في حزيران 1967، لم تُهزم الجيوش العربيّة فحسب؛ هُزمت فكرة بأكملها. فكرة أنّ الخطابة الرنّانة يمكن أن تحلّ محلّ الاستعداد، وأنّ الزعامة الكاريزميّة تعوّض عن الحسابات العقلانيّة. والأنكى أنّ هذه الهزيمة لم تكن قدراً محتوماً، بل كانت نتيجة فخّ نفسيّ دبّرته إسرائيل بعناية، ووقع فيه جمال عبد الناصر بكامل إرادته، مدفوعاً بغرور الزعيم الأوحد وهوس الصورة الجماهيريّة.
ذاك أنّ محمد حسنين هيكل، كاهن البلاط الناصريّ الأكبر، اعترف لاحقاً بما كان يود أن يُخفيه إلى الأبد; استباقا لظهور الوثائق المترجمة كاملة: الاستخبارات الإسرائيليّة، بعد دراسة نفسيّة معمّقة لشخصيّة عبد الناصر، اكتشفت أنّ الرجل أسير صورته كالطاووس أسير ريشه. فما كان منهم إلاّ أن أطلقوا حملة إعلاميّة محسوبة تتّهمه بالجبن والعجز بدلالة عدم إغلاقه للمضائق واحتماءه بالقوات الدولية. النتيجة؟ انفعل "الزعيم" كمراهق في ساحة مدرسة: طرد قوّات الطوارئ، أغلق مضيق تيران، وقدّم رقبته - ومعها رقاب العرب - على طبق من فضّة.
لكنّ المأساة الحقيقيّة، تلك التي يتعامى عنها عُبّاد الناصريّة، تكمن في حقيقة بسيطة مُرّة: الأراضي التي نتسوّل اليوم استعادتها - القدس الشرقيّة والضفّة الغربيّة وقطاع غزّة - كانت بأيدينا فعلاً قبل ذلك الحزيران الأحمق. لم تكن "قضيّة" ولا "حلماً" ولا "مطلباً تفاوضيّاً"؛ كانت أرضاً تُحكم وتُدار، عليها علم أردنيّ هنا وإدارة مصريّة هناك.
والأدهى من هذا كلّه أنّ لو لم تقع تلك الحماقة الناصريّة، لكان سقف مطالبنا اليوم مختلفاً جذريّاً. تخيّلوا للحظة: بدلاً من التفاوض على "استعادة أراضي 67" كما نفعل منذ نصف قرن، ربّما كنّا نفاوض على توسيع رقعة الدولة الفلسطينيّة داخل حدود 48، و على حقّ العودة الفعليّ للاجئين، أو حتّى على ترتيبات كونفدراليّة متقدّمة. كنّا سنفاوض من موقع مَن يملك ويريد المزيد، لا من موقع مَن خسر كلّ شيء ويستجدي البقايا.
بلغة أوضح: ما تطالب به "مبادرة السلام العربيّة" اليوم بخجل - العودة إلى حدود 4 حزيران - كان يمكن أن يكون أرضيّة الحدّ الأدنى للتفاوض، لا سقف الأحلام المستحيلة. لكنّ عبد الناصر، بقراره الانفعاليّ، حوّل ما كان واقعاً مُعاشاً إلى مطلب تفاوضيّ، وما كان حقّاً ثابتاً إلى منّة إسرائيليّة محتملة.
والمفارقة الأكثر سخريّة أنّ الرجل نفسه، في تسجيل مسرّب قُبيل موته، اعترف بأنّه لم يكن ينوي سوى استعادة سيناء. أي أنّ كلّ تلك الخطابات الملحميّة عن "إزالة آثار العدوان" و"المعركة المصيريّة" لم تكن سوى بضاعة كلاميّة رخيصة للاستهلاك الجماهيريّ. فيا لها من بطولة: يخسر حرباً لم يكن يريدها، ويضيّع أراضي لم يكن يقصد تحريرها، ويخفض سقف المطالب العربيّة من السماء إلى الحضيض!
هكذا إذن تُصنع الكوارث التاريخيّة: زعيم يعيش في فقاعة نرجسيّته، وشعوب تصفّق لخطاباته الجوفاء، وأعداء أذكياء يعرفون كيف يحوّلون الغرور إلى سلاح. والنتيجة؟ تحوّلت القدس من مدينة عربيّة إلى "قضيّة القضايا"، وانقلبت الضفّة من أرض محكومة إلى "أراضٍ محتلّة"، وغدت غزّة من قطاع تحت الإدارة إلى سجن كبير. وتحوّل العرب من مفاوضين محتملين على المزيد إلى متسوّلين للحدّ الأدنى.
أمّا الناصريّون، أولئك المصابون بمتلازمة ستوكهولم السياسيّة، فما زالوا يحتفلون بذكرى الرجل الذي خفض سقف أحلامنا من النجوم إلى التراب. يتغنّون بـ"عصر الكرامة" متناسين أنّ الكرامة الحقيقيّة كانت في الاحتفاظ بما نملك والبناء عليه، لا في خسارته ثمّ قضاء نصف قرن نبكي على الأطلال.
لقد نجح عبد الناصر في شيء واحد بامتياز: تحويل الموقف التفاوضيّ العربيّ من موقف القويّ الذي يملك ويساوم، إلى موقف الضعيف الذي خسر ويستعطف. حوّل فلسطين من جغرافيا إلى نوستالجيا، ومن واقع إلى حلم، ومن حاضر مُعاش إلى مستقبل موعود، ومن ورقة تفاوضيّة قويّة إلى قضيّة خاسرة. وهذا، في نهاية المطاف، قد يكون أعظم "إنجازاته": أن يجعلنا نحنّ إلى ما كان بأيدينا، ونفخر بمن أضاعه، ونحلم باستعادة ما كان يمكن ألاّ نخسره أصلاً.