13 يوليو 2025

متى صار المصريون عبيداً بإرادتهم؟

 ثمة شعوب تُقهر فتثور، وأخرى تُقهر فتصمت، وثالثة - وهي الأندر والأغرب - تُقهر فتصفق للقاهر. المصريون من النوع الثالث.
والحال أن تاريخ مصر هو تاريخ كائن عنيد في وجوده، سائل في هويته، يتقمص أرواح غزاته بحماس المريد الصوفي. شعب حول القهر إلى طقس عبادة، والخضوع إلى فن من فنون البقاء.
بيد أن فهم هذه الظاهرة يستدعي المقارنة. حين اجتاح العرب بلاد فارس، اعتنق الفرس الإسلام لكنهم احتفظوا بلغتهم، وأعادوا كتابة أساطيرهم في "الشاهنامة"، وحولوا التشيع إلى قومية دينية. ظلوا فُرساً حتى وهم يصلون بالعربية. أما اليهود، فألفا عام بلا أرض، مطاردون من محرقة إلى مذبحة، ومع ذلك ظلوا يهمسون: "السنة القادمة في أورشليم". لم يصيروا بولنديين في وارسو ولا مغاربة في فاس. ظلوا يهوداً، عنيدين كالصخر ما يميز المصريين هو ما سماه المفكرون "القابلية للاستعباد"، لكن بتحوير مصري: ليست قابلية، بل رغبة... بل عشق للعبودية حد التماهي مع السيد.
حين قتل كمبيز الفارسي إله المصريين المقدس، لم يحركوا ساكناً. لكن حين حاول ملك يوناني تدنيس معبد اليهود، ثاروا رغم ضعفهم. الفرق؟ شعب يقبل الإهانة، وآخر يموت دونها.
الإسكندر فهم السر: لم يحطم الآلهة بل احتضنها. والمصريون؟ لم يقبلوا فحسب، بل صاروا كهنة الإله الجديد. تعلموا اليونانية حتى صاروا يحلمون بها. وحين تتغير لغة الأحلام، تكون الروح قد استُعمرت.
ومع العرب؟ الأمر أشد غرابة. لم يكتف المصريون بقبول الإسلام، بل تخلوا عن لغتهم القبطية طواعية. القبطية التي نجت من الفرس واليونان والرومان، ماتت أمام العربية دون مقاومة تُذكر. بعد ثلاثة قرون فقط، صار المصريون يفكرون ويحلمون ويشتمون بالعربية!
ثم جاء الفاطميون فحولوهم إلى الإسماعيلية (الشيعية المتطرفة) بقرار سياسي. وحين جاء صلاح الدين الأيوبي، عادوا سُنة بقرار آخر. لا ثورات، لا حروب أهلية، لا جدل فقهي. مجرد "تغيير قبلة" إداري، كمن يغير قميصه.
المصريون طوروا "التماهي مع المعتدي" إلى فن: علموا البطالمة كيف يكونون فراعنة، وحولوا المماليك العبيد إلى سلاطين مقدسين. نابليون احتل مصر ثلاث سنوات، لكنه ترك أثراً يفوق قروناً!
السر في كوكتيل "الصوفية" و "الجبرية المصرية" بنية نفسية عميقة: "اللي يحصل يحصل"، "ربنا يسهل". استسلام وجودي يحول الهزيمة إلى قدر، والذل إلى حكمة
قارن بالأتراك: أتاتورك قلبهم رأساً على عقب، لكن لم يستطع إلغاء كبرياءهم. أما في مصر، فحتى ثوراتهم الفكرية مستوردة: ناصر من موسكو، السادات من واشنطن، الإخوان من كراتشي.
المصري يفخر بـ"أم الدنيا" ويحلم بالهجرة، يتغنى بالفراعنة ويجهل الهيروغليفية، يردد "مصر فوق الجميع" ثم يسأل الأجنبي: "إيه رأيك فينا؟"
الشعوب التي نهضت - اليابان، كوريا، الصين - عرفت ذاتها أولاً. تعلمت دون أن تذوب، اقتبست دون أن تتماهى. يقول المثل المصري: "اللي يتجوز أمي أقول له يا عمي".
في بضع كلمات، تاريخ أمة: الأرض تُنتهك، والابن يمنح المنتهِك لقب القرابة. ليس جبناً، بل تطبيع مع الاغتصاب حد جعله عائلة.
بينما تصرخ القدس في شعر مظفر النواب رافضة اغتصابها، تحول مصر كل اغتصاب إلى عُرس، وكل غازٍ إلى عريس. 

4 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤