من لسان العرب إلى لسان الترند: سقوط الحضارة في ثوانٍ
في زمن "إنستغرام" و"تيك توك" و"سناب شات"، يبدو أنّ الكتاب قد أصبح أثرًا بعد عين. أمّا العقل العربيّ، فيلوح كما لو أنّه يتحوّل، بسرعة البرق، إلى مجرّد متلقٍّ سلبيّ لأجندات يسارية متطرفة مغلّفة بصور براقة وفيديوهات قصيرة. هل نحن إزاء ثورة رقميّة أم انتحار حضاريّ مبرمج؟
لنتأمّل للحظة في هذه المفارقة الصارخة: بينما تتسابق الدول المتقدّمة على تطوير مناهج تعليميّة تعزّز مهارات التفكير النقديّ، نجد شبابنا العربيّ غارقًا في بحر من المحتوى المشبع بأفكار راديكالية يسارية متطرفة وبشعة تقوّض القيم التقليدية والهوية الثقافية. فها هو "إنستغرام" يتصدّر قائمة التطبيقات الأكثر تحميلًا في العالم بـ166 مليون تحميل في الربع الأول من 2024 وحده، يليه "تيك توك" بـ137 مليون تحميل. وكأنّ التاريخ يعيد نفسه بصورة أكثر مأساويّة: فما عجزت عنه الحروب الثقافية التقليدية، تنجح فيه اليوم خوارزميات تطبيقات "ذكيّة" تحت غطاء الحرّية والتواصل.
وهنا، دعونا نتوقف لحظة لنتأمل بسخرية مرة هذا المشهد السوريالي: العقل الذي شكّله الكتاب، ذاك الذي أنتج أمثال الجابري وأدونيس وإدوارد سعيد، يُحتضر اليوم أمام أعيننا. وفي المقابل، يولد أمامنا "العقل التيك توكي"، ذاك الكائن العجيب القادر على استهلاك آلاف المقاطع في اليوم دون أن يحتفظ بفكرة واحدة. لعلّ الجابري، لو كان بيننا اليوم، لكتب "نقد العقل التيك توكي" بدلاً من "نقد العقل العربي". أما أدونيس، فربما كان سيرثي حال الشعر العربي في عصر الهاشتاغ والايموجي. وماذا عن إدوارد سعيد؟ هل كان سيكتب عن "الاستشراق الرقمي" وكيف تُعاد صياغة الشرق في مخيلة الغرب عبر خوارزميات التواصل الاجتماعي؟
ولنضف إلى هذه القائمة المفكر المغربي عبد الله العروي، الذي حذّر منذ عقود من "أزمة المثقفين العرب". ها هو اليوم يشهد تحقق نبوءته بأبشع صورها: أزمة مثقف عربي لم يعد له وجود في عالم أصبح فيه "المؤثر" على سناب شات هو المثقف الجديد لجيل بأكمله. أو الفيلسوف المصري حسن حنفي، صاحب مشروع "التراث والتجديد"، كيف كان سيقيّم "تجديداً" يتم عبر تطبيقات تمحو الذاكرة الثقافية بدلاً من إحيائها؟
بيد أنّ المشكلة أعمق من مجرّد انتشار تطبيقات. ذاك أنّ ما نشهده هو حرب خفية على القيم والهويات، تقودها خوارزميات مبرمجة لترويج أجندات يسارية متطرفة. وهنا يجدر بنا التوقف عند الفارق الصارخ بين "دويين" الصيني و"تيك توك" العالمي. فـ"دويين"، النسخة الصينية من التطبيق، يخضع لضوابط صارمة تهدف لحماية الشباب وتعزيز القيم الوطنية. على سبيل المثال، يقيّد التطبيق استخدام الأطفال دون 14 عامًا لـ40 دقيقة يوميًا فقط، مع حظر الوصول بين الساعة 10 مساءً و6 صباحًا. الأهم من ذلك، أن المحتوى المقدّم يركز على التعليم والثقافة، مع دفع المواد العلمية والتاريخية للواجهة.
في المقابل، نجد "تيك توك" العالمي - وكذلك "إنستغرام" و"سناب شات" - يغرق مستخدميه، وخاصة في الغرب والعالم العربي، بسيل لا ينتهي من المحتوى المروّج لأفكار تقوّض الأسرة التقليدية، وتشكك في الهويات الوطنية، وتدعم حركات اجتماعية راديكالية. وكأنّ هناك مخططًا واعيًا لتدمير النسيج الاجتماعي والثقافي من الداخل، بينما تحصّن الصين شعبها من هذا الخطر.
والمفارقة المثيرة هنا هي مصلحة الصين في انتشار هذه التطبيقات عالميًا، رغم تقييدها محليًا. فبينما تحمي بكين شبابها، تستفيد اقتصاديًا وجيوسياسيًا من إضعاف منافسيها الغربيين وحلفائهم عبر هذه الأدوات الناعمة. إنها استراتيجية ذكية تجمع بين الحماية الداخلية والتوسع الخارجي.
والحال أنّ تراجع القراءة في العالم العربيّ ليس ظاهرة جديدة. لكنّ ما يجعل الوضع اليوم أكثر خطورة هو اقترانه بهذا الغزو الأيديولوجي المنظم. فإذا كانت القراءة تبني عقولًا ناقدة قادرة على التمييز، فإنّ هذه التطبيقات تخلق أجيالًا مبرمجة على تبني أفكار غريبة عن مجتمعاتنا وقيمنا.
ولنتأمل في هذه الأرقام المفزعة: في السعودية، على سبيل المثال، يقضي المستخدمون ما يقارب 7 ساعات و9 دقائق يومياً على الإنترنت، معظمها على تطبيقات التواصل الاجتماعي. بل إنّ 76.5% من سكّان المملكة يستخدمون "سناب شات" وحده! في المقابل، تشهد مبيعات الكتب تراجعاً مستمراً. ولنقارن هذا بما كان عليه الحال قبل عقود: في الستينيات والسبعينيات، كانت المكتبات العامة في القاهرة وبيروت ودمشق تعج بالقراء. اليوم، تحولت هذه المدن إلى غابات من الهواتف الذكية، كل شاشة منها نافذة صغيرة على عالم ضحل من الترفيه السطحي.
ولا يقتصر الأمر على هذه التطبيقات فحسب. فها هو "تويتر"، منصة كانت تُعدّ يوماً منبراً للنقاش الفكري، تتحول إلى ساحة للتغريدات السطحية والآراء المتسرعة والبحث عن المتابعين بأي ثمن. والنتيجة؟ جيل كامل فقد القدرة على قراءة مقال مطوّل أو الانغماس في كتاب. بل إن الأمر وصل إلى حد عجز الكثيرين عن كتابة بضعة أسطر متماسكة. وكأننا أمام ظاهرة "ضمور عقلي" جماعي، حيث تتقلص قدرة الشباب على التركيز والتحليل المعمق لصالح الاستهلاك السريع للمعلومات السطحية.
وهكذا، نجد أنفسنا اليوم في مراسم دفن الكتاب العربي. تخيلوا معي هذا المشهد السوريالي: نعش كبير يحمل آخر نسخة مطبوعة من "لسان العرب" لابن منظور، يتبعه موكب حزين من الكتّاب والمفكرين، بينما يقف على الجانب جمهور من الشباب، كل منهم منهمك في تصوير المشهد لبثه مباشرة على "تيك توك" مع موسيقى راقصة في الخلفية. وفي الخلفية، نسمع صدى صوت طه حسين يردد: "مستقبل الثقافة في مصر"، لكن الصوت يتلاشى وسط ضجيج الإشعارات والتنبيهات من الهواتف المحمولة.
لكنّ الأمر الأكثر إثارة للقلق هو كيف أن خوارزميات هذه التطبيقات تعمل على إعادة تشكيل وعي مستخدميها وفق أجندات محددة. فهي لا تكتفي بتقديم محتوى سطحي فحسب، بل تعمل على ترسيخ أفكار تتعارض مع قيمنا الأصيلة وهويتنا الثقافية. والأدهى من ذلك أنّ المحتوى العربي على هذه المنصات ضئيل نسبيًا، ما يعني أنّ شبابنا يتعرّض لتأثيرات ثقافية غريبة بشكل متزايد.
في هذا السياق، يصبح دور المؤسسات التعليمية والثقافية أكثر أهمية من أي وقت مضى. فهل ستتمكن جامعاتنا ومراكزنا الثقافية من تطوير مناهج تجمع بين التراث والحداثة، وتعلّم أجيالنا كيفية التعامل النقدي مع التكنولوجيا؟ أم أننا سنكتفي بمشاهدة مراسم دفن ثقافتنا عبر بث مباشر على "فيسبوك لايف"؟
لعل الإجابة تكمن في قدرتنا على إحياء روح النقد والتفكير العميق التي ميزت أعلام فكرنا العربي، قبل أن يصبح "التفكير العميق" مجرد هاشتاغ عابر على منصات التواصل الاجتماعي. وإلا، فإن مستقبل الثقافة في عالمنا العربي قد يكون مجرد سلسلة من مقاطع "التيك توك" القصيرة، تروي قصة حضارة عريقة لم تعد تفهم نفسها.
8 دقيقة قراءة
الكاتب
اينشتاين السعودي
@SaudiEinestine
مشاركة المقالة عبر
Leaving SaudiEinsteinYour about to visit the following urlInvalid URL