان، أم ستواصل رحلتها نحو الهاوية وهي تلعن من حاول تحذيرها؟
الزمن وحده كفيل بالإجابة. لكن الزمن، كما نعلم جميعاً، لا ينتظر أحداً.

24 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤