29 يوليو 2025

متى كُسر الوتر الأخير؟ في موت زياد الذي مات قبل أن يموت

‏لم أشعر بثقل النبأ كما توقّعت. لم تُخنقني الدهشة، ولا تساقطت الكلمات كما تفعل حين يرحل الكبار. كان الخبر جافًا؛ تمامًا كما أصبح صاحبه في سنواته الأخيرة: جافًّا، باردًا، ملطّخًا بما لا يُغتفر.
‏ليس لأن زياد الرحباني لا يستحق الرثاء، بل لأنه هو من أفرغ الرثاء من معناه؛ حين قرر أن يصطف مع الطغاة ضد الذين عزف يومًا لوجعهم. ذاك أنّ من اختار أن يكون صوتًا للرصاصة، بعد أن كان وترًا للأنين، لا يُرثى كما يُرثى المبدعون.
‏حين كنا نسمعه صغارًا، كنا نظنّه واحدًا من أولئك الذين خُلِقوا ليعزفوا لا ليحكموا؛ ليغنّوا لا ليوقّعوا على القتل. والحال أنّ ابن فيروز، وابن القلب اللبناني النابض، كان صوته – أو هكذا خُيّل لنا – يسكن في الجهة الأخلاقية من الكون.
‏لكنّه، ومع الوقت، تحوّل إلى ظلّ باهت؛ ظلّ يُبرّر البرميل، ويصمت عن الجريمة، ويرتّب أنغامه على أنقاض الأطفال. يلوح أنّ التحوّل لم يكن مفاجئًا لمن تابع المسيرة عن كثب؛ بيد أنّ الأمل كان يُعمينا عن رؤية ما لا نريد رؤيته.
‏هل أخطأنا فيه؟ أم أنه هو من خاننا؟ لا أدري. لكنّي أعرف أن من يغني للناس لا يصفّق للذين يسحقونهم؛ وأن من يقف على المسرح باسم "الحرية" لا يجلس في دهاليز المخابرات باسم "المقاومة".
‏ثمّة ما هو أشدّ إيلامًا من الخيانة نفسها: أنّها جاءت ممن لم نتوقّعها منه. لعلّ هذا ما يجعل الجرح أعمق؛ والخيبة أمرّ. إذ كيف لمن صدح "أنا مش كافر" أن يكفر بكلّ ما آمنّا به معه؟
‏لن أزعم أنني لا أحب موسيقاه، ولا أنني سأتظاهر بالكراهية بعد الرحيل. لكن الحقيقة؟ سأستمع إليها بطعمٍ آخر: بطعم الخيانة؛ بطعم الحنين المكسور؛ بطعم الجمال الذي نعرف أنه خرج من فمٍ خان نفسه.
‏وإذ أتأمّل في هذا المصير، أجد أنّ الألحان لن تبقى كما كانت. صارت مشروطة؛ معلّقة على قيد أخلاقي؛ كأنها تُنشد: "أنا بريئة من قائليّ". أغلب الظنّ أنّ هذا ما يحدث حين يخون الفنان فنّه: يصبح الفنّ يتيمًا يبحث عن أبٍ آخر.
‏يا زياد، لقد خذلت جمهورك؛ لا لأنك أخطأت التقدير، بل لأنك اخترت أن لا تُقدّر الموقف أصلًا. وقفت مع حزبٍ حوّل لبنان إلى زريبة، ومع نظامٍ حوّل سوريا إلى ثلاجة موتى. وحين بكت العيون من المجازر، كنتَ تنظر في الاتجاه المعاكس وتضحك.
‏راهنًا، وقد رحلتَ، تبقى الأسئلة معلّقة: لماذا؟ كيف؟ متى بدأ الانحدار؟ لئن كانت الإجابات مدفونة معك، فإنّ الأسئلة ستظلّ تطاردنا نحن الذين أحببناك ذات يوم.
‏لكننا – نحن الذين نحاسب ونحزن في آن – نعرف أن الفن لا يُلغى؛ وأننا نحبّ العمل ولو كرهنا العامل؛ وأننا نُقدّر اللحن حتى حين نحتقر اليد التي عزفته. هذه ليست تبرئة، بل اعتراف بتعقيد العلاقة بين الجمال والأخلاق.
‏فنم كما شئت. نم كما يليق بمن قال، ثم تراجع؛ بمن كتب، ثم مزّق؛ بمن عزف، ثم خرس. ولتعلم أن الناس سيذكرونك بصيغة مركّبة: "كان عظيمًا .. حتى قرر أن لا يكون". 

3 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤