قبل أيام كنت في أحد الفنادق أقلب بين القنوات الفضائية، وإذا بي أصادف خبرًا منقولًا من قناة i24NEWS الإسرائيلية عن تصريح نتنياهو عن "إسرائيل الكبرى". للحظة اعتقدت أنه يقرأ من كتاب التاريخ العبري لا من ورقة في 2025. الرجل يتحدث عن مشروع يشمل غزة والضفة وعمّان وبيروت ودمشق والقاهرة ونصف العراق، وربما شمال السعودية إذا سمحوا له بالوقت الكافي. ثمة خلل واضح هنا: السياسي الذي يحكم بلداً بالكاد يسيطر على شارع في تل أبيب، يتخيل نفسه يرسم خريطة الشرق الأوسط بأكمله.
لا شك أن هذه التصريحات ليست إلا صدى لضغوط داخلية خانقة. نتنياهو غارق في قضايا فساد ومحاكمات تطارده، يواجه ما يسمى بفضيحة "التمويل القطري"، ويصارع احتجاجات في شوارع القدس وتل أبيب ضد إصلاحاته القضائية. بيد أن الرجل قرر أن أفضل وسيلة للهروب من الواقع أن يركب "بساط التوراة" ويطير به فوق عواصم العرب. يكفي أن يتحدث عن حلم أسطوري حتى تتحول الأزمات اليومية إلى "رسالة تاريخية".
إذا أردنا أن نحلل بدقة، فهو يستعمل هذه الخطب كمسكن لجمهوره اليميني. من الواضح أن هذه الجماعات المتطرفة لا تريد حلولا واقعية، تريد أن تسمع أن أرض إسرائيل تمتد من النيل إلى الفرات. دعونا نلاحظ أن كلما اشتدت محاكماته، ارتفعت حدة لغته. كما لا يخفى عليكم أن الإعلام الغربي جاهز للتزيين: عندما يقول نتنياهو إن بلاده تريد ابتلاع جيرانه، يصفونه بـ"الرجل الروحاني"، بينما إذا تحدث عربي عن أرضه المسلوبة نُعِت فورًا بالتطرف.
يكفي أن نقارن أحلامه بأحلام إمبراطوريات استعمارية قديمة مثل بريطانيا التي وعدت بانتدابات لم تملكها، أو فرنسا التي تقاسمت شمال أفريقيا وكأنها كعكة. من الواضح أن ما يقوله نتنياهو ليس جديدًا، بل نسخة رديئة من خرائط استعمارية دفنتها الشعوب تحت أقدام المقاومة. بيد أن الفرق أن بريطانيا وفرنسا كانتا قوتين عالميتين، بينما إسرائيل لا تزال تعيش على الأوكسجين الأمريكي.
من الطريف أن إسرائيل التي تعتمد على المساعدات الأميركية لتبقى واقفة، تتحدث اليوم عن "إسرائيل الكبرى". دولة لم تنجح حتى الآن في كسب قلوب جيرانها في القدس وغزة تريد أن تفتح فرعًا في بيروت ودمشق. أي منطق هذا؟ من الواضح أن تصريحات نتنياهو ليست إلا محاولة يائسة لحرف الأنظار عن واقعه: فساد، احتجاجات، تحالف هش، وشارع ينهار ثقةً فيه.
يكفي أن نعيد السؤال بصوت مرتفع: هل يعقل أن رجلاً مطاردًا بالمحاكم والفضائح يستطيع أن يرسم حدود الآخرين؟ ثمة شيء عبثي هنا. إذا أردنا الحقيقة، فإن نتنياهو خلع "قبعة السياسي" ليلبس "قبعة الحاخام"، يوزع الوعود "التوراتية" بدلاً من الحلول السياسية. وربما المضحك المبكي أن كل ما يحتاجه هذا الحلم لكي يتحقق ليس جيشًا ولا اقتصادًا، بل سرير طبيب نفسي وجرعة منومة إضافية. متى سنكف عن مناقشة هذه الأوهام وكأنها سياسة، وهي في حقيقتها مجرد أحلام يقظة لرجل خائف من السجن؟