ثمّة ظاهرة مُلفتة في ثقافتنا العربيّة المعاصرة، ظاهرة الداعية الذي يخلع عباءته ليرتدي بذلة المثقّف، غير أنّه يحتفظ، تحت البذلة الأنيقة، بروح الواعظ ومنطق الوصاية ولسان الخطيب. سامح عسكر نموذج بليغ لهذه الحالة، إذ خرج من كهف الإخوان المسلمين ليدخل صالون التنوير، لكنّه حمل معه أمتعته القديمة كلّها: التقسيم الثنائيّ للعالم، احتكار الحقيقة، والنظرة الفوقيّة للآخر. كان بالأمس يقسّم البشر إلى "مؤمنين وكفّار"، واليوم يقسّمهم إلى "مستنيرين وبدو". المنطق ذاته وإن تبدّلت اللافتات، كمن يُغيّر ثيابه ويحتفظ برائحته.
في خطابه الأخير عن زيارة دونالد ترامب للسعوديّة، تجلّت هذه البنية العتيقة بأفصح صورها. الرجل لم يحلّل حدثاً سياسيّاً بقدر ما صعد منبراً علمانيّاً، يُوزّع منه صكوك الغفران الحضاريّ. استمع إليه وهو يقول بالحرف: "المصريون رأوا أن هذه الأموال تُدفع كجزية سياسية في مقابل بقاء أنظمة معينة في الحكم"، ثمّ يتساءل بنبرة الضحيّة: "لماذا لم تشترطوا عليهم وقف العدوان على غزة؟ لماذا لم تطلبوا منهم ضمان أمن مصر؟" كلمات تبدو هادئة في ظاهرها، لكنّها تنفث سمّاً في باطنها. فـ"الجزية" ليست مجرّد وصف اقتصاديّ عنده، بل حكم أخلاقيّ يستدعي كلّ موروث الذلّ والخضوع. و"البدو" - كما يصف السعوديّين - ليست توصيفاً أنثروبولوجيّاً، بل شتيمة حضاريّة مُبطّنة. هذه اللغة التي تلمع في السطح وتلسع في العمق هي ذاتها لغة الداعية القديم، وإن استبدل آيات القرآن بمصطلحات التقدّم.
يصف عسكر الاستثمارات السعوديّة الأميركيّة، والبالغة تريليونات الدولارات، بأنّها "جزية سياسيّة"، وكأنّ التاريخ توقّف عند باب حارة عبد الناصر. لكنّ الجزية، يا صاحب العمامة المدنيّة، مالٌ يُقتطع بحدّ السيف من رقبة المغلوب. أمّا ما جرى بين الرياض وواشنطن فشراكات في الذكاء الاصطناعيّ مع شركات كـNvidia وOpenAI، واستثمارات في الفضاء مع Lockheed Martin، ومشاريع طاقة متجدّدة تُعيد تعريف مستقبل المملكة. السعوديّة لم تدفع ثمن البقاء، بل ثمن الدخول إلى نادي الدول المُنتجة للتقنية. أمّا مصر عسكر فما زالت تستورد حتّى أحلامها.
والمفارقة المُرّة أنّ السعوديّة التي في خيال سامح - بلد الصحراء والجِمال والبداوة - لم تعد موجودة إلاّ في متحف ذاكرته المتكلّسة. السعوديّة اليوم تُطلق مشروع "هيومين" (HUMANE)، أكبر صندوق استثماري عربي في مجال الذكاء الاصطناعي برأسمال يتجاوز 100 مليار دولار، بشراكة مع أندريسن هورويتز وغيرها من عمالقة التقنية. صندوق استثماراتها العامّة بات لاعباً عالميّاً بأصول تتجاوز 700 مليار دولار. مدنها الذكيّة كـ"نيوم" و"ذا لاين" تُعيد تعريف العمارة والحياة الحضريّة. مواسمها الثقافيّة تستقطب ملايين الزوّار ومئات الفنّانين من كلّ العالم. فيما مصر "المتحضّرة" تحتفل بافتتاح محطّة مترو بعد ثلاثين عاماً من التخطيط، يبني "البدو" حضارة المستقبل من الصفر.
ويتساءل عسكر بنبرة المظلوم: لماذا لا تُستثمر هذه الأموال في مصر؟ سؤال يُخفي وراءه استحقاقاً مزعوماً، كأنّ العالم مدين لمصر بحكم التاريخ. لكن دعنا نُقارن كيف تستقبل السعوديّة المستثمر وكيف تستقبله مصر. في السعوديّة، يُفرش السجّاد الأحمر، تُيسّر الإجراءات، تُقدّم الحوافز، يُحمى رأس المال بقوانين واضحة. في مصر، يُنظر للمستثمر كجاسوس محتمل، تُعرقله بيروقراطيّة عتيقة، تُحاربه نقابات تعيش في القرن التاسع عشر، ثمّ يُتّهم بـ"الغزو الثقافيّ" إن نجح.
عندما غامر تركي آل الشيخ بالاستثمار في الرياضة المصريّة، جالباً الأموال والخبرات، كان جزاؤه حملة تشويه منهجيّة. الإعلاميّون الذين كانوا يتسوّلون منه بالأمس، تحوّلوا إلى كلاب تنبح على من أطعمها. وحين منح السعوديّون عادل إمام جائزة "قائد الفنّ العربيّ" في Joy Awards، خرجت أقلام مصريّة تتساءل بوقاحة: "من أنتم لتكرّموه؟" وكأنّ التكريم حكرٌ على من لا يملك ثمن التذكرة. مستثمر إماراتيّ آخر -واجهة لأحد أفراد الأسرة الحاكمة الإماراتية- جرّب حظّه بالنادي المصري "بيراميدز"، فلاقى المصير ذاته. الرسالة واضحة: مصر لا تريد شركاء، بل متبرّعين صامتين.
والحقّ أنّ السعوديّة، بحسب اعتراف عسكر نفسه، منحت مصر 25 مليار دولار في ثلاث سنوات. أين ذهبت؟ في عاصمة إداريّة تُكلّف 59 مليار دولار بينما المواطن يبحث عن الدواء. في حاملة طائرات اشتُريت وسط أزمة عملة خانقة. في اقتصاد يُديره جنرالات لا يُسألون ولا يُحاسبون. فلمّا وقف محمد الجدعان، وزير الماليّة السعوديّ، على منصّة منتدى دافوس في يناير 2023 ليُعلن بوضوح السياديّ الواثق: "نحن اليوم نعمل بطريقة مختلفة، لن نقدّم أيّ دعم أو مساعدة دون أن نرى إصلاحات جدّيّة يتمّ إجراؤها"، انفجرت مراجل الغضب المصريّ. كيف يُشترط على أحفاد الفراعنة؟ لكنّ الجدعان لم يقل إلاّ ما يقوله أيّ عاقل: المال ليس عاطفة بل استثمار، ليس صدقة بل شراكة. من يريد الدعم فليُثبت أنّه يستحقّه، لا بالتاريخ المجيد بل بالإصلاح الجديد.
إنّ البنية الإخوانيّة في تفكير عسكر لم تُغادره قطّ، بل أعادت تشكيل نفسها بأدوات يساريّة وقوميّة. من يرى أنّ منبره الحاليّ يختلف عن منبر المرشد، فليتمعّن في أدواته: تخوين، تقسيم، احتكار للوعي. كان المرشد يقول: "من ليس معنا فهو ضدّنا"، واليوم يقول عسكر الشيء ذاته بلغة التقدّم. كان سيّد قطب يُقسّم العالم إلى "جاهليّة وإسلام"، وعسكر يُقسّمه إلى "تخلّف وتنوير". المحتسب القديم صار محتسباً جديداً، استبدل العمامة بقبّعة جان جاك روسو، لكنّه احتفظ بعقلية لاتعرف من الألوان إلا الأبيض والأسود. هذا التحوّل الظاهريّ يُخفي ثباتاً جوهريّاً: عقليّة الوصاية، منطق الإقصاء، وهوس التصنيف.
والأكثر فضائحيّة وصفه السعوديّين بـ"البدو"، مُستنداً إلى ما يسمّيه "ثقافة سلفية محافظة، ترى في الفن نوعًا من الانحلال". لكنّ هؤلاء "البدو"، يا صاحب الذاكرة المثقوبة، هم من حرّروا مصر من قيصر بيزنطة، ونقلوها من ولاية هامشيّة إلى دولة عربية وإسلامية. هم من دعموا عبد الناصر في الخرطوم بلا شروط بعد أن حطّمته إسرائيل ومرغت بأنفه كل تراب الأرض. هم من موّلوا حرب أكتوبر حين كانت الخزائن المصريّة أخفّ من ضمائر مراكز القوى. واليوم، هؤلاء "البدو" يقودون تحوّلاً حضاريّاً يُدرّس في الجامعات، بينما "الحضاريّون" في مصر يُدرّسون كيفيّة نهب المليارات.
إنّ عسكر، في تحليله هذا، لا يُحلّل بقدر ما يرثي. يرثي زمناً كانت فيه القاهرة تُملي وضحايا الشعارات يهتفون، كانت مصر تقود والخليج يحذر من الوهم. لكنّ العالم تغيّر، والأدوار تبدّلت، ومصر التي ترفض الاعتراف بالواقع الجديد تُشبه مُحدث النعمة المُفلس الذي ما زال ينتظر من الناس تقبيل يده. السعوديّة اليوم لا تحتاج دروساً من أحد في كيفيّة استثمار أموالها، خصوصاً من بلد حوّل الاستثمار إلى مغامرة انتحاريّة.
والحال أنّ العلاقات بين الدول لا تُدار بمنطق "أعطيني وما تسألش"، كما في موالد القرى وأفراحها. الدول تتحرّك وفق المصالح لا العواطف، والاستراتيجيّات لا الذكريات. عندما تستثمر السعوديّة مع أميركا في مشاريع المستقبل، فهي لا تخون أحداً بل تخدم شعبها. أمّا من يريد أن يعيش على صدقات الماضي، فسيجد نفسه وحيداً في متحف التاريخ.
سامح عسكر، في النهاية، مرآة لأزمة أعمق: أزمة مثقّف لم يتحرّر من سجنه الأوّل إلاّ ليدخل سجناً آخر. غادر عباءة المرشد ليرتدي عباءة عبد الناصر البالية. ترك منبر المسجد ليصعد منبر الفضائيّة. بدّل القاموس لكنّه احتفظ بالقواعد: أنا أعرف وأنتم تجهلون، أنا أرى وأنتم عميان، أنا الحضارة وأنتم البداوة.
فإذا كان السؤال الحقيقيّ: لماذا تتدفّق الاستثمارات إلى السعوديّة وتهرب من مصر؟ فالجواب ليس في خيانة مزعومة أو مؤامرة متخيّلة، بل في المرآة: دولة تحترم المستثمر مقابل دولة تحتقره، دولة تبني المستقبل مقابل دولة تعيش في الماضي، دولة تعرف قيمة المال مقابل دولة تظنّه حقّاً مكتسباً بالولادة. والأهمّ: دولة تملك مشروعاً واضحاً للغد، مقابل دولة لا تملك سوى أطلال الأمس.
السؤال إذن ليس: لماذا لا يستثمرون في مصر؟ بل: ما الذي تملكه مصر اليوم يستحقّ الاستثمار، غير تُحف مهربة تباع في المزاد، وكبرياء مجروح يبحث عن كبش فداء؟