الشركة المتحدة: الأخطبوط الذي خنق الفن وباع الكرامة
ثمّة في النكران الإنساني ما يفوق الخيانة بطولة؛ إذ الخائن، على الأقل، يعترف ضمناً بوجود ما يخونه، أما الناكر فيمحو الوجود نفسه، يُلغي التاريخ، يُعيد كتابة الذاكرة بحبر الحقد. والحال أنّ ما شهدناه من الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية - تلك الأخطبوط التي تمتد أذرعها من ضفاف النيل إلى كل شاشة ومنبر مصري - لم يكن مجرد نكران، بل صناعة متكاملة للكراهية، مؤسسة لتحويل الدم إلى تجارة والألم إلى سلعة؛ ذاك أنّ غزة، بكل ما فيها من مأساة حقيقية، صارت الذريعة الذهبية لتصفية حسابات مع من أطعم الجائع وأحيا الميت وفتح أبواب الرزق لآلاف كانوا على شفا العدم.
محمد سلام، ذلك الممثل الذي استيقظ ضميره في اللحظة الأخيرة تماماً - لا قبلها بيوم ولا بساعة - قدّم نموذجاً في التوقيت الانتهازي المحسوب؛ لم يكتشف أنّ غزة تُقصف وهو يُصوّر في الاستوديوهات، ولا وهو "يقبض" من منتجين يُطبّعون مع من يشاءون، بل اكتشفه فقط عندما حان موعد الطائرة إلى الرياض، "أنا حاسس لو عملت هكون زي اللي بيقتلهم"، عبارة تستحق أن تُدرّس في معاهد النفاق المتقدم، فأين كان هذا الإحساس المرهف عندما رقصت دبي؟ عندما غنّت بيروت؟ عندما احتفلت القاهرة نفسها في كل ليلة؟ يلوح أن الضمير المصري له بوصلة سعودية حصراً، تتحرك شرقًا فقط حيث النجاح والمال اللذان فقدتهما الشركة المتحدة إلى الأبد.
وإذ دافع بيومي فؤاد عن حقه البسيط في العمل - مجرد العمل! - انقضّت عليه قطعان التخوين المنظمة، الرجل الذي قال "لي الشرف إني جيت المملكة" تحوّل بقدرة قادر إلى خائن للقضية، عميل للصهيونية، بائع دم الشهداء، حتى مطعمه الصغير في حي شعبي لم يسلم من دعوات المقاطعة والتدمير؛ والحال أنّ الحملة لم تكن عفوية ولا شعبية، بل منظمة وممنهجة وموجّهة من غرف عمليات تعرف متى تضغط على الزناد الإلكتروني، ومتى تُطلق الكلاب على من تشاء.
بيد أنّ خيري رمضان قدّم المشهد الأكثر كوميدية في هذه المأساة، إذ استيقظ فجأة على "الغيرة الوطنية" عندما كُرّمت نجاة الصغيرة في الرياض، نجاة التي أهملتها مصر عقوداً طويلة حتى كادت تُنسى، لكن عندما احتفت بها السعودية وأعادت لها الاعتبار، صحا خيري من سباته ليكتشف أنّ التكريم يجب أن يكون في القاهرة فقط، وكأنّ الاحتفاء بالفن العربي يحتاج جواز سفر أو كأنّ التقدير له جنسية؛ راهناً، وبعد أن عرّاه الأمير عبدالرحمن بن مساعد بردّه الساخر اللاذع، مُذكّراً بمواقف المملكة التاريخية من العدوان الثلاثي إلى حرب أكتوبر، صمت خيري صمت العارف بحجم الفضيحة.
وفي خضم هذه المعركة الدائرة بين الحقيقة والتزييف، برز صوتان متناقضان تماماً: أنس الفقي، الوزير السابق ورجل المنظومة العتيق، الذي كتب ما يُشبه التحف الدبلوماسية، ثلاث قراءات “محتملة” لقرار تركي آل الشيخ، ثلاث احتمالات مُطهّرة من الدم والحقد والغدر، مُعقّمة كأنها تقرير لموظف في الأمم المتحدة يخشى أن يُغضب أحداً؛ الفقي الذي يعرف الحقيقة جيداً - والشركة المتحدة ليست سراً عليه - اختار أن يُغلّف السكين بالحرير، أن يُجمّل الجريمة بالكلمات المنمقة، أن يتحدث عن “تطور فني” و”رؤية جديدة” بينما الدماء تسيل والخناجر تُغرس؛ والحال أنّ هذا التجميل المقصود للقبح، هذا التبرير المتأنق للغدر، أشد خطراً من الغدر نفسه، لأنه يمنحه شرعية ويُلبسه ثوب العقلانية.
أنس الفقي لا يكتب ليشرح، بل ليخدّر. لا يحلل، بل يُخدر الوعي بسُمّ هادئ. رجل يُتقن دور الموظف النظيف، لكن قلمه مغموس في حبر الأجهزة، وجُمله تُخيط خطاب الدولة حين لا تجرؤ على المواجهة. صمته عن تسمية الجهة، رغم معرفته، جريمة. وتقديمه لثلاث فرضيات بلا روح… ليست محاولة للفهم بل مراوغة للهروب. أنس هو الوجه الليبرالي لمؤسسة تكتم الحقيقة، وترتدي ربطة عنق على رقبة مشنوقة.
في المقابل، وقف عمرو أديب - وهو ليس بالثوري المتمرد ولا بالمعارض المحترف - ليقول ما لا يستطيع قوله كاملاً: “لقد فاض الكيل”، “تعرض هذا المشروع الفني لأقذر هجوم”، “التنكيل بكل الفنانين المصريين وكأنهم يذهبون إلى تل أبيب”؛ ثم التفت إلى أنس الفقي وقال له بوضوح قاطع: “السبب واضح والشركة أنت تعرفها جيداً يا أنس”؛ نعم، الجميع يعرفها، "الشركة المتحدة"، لكن الفرق بين من يملك الشجاعة ليُسمّي الأشياء بأسمائها، ومن يختار دفن رأسه في رمال الدبلوماسية الجوفاء؛ عمرو أديب، بكل ما له وما عليه، أنصف الحقيقة في لحظة نادرة، كشف المستور وفضح المؤامرة، بينما الفقي كان يُمارس رقصة التانغو مع الكذب.
لئن كان ثمة من يستحق الوقوف عنده طويلاً في هذه الملهاة المأساوية، فهو معالي المستشار تركي آل الشيخ، رئيس هيئة الترفيه، الرجل الذي فتح قلب المملكة وخزائنها للفن المصري، الذي أعاد الحياة لصناعة كانت تحتضر، الذي عامل الضيوف كأمراء في زمن كانوا يُعاملون فيه كمتسولين في بلدهم، هذا الرجل تحمّل من الطعنات والإهانات ما يكفي لإشعال حروب، “الأدوات نفسها، والصحف نفسها، والأشخاص أنفسهم” قالها وهو يعرف تماماً من يقصد، الشركة المتحدة ومن يدور في فلكها من أبواق وأقلام مأجورة؛ لكنه صبر، صبر أكثر مما ينبغي ربما، حتى جاءت لحظة الحقيقة: موسم سعودي خليجي شامي، نقطة على السطر.
أغلب الظنّ أنّ الصدمة الحقيقية للشركة المتحدة ومن خلفها لم تكن في القرار نفسه، بل في اكتشاف حقيقة كانوا يتجاهلونها عمداً: أنّ جمهور موسم الرياض ليس جمهور "أم كلثوم" و"عبد الحليم"، ليس جمهور المسرحيات التي يحفظونها عن ظهر قلب؛ 80% من رواد الموسم من جيل Z وAlpha، شباب سعودي لا يفهمون اللهجة المصرية أصلاً، يظنونها لغة غريبة، ربما من كازاخستان أو سريلانكا، لا يميزون بين الجيم والغين، ولا بين القاف والهمزة المصرية؛ "فيصل العيسى" وأبطال "شباب البومب" أشهر عندهم من عادل إمام وأحمد حلمي ومحمد هنيدي وكل نجوم الزمن الجميل مجتمعين؛ الأغنية المصرية بالنسبة لهم أصوات غير مفهومة، يستمعون للخليجي والعالمي، وحتى الشامي يفضلونه لقربه من الفصحى التي تعلموها في المدارس؛ هذا الجيل لا يريد استعادة ماضٍ لا يعرفه، بل صناعة مستقبل يُشبهه، والشركة المتحدة بكل ثقلها الإعلامي ما زالت تعيش في زمن التلفزيون الأبيض والأسود، تحلم باحتكار انتهى منذ عقود، وهيمنة ثقافية ذابت مع ذوبان الحدود الرقمية.
والحال أنّ الفنانين المصريين الذين خسروا فرصة العمر هذا العام سيكتشفون أنّ الأمر لن يتوقف عند موسم واحد؛ فالجالية المصرية الضخمة في السعودية - مليونا مواطن يعملون ويعيشون بكرامة - سيدفعون ثمن هذه الحماقة الإعلامية، ناهيك أن الفعاليات المصرية الترفيهية بموسم الرياض كانت فرحتهم السنوية، وهم جمهورها الأساسي، ستزداد القيود، ستُشدد الضوابط، ستضيق الفرص، وسيتساءل كل سعودي: لماذا نُحسن إلى من يطعننا في الظهر؟ لماذا نفتح أبوابنا لمن يُحوّل كرمنا إلى مادة للسخرية والتشويه؟ ذاك أنّ الثقة المكسورة لا تُرمم بسهولة، والجسور المحروقة لا تُعاد بمجرد الندم المتأخر.
لعلّ السيسي - وهو رجل حكيم - يرى الكارثة التي صنعتها شركة واحدة بغرورها وحقدها وفسادها؛ يعرف أنّ العلاقة مع السعودية ليست مجرد موسم ترفيهي أو حفلات غنائية، بل شراكة مصير ووجود ومستقبل؛ يدرك أنّ الوقت قد حان لإعادة النظر في من يتحدث باسم مصر، من يُمثّل صورتها في الخارج، من يبني لها الجسور أو يهدمها؛ فالشركة التي حوّلت دماء غزة إلى تجارة، والألم الفلسطيني إلى بضاعة، والوطنية إلى ابتزاز رخيص، هذه الشركة لا تستحق أن تحتكر صوت أم الدنيا ولا أن تتحكم في مصائر أبنائها.
في النهاية، ما حدث ليس مجرد أزمة فنية عابرة، بل كشف حساب تاريخي لعقلية احتكارية متكلسة رأت في نجاح الآخرين إهانة شخصية، وفي كرمهم تهديداً وجودياً؛ السعودية ستمضي في طريقها نحو المستقبل، وموسم الرياض سيزدهر ويتطور بفنانين من كل العالم العربي ممن يُقدّرون الضيافة ويحترمون من يحترمهم؛ أما الذين راهنوا على الحقد وباعوا ضمائرهم في سوق النفاق، فقد خسروا كل شيء: الفرصة اليوم، والأمل غداً، والكرامة إلى الأبد؛ ولأنّ التاريخ لا يرحم الحمقى، فسيُسجّل أنّ شركة إعلامية واحدة، بجشعها الأعمى وحسدها المرضي، دمّرت جسراً بناه الأجداد بالعرق والدم، وأنّ جيلاً كاملاً من الفنانين دفع ثمن لعبة قذرة لم يكونوا طرفاً فيها؛ هكذا، ببساطة مُرّة، انتهت حقبة وبدأت أخرى: حقبة بلا ابتزاز عاطفي، بلا دموع كاذبة، بلا تجارة بالمآسي… حقبة يكون فيها الفن جسراً لا خنجراً، والكرامة قيمة لا سلعة.
—
صورة مع التحية للضباط:
رشاد، محسن، ابوزيد، شعبان، و م