تخيل معي، عزيزي القارئ، أنك تجلس في أحد المقاهي الفاخرة في البجيري، تحتسي قهوتك المفضلة وتتصفح هاتفك الذكي. فجأة، تجد نفسك عاجزًا عن الوصول إلى يوتيوب. هل هذا سيناريو من نسج الخيال؟ قد تعتقد ذلك، لكن دعني أخبرك أن هذا بالضبط ما يحدث الآن في روسيا، حيث بدأت السلطات في خنق سرعة الوصول إلى يوتيوب بنسبة قد تصل إلى 70% بحلول نهاية الأسبوع المقبل.
هذا الخبر، الذي قد يبدو بعيدًا عن واقعنا في المملكة العربية السعودية، يفتح الباب على مصراعيه لتساؤل جوهري: هل نحن مستعدون لمثل هذا السيناريو؟ وهل لدينا البدائل المحلية التي تضمن استمرارية تدفق المعلومات والترفيه لمواطنينا في حال حدوث أزمة مماثلة؟
لكن قبل أن نغوص في الإجابة، دعونا نتوقف للحظة لنفهم الدوافع وراء مثل هذه القرارات: يقول ألكسندر خينشتاين، رئيس لجنة التكنولوجيا في مجلس الدوما الروسي: "كل ما يحدث هو نتيجة للسياسة المعادية لروسيا من قبل يوتيوب، الذي يحذف باستمرار قنوات شخصياتنا العامة ذات المواقف المختلفة عن وجهة النظر الغربية". هذا ليس مجرد تبرير فهناك حقًا تحيزًا واضحًا في إدارة اليوتيوب وغالبية المنصات الغربية بعد حروب روسيا وأوكرانيا، فمن يدافع عن روسيا وموقفها مصيره الحجب كائنًا من يكون.
لننتقل الآن إلى الصين، تلك الدولة العملاقة التي استطاعت أن تبني سورًا رقميًا عظيمًا يحمي مواطنيها مما يسمونه "التلوث المعلوماتي" الغربي. فبدلاً من يوتيوب، لدى الصينيين "يوكو" و"آي تشي". وعوضًا عن فيسبوك وتويتر، لديهم "ويبو" و"رينرين". لكن الأكثر إثارة للإعجاب هو تطبيق "وي تشات"، ذلك السكين السويسري الرقمي الذي يجمع بين خصائص واتساب وفيسبوك وباي بال وأوبر في تطبيق واحد.
في بكين، يرون أن المنصات الغربية هي أدوات ناعمة للهيمنة الثقافية والسياسية. يتساءلون: "لماذا نسمح لشركات أجنبية بالسيطرة على فضائنا المعلوماتي؟ لماذا نترك بياناتنا الوطنية الثمينة تتدفق إلى خوادم خارج حدودنا؟"
هذه التساؤلات تقودنا مباشرة إلى واقعنا في المملكة العربية السعودية. هل سألت نفسك يومًا عن حجم البيانات التي ننتجها يوميًا ونرسلها إلى خوادم في الخارج؟ تخيل معي أن كل تغريدة، كل مقطع فيديو، كل صورة نشاركها عبر المنصات الاجتماعية هي بمثابة قطرة نفط رقمية نصدرها مجانًا إلى الخارج. هل هذا يبدو لك منطقيًا في عصر أصبحت فيه البيانات أثمن من النفط؟
لنتحدث عن الأمن القومي للحظة. في عالم أصبحت فيه الحروب تُشن بالبتات والبايتات قبل الرصاص والصواريخ، هل يمكننا حقًا الاعتماد على منصات أجنبية لتخزين تواصلاتنا ومشاركاتنا واستضافة بياناتنا؟ ألا يشكل هذا ثغرة أمنية هائلة يمكن استغلالها في أي لحظة؟
ثم لنفكر في الجانب الثقافي والديني. كيف يمكننا ضمان حماية قيمنا وتقاليدنا في ظل خوارزميات يسارية متطرفة مصممة في وادي السيليكون، بعيدًا كل البعد عن واقعنا وتطلعاتنا؟ ألا نحتاج إلى منصات تفهم خوارزمياتها خصوصية مجتمعنا وتحترم ثوابتنا الدينية والأخلاقية؟
قد يقول البعض إن إنشاء بدائل محلية لعمالقة التكنولوجيا العالميين هو ضرب من الخيال. لكن دعوني أذكركم بتجربة تطبيق "جاكو" السعودي. هذا التطبيق، بما يمتلكه من إمكانيات، أصبح بالفعل نواة لما يمكن أن نسميه "تيك توك السعودية". فما الذي يمنعنا من تطوير هذا التطبيق وغيره، وبدء مشروع وطني بكل ما نملك من موارد وخبرات، لصناعة منصات وطنية تضاهي نظيراتها العالمية؟
تخيل معي لحظة أن لدينا "يوتيوب سعودي" يحتضن إبداعات شبابنا، ويروج لثقافتنا، ويحفظ تراثنا، ويدعم اقتصادنا الرقمي. تخيل أن لدينا منصة تواصل اجتماعي سعودية تفهم لهجاتنا المحلية، وتحترم خصوصياتنا، وتعزز هويتنا الوطنية.
بل دعنا نذهب أبعد من ذلك. تخيل معي لو كان لدينا "وي تشات سعودي". تطبيق يفهم لهجاتنا المحلية، ويحترم قيمنا الدينية، ويدعم اقتصادنا المحلي. تطبيق يمكنك من خلاله التبرع للجمعيات الخيرية المحلية، وحجز موعد في إحدى الدوائر الحكومية، وشراء منتجات من الحرفيين السعوديين. أليس هذا حلمًا يستحق السعي لتحقيقه؟ تخيل لو تم دمج "توكلنا خدمات" ب "أبشر" بتطبيقات التوصيل السريع كبداية فقط؟
لكن السؤال الأهم: هل نحن مستعدون لمثل هذا التحدي؟ هل لدينا الإرادة السياسية والرؤية الاستراتيجية لبناء بنية تحتية رقمية وطنية متكاملة؟
الإجابة، في رأيي، هي نعم بكل تأكيد. فنحن نمتلك الموارد المالية، والكفاءات البشرية، والرؤية الطموحة التي تجسدها رؤية 2030. كل ما نحتاجه هو قرار جريء وخطة عمل واضحة. لنبدأ بتشجيع الابتكار المحلي في مجال التكنولوجيا. لنستثمر في تدريب كوادرنا الوطنية على أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات. لننشئ مراكز بحث وتطوير تركز على تصميم منصات اجتماعية تلبي احتياجاتنا المحلية والإقليمية.
في الوقت نفسه، علينا أن نعمل على تطوير إطار تشريعي متكامل يضمن حماية البيانات الشخصية ويعزز السيادة الرقمية للمملكة. فلا يعقل أن نترك ثروتنا الرقمية عرضة للنهب والاستغلال من قبل الشركات العابرة للقارات.
قد يقول البعض إن هذا سيعزلنا عن العالم. وأقول لهم: بل على العكس تمامًا. فبناء قدرات رقمية وطنية سيجعلنا شريكًا قويًا وندًا حقيقيًا في الساحة التكنولوجية العالمية. سنكون قادرين على التفاوض من موقع قوة، وليس كمستهلكين سلبيين لتكنولوجيا الآخرين. سنجبر يوتيوب وأخواتها أن تخزن بياناتنا في بلدنا، سنجبرها على أن تتبنى خوارزميات تتسق مع نظامنا.
في النهاية، دعونا نتذكر أن الأمم العظيمة هي التي تصنع مستقبلها بيدها، وليست تلك التي تنتظر ما يجود به الآخرون عليها. فهل نحن مستعدون لصناعة مستقبلنا الرقمي؟ هل نحن جاهزون لبناء "وادي سيليكون سعودي" يكون منارة للإبداع التكنولوجي في المنطقة والعالم؟
الإجابة على هذه الأسئلة ليست في يدي أنا أو أنت فقط، بل هي مسؤولية وطنية تقع على عاتقنا جميعًا. فلنبدأ اليوم في التفكير جديًا في بناء بدائلنا الرقمية الوطنية. فلنجعل من فكرة بناء سوبر آب سعودي هدفًا وطنيًا. فلنعمل جميعا على جعل "جاكو" وغيره من التطبيقات السعودية الواعدة نواة لنهضة تكنولوجية شاملة، فإذا لم نستفد مما حصل في روسيا وأخذنا العبرة من ذلك فمتى سنفعل؟ هل ننتظر للحظة صدام محتملة بأي وقت في هذا العالم المجنون لنجد أنفسنا في ذات الموقف الروسي اليوم؟
وحتى ذلك الحين، دعونا نكون أكثر وعيًا بقيمة بياناتنا وأهمية حمايتها. فكل نقرة، كل مشاركة، كل تعليق هو جزء من هويتنا الرقمية التي يجب أن نحرص عليها كما نحرص على هويتنا الوطنية. في نهاية المطاف، الأمر لا يتعلق بالانعزال عن العالم. بل يتعلق بالمشاركة في العالم الرقمي بشروطنا الخاصة، وبما يتناسب مع قيمنا وتطلعاتنا. إنه يتعلق ببناء قدراتنا الرقمية الوطنية لنكون شركاء حقيقيين في العصر الرقمي، وليس مجرد مستهلكين سلبيين.
أترككم مع هذا السؤال: هل ستكون أنت جزءًا من صناعة المستقبل الرقمي للمملكة، أم ستكتفي بدور المتفرج؟ الخيار لك، والمستقبل ينتظر. فهل تطالب معي بالبدء في هذه الرحلة نحو #سيادة_رقمية_سعودية ؟
للتوضيح بخصوص الصورة المولدة بال Ai: الفكرة منها ان لدينا خيارين خيار على يمين الصورة وهو الخيار الوطني واللون الاحمر خطأ ان يكون بها. والخيار الذي على اليسار هو خيار الاستمرار بالاعتماد على المنتجات الغربية وما تمثله من قيم. أعتذر عن أي لبس فقد قمت بتوليد الصورة على عجالة.