23 يوليو 2025

من المطلوب الأول إلى رئيس الجمهورية :حين غلب الشرع القاعدة والأسد وطائفيته معا

‏ثمة في لقاء الرياض ما يلوح كأكبر صفعة لخطاب النخبة العربية منذ عقود؛ رجلٌ كان رأسه مطلوبًا بعشرة ملايين دولار، يقف متبسّمًا إلى جانب ترامب، وتحت نظرة رضا من محمد بن سلمان… تلك ليست صورة فوتوغرافية؛ بل لقطة فوتونية لتشقق المفاهيم.
‏إذ، والحال أنّ أحمد الشرع – المعروف يومًا بـ”أبي محمد الجولاني” – بات يُوقّع المعاهدات، ويستقبل الوفود، ويؤسس لسوريا جديدة من فوق ركام جمهورية البراميل؛ فالأمر لا يعود لمسيرة شخص، بل لانهيار سردية كاملة: تلك التي كانت تصف الثوار بـ”المرتزقة”، وتقدّس نظامًا سلّح شبيحته ونام على سرير الروس.
‏ذاك أنّ الرجل الذي حمل البندقية حين كانت النخب تنظم القصائد، هو نفسه من تحوّل إلى حامل مفاتيح القصر الرئاسي؛ لا لأن ماضيه خالٍ من العثرات، بل لأن واقعه أكثر شرعية من ألف كاتب عمود لم يُغادر فندقًا في بيروت.
‏بيد أن نُخبنا العربية، التي تُتقن التلاعب بالكلمات أكثر من الواقع، تصرّ على محاكمة المستقبل بسكين الماضي. يهاجمون الشرع لأنّه “خرج من القاعدة”؛ وكأنهم لم يسمعوا بمانديلا، أو عرفات، أو بيغن. هل الشرعية تُمنح للماضي، أم تُنتزع بالدم؟ وهل تُقاس بملف استخباراتي، أم بمشروع وطني قابل للحياة؟
‏الأدهى، أنّ مصر – قلب الأمة ووجدانها الأزلي – تبدو راهنًا كمَن يتفرّج على فيلم نجاتها يُعرض في صالة مجاورة… دون أن تشتري تذكرة الدخول. أغلب الظن أنّ القاهرة تتوجّس من الإسلام السياسي، بيد أن ما يفعله الشرع لا يشبه الإخوان، بل هو أقرب إلى “واقعية سنّية سيادية” تكسر كلاً من القيد الطائفي… والوهم الليبرالي.
‏أليس من المدهش أنّ السعودية، التي طالما وُصفت بالتحفظ، تتقدم اليوم في دعم التحول السوري بجرأة مذهلة، بينما القاهرة تتلعثم أمام ثورة لا تطلب منها إلا موقفًا يليق بثقلها؟
‏ثمّة لحظة إدراكية تتجلى حين تُقارن: في مصر، جيشٌ وطني يحكم باسمه؛ في سوريا، نظام طائفي كان يحكم باسم القبر. هنا مؤسسة عمرها قرنان؛ هناك ميليشيا عمرها شهوة سلطة. فهل الخوف من “السيناريو السوري” مبرَّر… أم هو ذريعة لدفن الرأس في رمال لا تخصنا؟
‏وإذ تُهاجم النخب “تحوّل الجهادي إلى رئيس”، فإنها تصمت عن جزار طائفي قتل مليونًا. أيّ وقاحة هذه؟ هل يُسمح للأسد أن يتحوّل من قاتل إلى مُمثل في قمم دول عدم الانحياز، ويُحرَّم على الشرع أن يتحوّل من مقاتل إلى زعيم شرعي بوفاق وطني؟
‏في السويداء، اختلط الدم بالرماد؛ وفي الساحل، فُتحت جراح العلويين. والمشهد، وإن بدا دموياً، ليس أكثر عنفًا مما فعله النظام السابق. الفارق أنّ النظام السابق استخدم الطائفية للبقاء؛ أما الشرع، فإن أخطأ، فلأن ركام الحرب لا يمنح ترف التنظير. لئن ارتُكبت تجاوزات، فلتُحاسَب… لكن لا تسرقوا من السوريين حقهم في التحرّر، لأن من قادهم لا يرتدي ربطة عنق!
‏وإذ يُهاجم “محور المقاومة” سقوط الأسد، فالمفارقة لاذعة: من لم يُطلق طلقة على إسرائيل منذ 1973، لا يحق له تعليمنا المقاومة. من يقاتل حزب الله في القصير، لا يحتاج لوعود شبعا. من يمنع إيران من التمدد، لا ينتظر مديح نصر الله.
‏السعودية، بما هي قلبٌ وقرار، لم تنظر إلى ماضي الشرع، بل إلى مستقبل سوريا. وهذا هو الفرق بين من يكتب التاريخ بحبرٍ أحمر، ومن يخطّه بمداد السيادة. ولي العهد لم يحتفِ بـ”الشرع الجهادي”، بل بـ”الشرع الذي تحوّل إلى رجل دولة”، وبرؤية تسحب سوريا من حلف الدم إلى حلف التنمية.
‏تركيا كذلك، لعبت دورًا لا يُنكر؛ فتحت حدودها، احتضنت المعارضة، ساهمت بالدم والديبلوماسية، ومنعت دمشق من السقوط في هاوية الولي الفقيه. من يُنكر دور أنقرة… كمن أنكر نور الشمس لا لضعفه؛ بل لأنه أتى من شمال قلبه. 
‏أما مثقفو العواصم، فتلك مأساة أخرى: يهاجمون “الطائفية” ويصمتون عن “الاحتلال العلوي”؛ يتباكون على “الدولة المدنية”، ويهللون لحزب يذبح السوريين باسم “الممانعة”. لا يخيفهم التشيّع السياسي، بل يخيفهم أن تحكم الأغلبية نفسها.
‏أغلب الظن أنّ هؤلاء لا يكرهون الطغاة… بل يكرهون أن يُسقطهم رجل لا يحمل قاموسهم!
‏الشرع لا يدّعي الكمال؛ لكنه يمسك زمام لحظة تاريخية. إن أحسن، سيفتح بابًا لنهضة سنّية بلا وصاية. وإن أخطأ، فشعبه أولى بمحاسبته. أما من يعارضه دون مشروع، فليسوا خصومًا… بل عتبات لعودة الطغيان.
‏فلنمضِ نحو سوريا لا تُحكم من طائفة، ولا تُستورد من سفارة، ولا تُختزل في شاشة. سوريا تُبنى ببندقية تحرس لا تقتل؛ بقرار يعيد اللاجئ لا يدوّره؛ بدولة… لا بكيان.
‏ذاك أن النصر لا يُقاس بعدد الرايات… بل بعدد من عادوا إلى بيوتهم أحياء.

5 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤