ثمة في تقديس العَلَم الوطني ما يوحي بالانتماء، لكن ماذا لو كان العَلَم مُزيَفاً؟ وثمة في ترديد "خير أجناد الأرض" ما يثير الفخر والزهو؛ إلا أن الفخر المبني على كذبة يظل، في أحسن أحواله، وهماً جماعياً يُداوي جراحاً لا يُطيبها إلا الحقيقة.
والحال أن حديث "خير أجناد الأرض" – ذاك المنسوب زوراً للنبي محمد صلى الله عليه وسلم – لم يعُد مجرد رواية ضعيفة يتناقلها العوام، بل تحول إلى عقيدة وطنية مصرية مُقدسة، وصك غفران يُرفع في وجه كل ناقد، وتميمة سحرية تُعلق على رقاب المتنفذين بالجيش والمخابرات.
ذاك أن الكذبة، حين تلبس ثوب القداسة، تصير أخطر من الرصاصة؛ الأولى تقتل العقل، والثانية تقتل الجسد فحسب.
بيد أن المفارقة الكبرى تكمن في أن علماء الحديث المعتبرين اتفقوا على بطلان هذا الحديث. الشيخ الألباني، ذاك العالم الحليل الذي لا يُتهم بالتساهل، حكم عليه بـ"البطلان" قائلاً: "لا أصل له" في سلسلته الشهيرة (الضعيفة). واللجنة الدائمة للإفتاء، برئاسة الشيخ ابن باز، أفتت بأنه "لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه راوٍ مجهول". كما أن الحديث لم يرد في كتب الصحاح، ولا السنن، ولا المسانيد!
لكن السلطة – التي تعجز عن صناعة شرعيتها من الإنجاز، فتستوردها من النصوص المكذوبة – وجدت في هذا الحديث المُختلَق كنزاً لا يُقدر بثمن. فما أجمل أن تحكم شعباً يؤمن أن جيشه "في رباط إلى يوم القيامة"! وما أسهل أن تُسكِت المُعارضين بحديث نبوي، حتى لو كان أوهى من خيط العنكبوت!
يلوح أن دار الإفتاء المصرية – تلك المؤسسة التي كان يُفترض بها حماية الدين من التزوير – قررت أن تدخل سوق المتاجرة بالمقدس. فأصدرت بحثًا بعنوان فج: "صحة الأحاديث الواردة في فضل الجيش المصري". والعنوان وحده يكشف النية المبيتة: البحث عن "فضائل" مُسبقة، لا عن الحقيقة المُجردة.
أغلب الظن أن مَن كتب هذا الكتاب كان يعلم جيداً ضعف الحديث، لكنه آثر أن يُغلفه بعبارات مُراوغة مثل "صحيح المعنى" – وكأن المعنى يُبرر الكذب على رسول الله! إنها الانتهازية الدينية في أبشع صورها: تزوير النص المقدس لخدمة السلطة الزمنية.
راهناً، يُردد المصريون هذا الحديث كما يُرددون النشيد الوطني، بل ربما بحماسة أكبر. فالنشيد الوطني قد يُذكرهم بالهزائم، أما الحديث المُختلَق فيُوهمهم بأنهم مُختارون من السماء. وبين الحقيقة المُرة والوهم الحلو، يختار الجمهور – دائماً – الوهم.
لعل أطرف ما في الأمر أن المصريين أنفسهم يسخرون من مقولة منسوبة لعمرو بن العاص: "نساء مصر لعبٌ، ورجالها مع من غلب". يرفضونها لأنها تُحرجهم، رغم أنها – على الأقل – لها سند تاريخي في كتب الأدب والسياسة. لكنهم يتمسكون بحديث لا سند له إلا الهوى، لأنه يُداعب غرورهم الجريح.
وإذ نتأمل سلسلة الإسناد المزعومة لهذا الحديث، نجد كوميديا سوداء: عبد الله بن لهيعة، المُتفق على ضعفه بعد احتراق كُتبه؛ والأسود بن مالك، المجهول الذي لا يعرفه أحد؛ وبحير بن ذاخر، مستور الحال الذي لا يُحتج به. هذا هو الإسناد الهش الذي رُفع إلى مقام القداسة، كأنه حديث متفق عليه، بينما لا سند له في دواوين السنة
لكن السؤال الأخطر: لماذا لم تذكر دار الإفتاء الحديث الصحيح المتفق عليه: "من كذب علي مُتعمداً فليتبوأ مقعده من النار"؟ الجواب بسيط ومُرعب: لأن هذا الحديث الصحيح يُدين ما يفعلونه، ويكشف حجم الجريمة التي يرتكبونها باسم الدين.
في مصر اليوم، يُصر النظام على تقديس جيش يبني الفنادق ويدير المصانع ويزاحم القطاع الخاص أكثر مما يحمي الحدود. في بلد تتراجع فيه ميزانية التعليم، وتتآكل فيه كرامة المواطن، ويتحول فيه الجيش من درع للوطن إلى شركة قابضة. جيش "في رباط" ضد من بالضبط؟ ضد إسرائيل التي تقصف غزة يومياً دون رد؟ أم ضد الشباب المصري في الميادين؟ أم ضد التجار والمستثمرين؟
والحال أن التاريخ مليء بجيوش حققت انتصارات دون الحاجة إلى تفويض ديني. جيش خالد بن الوليد في اليرموك لم يحتج إلى غير سيفه وإيمانه. الفرنسيون في معركة فالمي هزموا جيوش أوروبا وهم يهتفون: "تحيا الأمة"، لا "نحن خير أجناد الأرض". الفيتناميون الذين طردوا الأمريكيين من أرضهم، اكتفوا بشعار: "الاستقلال أو الموت". الفارق الوحيد أن هؤلاء كانوا يُقاتلون، لا يكتفون بترديد الشعارات في ثكناتهم المكيفة.
ثمة مفارقة مُرة في هذا كله: الجيوش التي انتصرت فعلاً – كجيش قطز الذي هزم المغول – لم تحتج إلى أحاديث مختلقة. انتصاراتها كانت أبلغ من ألف خطبة. أما اليوم، فكل جيش عربي يبحث عن مجده في الموضوعات والشعارات والأساطير: السوريون لديهم "جيش العقيدة"، والعراقيون "أسود الرافدين"، واللبنانيون "المقاومة المقدسة"… جيوش لا تُقاوم إلا شعوبها.
وبينما يُردد المصريون "خير أجناد الأرض"، يغرق بلدهم في الفقر واليأس. الخبز يختفي من الأسواق، الكرامة تُداس في الأقسام، والنيل – شريان الحياة – يُحاصر من منبعه ومصبه. لكن لا بأس، فالحكومة تملك حديثاً مزيفاً يحقن به وعي الناس عند الحاجة.
الأخطر من الحديث نفسه، هو العقلية التي أنتجته: عقلية تُعامل حديث النبي صلى الله عليه وسلم كتصريح سياسي، وتُوظف اسم محمد صلى الله عليه وسلم لتبرير صمت البنادق. عقلية ترى في الكذب وطنية، وفي قول الحقيقة خيانة. عقلية تحول الدين من وعد بالخلاص إلى أداة تخدير سياسي.
ثمة في هذا التزوير المقدس ما يُذكرنا بجملة نيتشه عن "موت الإله". لم يقصد نيتشه موت الله ذاته، بل موت الإيمان حين يُختزل في طقوس سياسية. لكنه لم يتخيل أن القتلة سيكونون عمائم رسمية، وأن سلاح الجريمة سيكون حديثاً موضوعاً يُنسب زوراً إلى نبي الأمة.
فهل نحتاج فعلاً إلى حديث مختلق لنحب أوطاننا؟ وهل العاجز عن إقناعنا بإنجازاته يحتاج إلى تلفيق ديني لتغطية فشله؟
إننا لا نهاجم جيشاً، بل ندافع عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من التزوير. لا نشكك في حب الأوطان، بل نفضح من يلوثه بالكذب. لا نبغض مصر، بل نبغض من يبيعها على منبر، ويجعل من الأكاذيب عقائد وطنية
وفي انتظار أن يستيقظ أحدهم من هذا التنويم الرسمي، يبقى السؤال معلقاً، ثقيلاً كالرصاص:
متى صار الكذب على النبي ص لى الله عليه وسلموطنية مصرية؟