28 يونيو 2025

من كربلاء إلى بغداد إلى "البيجر" إلى طهران: حين يتشيّع تميم البرغوثي على جثث 188 ألف غزّي

 من نائحة في بلاط الملالي إلى شاعر يخطّ دمه بقلم الطائفية
لئن كان تميم البرغوثي يبحث عن "بساط أبي العباس" في جثامين شهداء غزة، فثمّة من يرى في هذا البحث المحموم محاولة يائسة لإنقاذ جثة محور الممانعة المتعفنة، تلك الجثة التي دُفنت مع حسن نصر الله بعد ضربة البيجر، وهربت مع بشار الأسد إلى موسكو، واحترقت في المنشآت والمطارات العسكرية والمفاعلات النووية الإيرانية.
يبدأ شاعر البلاط الخراساني بتحذير وقائي مطوّل - "أرجو أن لا يعتبر أنصار الحكومة السورية الحالية ما سأقوله تعليقاً عليهم… فهو ليس تعليقاً عليهم ولا على رئيسهم …" - وهذا الإنكار المُلحّ، كمن يصرخ "لست خائفاً" والعرق يتصبب من جبينه، يستحضر بقوة ما ينفيه. إنها الرقابة الذاتية الاستباقية لمن يعرف أن زمن الأكاذيب انتهى، وأن الشام الجديدة لم تعد تحتمل تجار الدم من شعراء الممانعة الكاذبة. صاحبنا يمارس هنا ما يمكن تسميته "تقنيات الخوف"؛ فيُعرّف نفسه من خلال ما لا يريد أن يكونه، مُنتجاً ذاتاً خطابية مرتعبة من سلطة جديدة لا تحتمل النفاق.
والحال أن استحضاره لكربلاء ليس بريئاً معرفياً. فمادح نصر الله لا يصف التاريخ، بل يُنتج "حقيقة" تخدم ترتيبات السلطة الصفوية المجروحة الحالية. السؤال ليس ما حدث في #كربلاء قبل أربعة عشر قرناً، بل من يملك اليوم سلطة تأويلها وتوظيفها؟ ولماذا تُستحضر كربلاء في #غزة بينما تُنسى في حلب -مثلاً- حيث قُتل مئات الآلاف باسم "الثأر للحسين"؟
وإذا كان ثمّة شك في طائفية المتشيّع المُقنَّع وولائه الصفوي، فقد أزاله هو بنفسه حين وقف في بغداد ليشتم الأمويين صراحة: "ودهرُه أمويٌّ ما له شرف"! وحين جعل "الحسين عراقٌ حلّ في جسد" و"العراق حسينٌ آخر الأبد". هنا سقط القناع نهائياً عن شاعر يُعيد إنتاج الرواية الصفوية التي تحوّل التاريخ الإسلامي إلى ثأر طائفي أبدي، متجاهلاً أن قتلة أهل السُنة في العراق وسوريا ولبنان واليمن هم من يرفعون شعار "يا لثارات الحسين".
ذاك أن شتم الأمويين ليس زلّة لسان بل موقف عقائدي متأصل. فالدولة الأموية التي نشرت الإسلام من الصين إلى الأندلس، والتي حكمها صحابيٌ جليل هو معاوية رضي الله عنه، تُختزل في رواية تاجر كربلاء الجديد إلى "دهر بلا شرف". لكنه، كأي متشيّع مُقنَّع، يمارس لعبة التخفّي؛ يدّعي أن الكلام على لسان زينب، بينما القصيدة كلها تقطر بالحقد الصفوي على بني أمية.
يلوح أن صاحب بساط الوهم، في استحضاره المحموم لـ"بساط أبي العباس"، ينسى أو يتناسى أن هذا البساط كان خراسانياً بامتياز، نُسج في خراسان وحُمله أبو مسلم الخراساني الذي قاد الجيوش السوداء لإبادة بني أمية وسطوة العرب. السفّاح نفسه كان أداة إبادة جماعية، حتى أن خليفته المنصور قتل أبا مسلم خوفاً من قلب نظام الحكم الإسلامي إلى كسروي فارسي. أهذا هو "النصر" الذي يبشّر به من يدّعي الإنسانية؟ أم أن الدماء حلال حين تُراق -زورًا- باسم "آل البيت"؟
ثمّة في لغة المروّج للكربلائية السياسية ما يفضح تشبّعه بخطاب الممانعة الإيراني حتى النخاع. فهو يقسم العالم إلى معسكرين: "قوانين السياسة الدنيوية المحضة المادية" (الغرب والعرب "الخونة") مقابل المعسكر الروحاني المقدس (محور إيران وميلشياتها "المقاومة"). هذه الثنائية الهرمية التي تضع الروحاني فوق المادي، والممانع فوق المعتدل، تنقلب على نفسها حين نرى أن "الروحانيين" قتلوا من المسلمين أهل السنة والجماعة أكثر مما قتلت إسرائيل في تاريخها.
والمفارقة التاريخية الساحقة أن البرغوثي يستحضر انتصار العباسيين الخراساني كنموذج للنصر القادم، بينما اليوم أحمد الشرع - السُنّي الذي كان يُتهم بالتطرف - ينتصر على الصفويين الجدد ويحكم دمشق بدعم سعودي! فأين بساط أبي العباس؟ إنه يُنسج اليوم في الشام المحررة من الطائفية، لا في طهران المهزومة.
أغلب الظن أن عبارته: "قانون الطبيعة يقول إننا منتصرون" تكشف عن محاولة يائسة لتحويل الهزيمة إلى قدر محتوم. وكأن الله تعالى لم يقل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}. فأي تغيير ينتظره من يُقدّس الموت ويُحوّل الهزيمة إلى قدر محتوم؟ قانون الطبيعة الحقيقي أثبت العكس: أكثر من 188,000 بين شهيد وجريح في غزة -بسبب توجيهات المرشد الصفوي- مقابل صفر إنجازات للمحور. حسن نصر الله قُتل مع الآلاف من قياداته وجنده، الأسد هرب إلى موسكو، إيران تلقّت الغارات العسكرية الدقيقة ودُمّر مشروعها النووي بشكل شبه كامل، إسماعيل هنية اغتيل في طهران. أين "النصر" في كل هذا؟
بيد أن الأخطر في نص شاعر الموت هو تطبيعه مع الإبادة. فهو يرى "ظل بساط أبي العباس يرفرف على مصارع الشهداء" كـ"نبوءة" و"مستقبل أكيد". هذا التحويل للموت إلى "استثمار" مضمون العائد يكشف عن جوهر أيديولوجيا الممانعة: تأجيل الحياة انتظاراً لموت مجيد لن يأتي. النصر دائماً "قريب" لكنه مُرجأ أبداً: كالمهدي المنتظر في قم، أو كبساط السفاح الموهوم.
والحال أن استحضاره لـ"اقتربت الساعة وانشق القمر" ليس بريئاً. فالرجل يمارس هنا ما يمكن تسميته "تقديس العنف"؛ أي تحويل رؤية سياسية فاشلة إلى قدر إلهي محتوم. لكن هذا "القدر" انكشف زيفه: الساعة لم تقترب، والقمر لم ينشق، وإنما انشقت جماجم أهلنا بغزة بينما كان شعراء الممانعة يتغنون بالنصر الموهوم من قصورهم الآمنة.
يتحدث مُنظّر الهزيمة عن حكام "يفضلون غريزة حب البقاء الفردي" ويعرّض بحكام الخليج ومصر. لكنه يتجاهل أن قادة محوره هم الأكثر تشبثاً بالحياة: نصر الله عاش مختبئاً 18 عاماً قبل أن تصل إليه يد #إسرائيل، وقد كانت قادرة للوصول إليه وغيره قبلها كما يعلم ونعلم، والأسد هرب تاركاً شعبه، وهنية - قبل هلاكه بطهران- كان يتنعّم في فنادق الدوحة بينما أهل غزة يُبادون. أما السعودية فتبني نيوم، والإمارات تخطط لإطلاق مسابر للمريخ، ومصر تبني العاصمة الإدارية الجديدة. فمن يبني حياة شعبه ورفاهيته ومن يعشق الموت لهم وهو يشرب الكونياك والسيجار الفاخر في أفخم الفنادق؟
لعل أبلغ ما في نص الشاعر الطائفي ليس ما يقوله بل ما يصمت عنه. الصمت المطبق عن مئات آلاف ضحايا محور الممانعة في #سوريا والعراق ولبنان واليمن. هذا الصمت البنيوي ليس نسياناً بل اختياراً: فالضحايا السُنّة لا يستحقون الذكر في معادلة كربلائية لا ترى إلا "حسيناً مظلوماً" و"يزيد ظالماً". من كتب مرثية للسنوار لم يكتب بيتاً واحداً لمئات آلاف الشهداء السوريين. لماذا؟ لأنهم ماتوا على يد "الممانعة" لا على يد إسرائيل.
راهناً، وبعد انهيار المحور بالكامل، يحاول صاحبنا إنقاذ ما لا يمكن إنقاذه وفتح باب للتراجع. لكن الأرقام لا تكذب: حرب الـ12 يوماً بين #إيران وإسرائيل انتهت بـ30 قائداً إيرانياً قتيلاً و11 عالماً نووياً وضربات عسكرية أرحعت قدراتها لسنوات طوال عجاف، مقابل ضربات على مباني مدنية و"ضربة مسرحية" على قاعدة العديد.
#أحمد_الشرع (الجولاني) يحكم دمشق بدعم سعودي، والمشروع النووي الإيراني تأخر سنتين على الأقل. أين بساط أبي العباس المزعوم في كل هذا؟
إن دعوة المتاجر بالدم لـ"خوض الحرب معاً" تكشف عن منطق السلطة الرعوية - سلطة الراعي الصفوي التي تطالب القطيع بالطاعة مقابل وعد بالخلاص- لكن هذا الراعي أثبت أنه ذئب: قاد القطيع إلى المذبحة ثم هرب. والخلاص الموعود؟ قرابة مئتي ألف ضحية في غزة، وملايين المشردين في سوريا، واقتصاد لبنان المنهار، واليمن المدمّر. هذا هو "بساط أبي العباس" الحقيقي، بساط منسوج من دماء الأبرياء.
ولعل الأوان قد حان لإعادة كتابة كربلاء بعيداً عن أكاذيب الصفويين. فالحسين رضي الله عنه لو عاش اليوم لكان مع أهل الموصل والأنبار ضد الحشد الشعبي، مع أطفال حلب ضد براميل الأسد، مع نساء الغوطة ضد مغتصبي النظام العلوي الطائفي. الحسين في زماننا هو ذلك الشاب السُنّي الذي قاوم المشروع الصفوي في الفلوجة ودير الزور، ثم سقط شهيداً دون أن يكتب فيه تاجر القضية حرفاً واحداً.
أما غزة، فهي ضحية مزدوجة: ضحية الاحتلال الصهيوني، وضحية تجّار قضيتها من أمثال صاحبنا ومحوره. غزة التي دُمّر 85% من بنيتها التحتية، والتي فقدت أكثر من 188,000 من أبنائها بين شهيد وجريح، لا تحتاج قصائد رثاء بل إعادة إعمار. لا تحتاج "بساط أبي العباس" بل مدارس ومستشفيات. لا تحتاج شعراء يتاجرون بدمائها بل قادة يبنون مستقبلها.
وإذا كان لا بد من استحضار العباسيين، فالعباس الحقيقي اليوم ليس السفّاح الدموي، بل ذلك الجندي المجهول الذي قاتل الاحتلال الإيراني ومات صامتاً، أو ذلك الطفل الذي قضى تحت أنقاض منزله في غزة بينما كان شاعر البلاط يبحث عن قوافي لقصائده. هؤلاء هم الأبطال الحقيقيون، لا مدّاحو الطغاة الذين يحوّلون الموت إلى تجارة والدم إلى حبر.
شاعر كان يمكن أن يكون امتداداً للمتنبي، اختار أن يكون نائحة في بلاط الملالي. كان يمكن أن يكون صوت الأمة، فاختار أن يكون بوق الطائفة. كان يمكن أن يُخلّد بقصائد تبني الحياة، فاختار أن يُذكر كتاجر موت باع فلسطين بثمن بخس من طهران.
يبقى أن نكشف بجلاء: بساط أبي العباس احترق فعلاً، لكن ليس كما يتوهم المتشيّع المُقنَّع. احترق مع جثة نصر الله في مخبئه، وتمزّق مع هروب الأسد، وتبخّر مع دخان المفاعلات الإيرانية المدمّرة. البساط الحقيقي اليوم يُنسج في نيوم لا في طهران، في مختبرات الإمارات لا في أقبية الضاحية، في ورش إعمار سوريا الحرة لا في قصائد الموت الصفوية.
وإن كان من درس أخير، فهو أن الله نصر عباده السُنّة في #الشام حين أخذوا بالأسباب وقاتلوا الطغاة، بينما خذل من اتكأ على أوهام الممانعة وباع القضية بثمن بخس، دراهم معدودة من #طهران. فلعل في ذلك عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
أما صاحبنا، فليبقَ يبحث عن بساط السفّاح في مخيلته المريضة. نحن مشغولون ببناء المستقبل، بعيداً عن ثارات كربلاء المزيّفة وأوهام الممانعة المحترقة. ولعل من المفارقات أن من يتغنى بـ"جمال لسان العرب" يستخدم هذا اللسان العظيم - لسان المتنبي والمعري - في تمجيد القتلة وتبرير المجازر. هذه اللغة التي أنتجت "رسالة الغفران" تستحق أفضل من أن تُحوّل إلى نواح دائم على أوهام ميتة.
راهناً، وقد سقطت كل الأقنعة، لم يعد أمام تاجر الدم إلا خياران: إما الاعتراف بأنه كان بوقاً لمشروع طائفي قتل من العرب أكثر مما قتلت إسرائيل، وإما الاستمرار في البكاء على أطلال محور لن يعود. وفي الحالتين، التاريخ لن يرحم من تاجر بدماء الشعوب وحوّل آلامها إلى قصائد مأجورة في بلاط الطغاة.
وسيبقى التاريخ يذكر: في الوقت الذي كان فيه تميم #البرغوثي يبحث عن بساط أبي العباس في دفاتر التاريخ، كان 188,000 غزّي يُدفنون تحت أنقاض أوهامه الصفوية. هذا هو إرثه الحقيقي: شاعر خان القضية مرتين: مرة حين باعها للصفويين، ومرة حين استخدم دماءها حبراً لقصائده المأجورة.

12 دقيقة قراءة

الكاتب

اينشتاين السعودي

@SaudiEinestine

مشاركة المقالة عبر

Leaving SaudiEinstein Your about to visit the following url Invalid URL

Loading...
تعليقات


Comment created and will be displayed once approved.

مقالات مقترحة

جميع المقالات

© جميع الحقوق محفوظة ٢٠٢٤