من "الرايخ الثالث" إلى "إسرائيل الكبرى"… نتنياهو يبعث الفاشية في ثوب صهيوني، ويحلم بخرائط الدم من النيل إلى الفرات.
ثمّة في تصريحات نتنياهو الأخيرة ما يُشبه لحظة السُكر التي يفلت فيها اللسان من قيد العقل؛ تحدّث الرجل عن "رؤية إسرائيل الكبرى" من النيل إلى الفرات، وكأنّه نبي يتلقّى وحياً من السماء، أو مقامر خسر كل أوراقه فراح يراهن على أوهامه. والحال أنّ هذه “الرؤية” ليست سوى هذيان استعماري قديم، يُعاد تدويره كلّما احتاج نتنياهو لإلهاء جمهوره عن فشله أو لإرضاء ذئاب اليمين المتطرّف التي تقتات على الدم والأرض.
المفارقة أن هذا الإعلان يأتي بينما إسرائيل تواجه أعمق أزماتها منذ تأسيسها: مجتمع ممزّق، جيش يتخبّط في أنفاق غزة أمام مقاتلين محاصَرين، واقتصاد يتآكل بفعل حرب لا سقف زمنياً لها. فأي "إسرائيل كبرى" يهذي بها من لا يقدر حتى على ضبط "إسرائيل الصغرى" داخل حدودها الحالية؟
وهنا تتبدّى المفارقة التاريخية الأشد سخرية: العالم الذي أقسم أن لا يسمح بعودة هتلر، يراه يُبعث الآن في صورة يهودي يقود دولة نووية. نتنياهو، بملامحه الحادة وخطابه المشبع بعقيدة التوسع العرقي، يجسّد نسخة محدثة من النازية التي حوّلت أوروبا إلى مقبرة في القرن العشرين. الفرق الوحيد أن هتلر كان يحلم ببرلين تمتد شرقاً وغرباً، ونتنياهو يريد تل أبيب تبتلع الجهات الأربع. في الحالتين، الفكرة واحدة: الأرض ملك لمن يملك القوة، والشعوب الأخرى مجرد عقبة "دونية" في طريق القدر التاريخي
تاريخياً، كل مشروع توسعي يمر بثلاث مراحل: شرعنة الفكرة، اختبار رد الفعل، ثم فرض الواقع. تصريح نتنياهو هو المرحلة الأولى، ورد الفعل العربي –إن ظل في إطار الشجب– سيقوده إلى الثانية، وحينها يصبح التغيير على الأرض مسألة وقت لا أكثر.
الواقع على الأرض يكذّب أوهام "إسرائيل الكبرى": هجرة عكسية للإسرائيليين، هروب الشباب من الخدمة العسكرية، تحوّل المستوطنات الشمالية إلى مدن أشباح. دولة كهذه لا تتمدد؛ بل تتقلص، لكنها تحتاج للوهم التوسعي كي تؤجل ساعة مواجهة أزماتها الداخلية.
الأكيد، أن المنطقة محكومة بقانون حديدي: كلما زاد فشل الحاكم، اتسعت أحلامه الإمبراطورية. نتنياهو اليوم، كصدام بالأمس، يهرب من أزماته إلى خرائط وهمية، ويعيد إنتاج فاشية القرن الماضي بزي جديد وشعار مختلف. الضحية؟ شعوب لم تطلب سوى العيش بكرامة… فإلى متى يترك لها الجنون أن يرسم خرائطها؟