ألا يثير السخط أن نرى أبطالنا الحقيقيين يُغيَّبون بينما يُحتفى بالمجرمين؟ أن نشاهد ثرواتنا تُهدر على إنتاجات تشوّه تاريخنا بدلاً من أن تُخلّده؟ أن نرى أمريكا تصنع من الخيال أبطالاً يحفظ العالم أسماءهم، بينما نحن ندفن أبطالنا الحقيقيين في مقابر النسيان؟
لنبدأ من البداية: في تراثنا العربي القديم، قبل أن يعرف الغرب معنى البطولة الشعبية بستة قرون، عاش عروة بن الورد العبسي (540-596م). كان هذا الرجل ظاهرة فريدة؛ فارس من بني عبس، ابن أسرة ثرية، لكنّه رأى في تفضيل أبيه لأخيه الأكبر عليه وطبقية القبيلة مع أفرادها ما دفعه للتمرّد على تقاليدها؛ فخرج عن قوانينها ليؤسس ما يمكن تسميته بأول حركة عدالة اجتماعية في التاريخ العربي.
ذاك أنّ عروة لم يكن مجرد صعلوك آخر يقطع الطريق. كان فيلسوفاً اجتماعياً قبل أن يُعرف هذا المصطلح. لُقّب بـ"أمير الصعاليك" و"أبي الفقراء والمساكين"، وابتكر نظاماً أخلاقياً متكاملاً للإغارة: يستهدف الأغنياء البخلاء حصراً - أولئك الذين "يدافعون عن أموالهم بالعقوق والبخل" كما وصفهم - ويوزّع الغنائم بالتساوي على المحتاجين، بل يشرك في نصيبه حتى المرضى والعجزة الذين لم يشاركوا في الغارة.
والحال أنّ الرجل عاش تناقضات حياته الشخصية بعمق. تزوّج من سلمى الغفارية التي أُعجبت ببطولاته، لكنّها ما لبثت أن ضاقت ذرعاً بغياباته الطويلة في مهمّاته "النبيلة". وحين عاتبته وطلبت الطلاق، أجابها بقصيدة مؤثرة:
"أَقِلِّي عَلَيَّ اللَّوْمَ يا ابْنَةَ مُنْذِرِ... وَنامي فإنْ لَم تَشتهي النَّومَ فاسْهَري
ذَرِيني ونَفسي أُمَّ حَسَّانَ إنَّني... بها قبلَ أنْ لا أملكَ البَيعَ مُشتري
يطلب منها أن تكفّ عن لومه، وأن تدعه لمصيره الذي اختاره. فهو قد "اشترى نفسه" - أي كرّسها لرسالته - قبل فوات الأوان أيّ عمق إنساني هذا في رجل يُصنّف كـ"قاطع طريق"؟
بيد أنّ أهمّ ما ميّز عروة كان نظامه الاجتماعي المبتكر. في سنوات القحط والمجاعة، كان يجمع الضعفاء والمنبوذين والمرضى من قبيلته في مكان آمن. يوفر لهم الطعام والكساء والرعاية من غنائمه. وإذا تعافى أحدهم وقويت شوكته، اصطحبه معه في الإغارة لتزداد موارد المجموعة. وحين تنتهي سنوات الشدة، يعيد كل فرد إلى أهله ومعه نصيب يكفيه ويغنيه. أليس هذا نموذجاً مبكراً للضمان الاجتماعي؟ أليس تطبيقاً عملياً لمبدأ "من كلٍ حسب قدرته، ولكلٍ حسب حاجته" قبل أن يصوغه ماركس بثلاثة عشر قرناً؟ طبعًا لست بالماركسي ولكنها مفارقة ثبتت فكُتبت.
وقد عبّر عروة عن فلسفته في أشعار خالدة. حين عُيّر من أخيه بنحول جسده مقابل بدانة محدّثه، ردّ بفخر:
"إني امرؤٌ عافي إنائي شِركةً... وأنتَ امرؤٌ عافي إنائِكَ واحدُ
أتهزأُ مني أن سمِنتَ وأن ترى... بوجهي شحوبَ الحقِّ والحقُّ جاهدُ
أقسِّمُ جسمي في جسومٍ كثيرةٍ... وأحسو قراحَ الماءِ والماءُ باردُ"
يفتخر بأنه يشارك الآخرين طعامه، بينما البخيل يستأثر بإنائه. شحوب وجهه من "ملاقاة الحق الجادّ"؛ أي من تحمّل مشاق العمل لأجل الآخرين. يقسّم قوته بين أجساد كثيرة ويكتفي بشرب الماء البارد. أيّ نُبل هذ
لكنّ أعمق ما قاله عروة كان في تصويره لنظرة المجتمع الظالمة للفقير:
"دعيني للغِنى أسعى فإنّي... رأيتُ الناسَ شرُّهُمُ الفقيرُ
وأبعدُهم وأهونُهم عليهم... وإن أمسى لهُ حسبٌ وخيرُ
يُقصِّيهِ النديُّ وتزدريهِ... حليلتهُ ويَنْهَرُهُ الصغيرُ
ويُلفى ذو الغِنى ولهُ جلالٌ... يكادُ فؤادُ صاحبِهِ يَطيرُ
قليلٌ ذنبهُ والذنبُ جمٌّ... ولكن للغنى ربٌّ غفورُ
سخرية لاذعة من واقع ما زال قائماً: الفقير مُحتقر مهما كان فاضلاً، حتى زوجته تزدريه وأطفاله ينهرونه. الغني مُبجّل مهما كان آثماً، ذنوبه مغفورة لأنّ "للغنى ربٌّ غفور"! أليست هذه بصيرة سوسيولوجية نافذة سبقت عصرها بقرون؟
هذا البطل العربي الأصيل، الذي شهد له حتى خصومه بالنبل - حتى أنّ معاوية قال: "لو كان لعروة ولدٌ لأحببتُ أن أتزوّج إليهم"، وعبد الملك بن مروان قال: "من زعم أنّ حاتماً أسمح الناس فقد ظلم عروة"، وعمر بن الخطاب كان يتمثّل بشعره.
والآن، لننتقل ستة قرون إلى الأمام، إلى إنجلترا القرون الوسطى، حيث ظهرت شخصية روبن هود الأسطورية. والمذهل - بل المريب - أنّ سيرة روبن هود تكاد تكون نسخة كربونية من سيرة عروة: كلاهما خارج عن القانون، كلاهما يسرق من الأغنياء ليعطي الفقراء، كلاهما يقود عصبة من المنبوذين، كلاهما رامٍ ماهر بالسهام، كلاهما محبوب من الشعب ومكروه من الطبقة الظالمة.
بيد أنّ الفارق الجوهري أنّ عروة شخصية تاريخية موثّقة، بينما روبن هود - رغم محاولات ربطه بشخصيات حقيقية - يبقى في جوهره أسطورة فولكلورية. ومع ذلك، انظروا كيف تعامل كلٌّ من الشرق والغرب مع بطله:
روبن هود تحوّل إلى ظاهرة ثقافية عالمية. مئات الأفلام والمسلسلات: من الفيلم الصامت الأول عام 1908، إلى فيلم إيرول فلين الكلاسيكي 1938، إلى كيفن كوستنر 1991، إلى راسل كرو 2010. حتى ديزني أنتجت فيلماً! مدينة نوتنغهام اتخذته رمزاً سياحياً بتمثال ومهرجانات سنوية.
أمّا عروة بن الورد؟ مسلسل أردني ضعيف ووحيد عام 1978 من بطولة أسامة المشيني، وظهورات هامشية في أعمال عنترة.
لكنّ المأساة الحقيقية ليست في إهمال عروة فحسب، بل في النهج الكامل لصناعة الأبطال. أمريكا - وهذا درس يجب أن نتعلّمه - لا تكتفي بأبطالها التاريخيين. تصنع أبطالاً من الخيال المحض وتحوّلهم إلى أيقونات عالمية. انظروا:
رامبو؛ المحارب القديم الذي يقاتل الظلم وحيداً. صنعوا منه رمزاً للبطولة الفردية والتضحية من أجل الوطن. أربعة أفلام ناجحة (1982-2019) شاهدها المليارات وحفظوا اسمه.
روكي بالبوا؛ الملاكم الفقير من فيلادلفيا الذي يتحدّى الصعاب. تسعة أفلام (1976-2023) جعلت منه رمزاً للإصرار والعزيمة. حتى درجات متحف فيلادلفيا صارت مزاراً سياحياً!
توب غَن؛ الطيّار المتمرّد الذي يحمي سماء أمريكا. فيلمان فقط (1986، 2022) كفيا لترسيخ صورة البطل الأمريكي الذي لا يُقهر.
ناهيك عن سوبرمان وباتمان وسبايدرمان وكابتن أمريكا... كلّهم أبطال خياليون صاروا أكثر شهرة من أيّ بطل حقيقي في التاريخ!
وفي المقابل، ماذا نفعل نحن؟ قناة MBC التي تُنفق مئات الملايين سنوياً - أموال كافية لإنتاج عشرات الأفلام العالمية عن أبطالنا الحقيقيين؛ تقدّم لنا ماذا؟
مسلسل "شارع الأعشى" الذي حوّل جدّاتنا الفاضلات إلى باحثات عن المغامرات الغرامية! أيّ تزوير هذا؟ نساؤنا في الجاهلية - وحتى سلمى زوجة عروة التي طلبت الطلاق - كنّ يطلبن الطلاق لأسباب جدّية لا لمغامرات عاطفية!
والأنكى: مسلسل "رشاش" الذي يحوّل مجرماً حقيقياً وقاطع للطريق وسفّاك للدماء؛ إلى بطل يستحق التعاطف! بينما عروة بن الورد، الذي قال
"لَحا اللهُ صعلوكًا إذا جَنَّ ليلُهُ... مصافي المُشاشِ آلفًا كلَّ مجزرِ
وللهِ صعلوكٌ صفيحةُ وجهِه... كضوء شهابِ القابسِ المُتنوّرِ
الذي ميّز بين الصعلوك المتطفّل والصعلوك النبيل، يُترك في زوايا النسيان!
ذاك أنّ المسألة تتجاوز مجرد إنتاج تلفزيوني. إنّها معركة على الوعي والهوية. عندما تُصرف المليارات على تحويل المجرمين إلى أبطال، وتشويه الفاضلات إلى ماجنات، بينما يُهمل الأبطال الحقيقيون، فنحن أمام مشروع تخريب حضاري ممنهج.
والمفارقة المُرّة أنّ الغرب الذي نتّهمه بسرقة حضارتنا، ربما يكون قد "سرق" فعلاً قصة عروة وحوّلها إلى روبن هود، فالتشابه أكثر من أن يكون مصادفة، وعروة أقدم بستة قرون. لكنّهم على الأقل احتفوا بـ"نسختهم" وجعلوها رمزاً عالمياً. نحن؟ نجهل الأصل ونحتفي بالمجرمين!
إنّ استعادة عروة بن الورد ليست رفاهية ثقافية. في زمن تتّسع فيه الفجوة بين الأغنياء والفقراء، نحتاج لتذكّر أنّ في تراثنا من طبّق العدالة الاجتماعية قبل أن تُنظّر لها. في زمن يبحث فيه شبابنا عن قدوات في رامبو وروكي، نحتاج لإخبارهم أنّ لدينا من هو أنبل وأصدق.
لقد قال عروة وهو يصف بحثه عن هدف يستحق الإغارة عليه:
"لعلَّ ارتيادي في البلاد وبُغيتي... وشَدّي حيازيم المطيةِ بالرَّحلِ
سيدفعُني يومًا إلى ربِّ هِجْمَةٍ... يُدافعُ عنها بالعُقوقِ وبالبُخلِ"
كان يبحث عن البخيل الظالم ليأخذ منه حق الفقراء. إعلامنا اليوم يبحث عن المجرمين ليحوّلهم أبطال
ولعلّ أبلغ ختام لهذا المقال أن نتساءل: إذا كانت أمريكا تصنع من الخيال أبطالاً يؤمن بهم العالم، ونحن نملك أبطالاً حقيقيين نجهلهم ونُكرّم بدلاً منهم المجرمين، فأيّ الحضارتين أحقّ بالبقاء؟ وأيّ الشعوب أجدر بأن يقودها أطفالها إلى المستقبل؟
عروة بن الورد ينتظر من يُنصفه. التاريخ ينتظر من يُنصفه. ونحن؟ ننتظر معجزة تُحيي فينا احترام الذات قبل أن نطالب الآخرين باحترامنا.
أم أنّنا سنظلّ نردّد مع الشاعر: "وما أدري وسوف إخال أدري... أقومٌ آل حصنٍ أم نساءُ؟