أما قبل:
مقالي هذا عن نسبة كبيرة من المصريين في تويتر وليس كلهم.
أما بعد:
تويتر، الذي كان يُفترض به أن يكون منصّة للحوار وتبادل الأفكار، تحوّل إلى ساحة حرب كلاميّة بين السعوديّين والمصريّين، كاشفاً عن تراكمات ثقافيّة وتاريخيّة وأزمات هويّة أعمق بكثير من مجرّد الخلافات الآنيّة التي تُثار على المنصّة.
ذاك أنّ حقيقة التراشق التويتريّ ليست مجرّد نزاع عابر، بل هي كالمرآة التي تعكس تحوّلاً عميقاً في المشهد الثقافيّ العربيّ ومواقع القوى فيه. وهذا ما يستدعي تأمّلاً أكثر تأنّياً في أسباب هذه الظاهرة ومؤشّراتها.
أوّلاً، شهدنا تطوّراً لافتاً حين فتح تويتر باب الربح المادّيّ لصنّاع المحتوى، مما حفّز هجرة جماعيّة للمصريّين من فيسبوك إلى تويتر. هذه الهجرة لم تكن تعبيراً عن رغبة في التنوع الثقافيّ، بل كانت مدفوعة بحوافز اقتصاديّة محضة في ظلّ انهيار قيمة الجنيه المصريّ. فالدولارات القليلة التي يقدّمها تويتر لمنتجي المحتوى تبدو ثروة في ظلّ الأزمة الاقتصاديّة المصريّة المتفاقمة. وكأنّنا أمام قوارب هجرة افتراضيّة من ضفّة الفيسبوك المصريّة إلى جزيرة تويتر السعوديّة، حيث الدولار يلمع أكثر من نجوم الإعجاب الزرقاء.
ثانياً، إنّ المصريّين، الذين ألفوا الهيمنة العدديّة على فيسبوك، طوّروا ما يشبه "عقليّة الإمبراطوريّة الرقميّة المنقرضة". فقد بنوا في فيسبوك عالماً افتراضيّاً يحتكرون فيه صناعة المحتوى وقواعد الاشتباك وفق مزاجهم الثقافيّ. وإذ انتقلوا إلى تويتر، وجدوا أنفسهم أمام نُخب سعوديّة وخليجيّة متطوّرة ومنفتحة، تملك أدواتها الخاصّة وقواعدها المختلفة، مما جعل الاصطدام الثقافيّ حتميّاً. المصريّون دخلوا إلى مسرح تويتر وهم يحملون نصوصهم الخاصّة، ليكتشفوا أنّ الجمهور يتحدّث لغة أخرى والإضاءة موجّهة نحو ممثّلين آخرين.
ثالثاً، يمثّل ضعف التعليم في مصر وقلّة اطّلاع شرائح واسعة من المصريّين على الثقافات الأخرى سبباً رئيسياً في عمق الفجوة الثقافيّة مع السعوديّين والخليجيّين، الذين يتمتّعون بفرص أوسع بكثير للسفر والاحتكاك بثقافات العالم. كأنّنا أمام قبيلتين: إحداهما تعيش في واد معزول تتناقل حكايات وأساطير عن العالم الخارجيّ، والأخرى ترتاد الآفاق وتعود محمّلة بتجارب ومعارف حقيقيّة. وحين تلتقي القبيلتان على ضفاف تويتر، يصبح التفاهم عصيّاً والحوار مستحيلاً.
رابعاً، تحمل العقليّة المصريّة، كما تشكّلت في الحقبة الناصريّة، وهماً كبيراً عن مركزيّة مصر وتفوّقها الحضاريّ. فالخطاب الناصريّ جعل من مصر محور الكون، مما أسّس لاستعلاء ثقافيّ يثير الضخك في ظلّ الانحدار الاقتصاديّ والاجتماعيّ الذي تعيشه مصر منذ عقود. نحن هنا أمام مفارقة تاريخيّة تتجلّى في هذا التناقض الصارخ: فكلّما غاصت السفينة المصريّة في وحل الأزمات، ارتفعت أصوات ربّانها وهم يتغنّون بأمجاد البحّارة الغابرين.
خامساً، تختلف أساليب الجدل والحوار اختلافاً جذرياً بين الطرفين. فالنمط المصريّ غالباً ما يعتمد على الضجيج والردح والألفاظ البذيئة والشتائم المبتذلة التي يعتبرونها "فهلوه" و"شطاره" و "فتونه" و"جدعنه". في المقابل، يميل السعوديّون إلى أسلوب أكثر احتراماً وموضوعيّة في النقاش، مستفيدين من تطوّر منظومة التعليم وانفتاحهم على ثقافات العالم. إنّه كمعركة بين محاربين: أحدهما يعتمد على صخب الطبول وضجيج الأبواق ظنّاً منه أنّ المعركة تُحسم بالضوضاء، والآخر يتمسّك بقواعد المبارزة النبيلة وأخلاقيّاتها. والنتيجة هي حوار طرشان يُدار عبر منصّة رقميّة تفتقر إلى ترجمة فوريّة للثقافات.
سادساً، شهدت السعوديّة والخليج خلال العقود الأخيرة تطوّراً هائلاً على المستويات كافّة، بينما انزوت مصر في فقاعة ثقافيّة واقتصاديّة معزولة. فبعد أن كانت القاهرة مركز إشعاع ثقافيّ في ثلاثينات وأربعينيّات القرن الماضي، تراجعت بقوة لتنغلق على منتجات ثقافيّة مكرّرة في ماكينة صرف صحي ملوثة، فمن أم كلثوم وعبدالحليم إلى أحمد عدويه وروبي ومحمد رمضان وهلم جرا؛ في وقت كانت فيه المملكة العربيّة السعوديّة ودول الخليج تمضي بخطى متسارعة نحو بناء مجتمعات حديثة منفتحة. هنا يتكشّف أمامنا تبادل للأدوار يشبه مشهداً من مسرح العبث: فبينما يتقوقع وريث الحضارة الفرعونيّة في قبره متوهّماً أنّه لا يزال فرعوناً، يبني أبناء الصحراء مدناً ذكيّة ومراكز علميّة ويتصدّرون المشهد العالميّ.
سابعاً، تسود في الفضاء المصريّ ثقافة "نظريّة المؤامرة" التي تفسّر كلّ إخفاق بالتآمر الخارجيّ. هذه العقليّة، الغائبة في المجتمعات الخليجيّة الأكثر واقعيّة، توفّر للمصريّين تفسيراً سهلاً لكلّ الأزمات، ينزع المسؤوليّة عن الذات ويلقيها على الآخر. وما المؤامرة في هذا السياق إلا العكّاز الذي يتوكّأ عليه العاجز عن فهم سقوطه، والستار الذي يخفي خلفه عريه الفكريّ. المؤامرة هي الملاذ الأخير للعقول التي تنفر من مواجهة المرآة.
ثامناً، تعاني مصر من أزمة هويّة حادّة نتيجة تقلّبها بين إيديولوجيّات متناقضة على مدار العقود الماضية. وهذا التذبذب - بين الناصريّة والساداتيّة ومبارك والإخوان ثمّ العودة للحكم العسكريّ - أنتج حالة من الارتباك الثقافيّ الذي ينعكس في الخطاب المصريّ على منصّات التواصل. ومصر في هذا تشبه كائناً أسطوريّاً متعدّد الرؤوس: كلّ رأس له اتّجاه وذاكرة وحنين مختلف، والجسد يتمزّق بينها محاولاً التوفيق بين اتّجاهات متضاربة يستحيل جمعها في كيان واحد.
تاسعاً، يلعب التفاوت الاقتصاديّ دوراً محوريّاً في تشكيل هذه العلاقة المتوتّرة. فالفجوة الطبقيّة بين المجتمعات الخليجيّة المزدهرة والمجتمع المصريّ الذي يعاني أزمات معيشيّة متلاحقة تُنتج غيرة مكتومة وحقداً دفيناً يجد في تويتر متنفّساً له. لو كان تويتر شرفة مطلّة على الشارع العربيّ، لرأينا من خلالها مشهداً سريالياً: في جانب منه ينازع المصريّ ليجمع قروشاً للخبز وينتظر وصول القمح المستورد، وفي الجانب المقابل يبتكر الخليجي مشاريع رياديّة ويناقش مستقبل الاقتصاد الرقميّ.
عاشراً، تتجلّى الفروق اللغويّة والأسلوبيّة بوضوح في المنازلات التويتريّة، حيث نشهد تقابلاً بين نمطين: نمط مصريّ يميل إلى الصخب والألفاظ النابية والتشبيهات المبتذلة، ونمط سعوديّ وخليجيّ يميل إلى الرصانة والوضوح والاختصار.
الفضاء التويتريّ، بهذا المعنى، ليس مجرّد منصّة للتواصل الاجتماعيّ، بل هو كاشف حضاريّ يعري الفجوات الثقافيّة والاقتصاديّة ويبرز أزمات الهويّة. وكما لو أنّنا في الفضاء الافتراضيّ نشهد مشهداً مصغّراً لتحوّلات المنطقة العربيّة خلال العقود الأخيرة: تراجع المراكز الثقافيّة التي بناها المستعمر الغربي مقابل صعود قوى جديدة أكثر انفتاحاً و تطورًا وحداثة نابعة من صميم تراثها وأرضها وقيمها وتقاليدها. تويتر هنا ليس سوى المسرح الرقميّ الذي يعرض بدقّة صادمة تبدّل موازين القوى الثقافيّة في المنطقة.
والمفارقة الكبرى أنّ العرب، بدلاً من استثمار الفضاء الافتراضيّ لتجسير الفجوات وتبادل الخبرات، يكرّرون فيه ذات الصراعات والانقسامات التي تنهك العالم العربيّ. المصريّون يدخلون العالم الرقميّ حاملين معهم أمتعتهم الثقيلة من الماضي وأوهام العظمة، وكأنّهم لا يستطيعون السفر خفافاً حتّى في رحلتهم إلى الفضاء الافتراضيّ.
تبقى الحاجة ملحّة إلى وعي ثقافيّ جديد يتجاوز منطق الصدام، ويعترف بالتحوّلات العميقة التي شهدتها المنطقة، ويتخلّى عن أوهام الماضي لصالح بناء مستقبل مشترك. وهذا ما قد يتحقّق إذا استطاع المصريّون أن يتجاوزوا عقدة التفوّق المتوهّم، وأن يعيدوا اكتشاف العالم العربيّ الجديد بعيون منفتحة، بدلاً من الانكفاء على نرجسيّة ثقافيّة لم يعد لها ما يبرّرها في عالم اليوم؛ ولعلّ في تويتر – إذا أحسنوا توظيفه – فرصة للمصريّين لمراجعة صورتهم في مرآة الآخر، والتعلّم من تجارب النجاح في المنطقة، بدلاً من الاستمرار في إنكار تحوّلات العصر وتبدّل أدوار الفاعلين فيه.